مجلة المقتبس/العدد 66/السراسرة أو الزرازرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 66/السراسرة أو الزرازرة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 8 - 1911



(1 - تمهيد) من أحسن ما يفيد اللغويين والكتاب والمعربين وأصحاب نادي دار العلوم تتبع الألفاظ الدخيلة في العربية ومعرفة الأصل الذي أخذت منه. فإن التنقيب عن هذا الأمر يكفينا مؤونة وضع بعض المصطلحات الجديدة مع وجودها عندنا. هذا فضلاً عن منع كثير من الألفاظ عن التسرب إلى لغة قريش الفصيحة وحبس مواد اللغة عن أن يعيث فيها عائث والذب عن حياضها ومناهلها الراقية وتخفيف حمل الحافظة لكثرة ما توقر في هذه الأيام بنشر الصحف المختلفة الموضوعات. وخفاً من أن تنوء بأثقالها فتبهض. ولهذا فأحسن واسطة تتخذ في هذا الباب أن يسعى إلى إقفاله بأقرب وقت وأخصر طريق يسعى في تحقيق أصول الألفاظ الدخيلة حتى تعاد إلى نصاب معانيها التي وضعت فيها ويحافظ على المعاني التي نقلت إليها في لغة العرب.

وقد اهتديت في أبحاثي إلى بعض هذه الحروف وتحقيق أصلها من ذلك كلمة سرسور.

(2 - حقيقة اللفظة نقلاً عن اللغويين) السراسرة جمع سرسور قال محيط المحيط: الزرزار (أو الزردار) (قلت: كذا بدال مهملة قبل الألف): البطرك (كذا. والأصح البطريق لأن العرب خصت لفظة بطرك أو بطريك أو بترك أو بتريك أو بطريرك بالرئيس الديني الذي هو فوق رئيس الأساقفة بخلاف البطريق فإنها قد وردت عندهم بمعنى البطرك وبمعنى كبير الشرفاء من الروم والرومانيين أي بكلا المعنيين) زرازرة (أو زرادرة). كلام المحيط وقال قزميرسكي: ; ' وقال فرريتاك: زرزارج زرزارة: ثم زاد في الاوقيانس: زروارج زروارةً. وفي التاج: الزرارزة البطارقة كبراء الروم وجمع زرزار بالكسر. وفي التكملة: الزراورة البطارقة. ولم يذكر الكلمة اللغوي الإنكليزي لين صاحب مد القاموس. وممن أغفل ذكرها صاحب الصحاح والمصباح وأساس البلاغة والنهاية ومختصرها. لا بل وصاحب لسان العرب أيضاً وهذا في منتهى العجب لأن الكتاب ضخم في عشرين مجلداً وقد حوى ألفاظاً دون الزرزار شأناً ومع ذلك فقد أهملها إلا أنه قال في مادة س ر ر: السرسور: الفطن العالم. وأنه لسرسور مال أي حافظ له. أبو عمرو: فلان سرسور مال وسوبان مال: إذ كان حسن القيام عليه عالماً بمصلحته. أبو حاتم: يقال فلان سرسوري وسرسورتي: أي حبيبي وخاصتي. ويقال: فلان سرسور هذا الأمر: إذا كان قائماً به.

ويقال للرجل: سرسر: إذا أمرته بمعالي الأمور. النص. ولم ينبه على أن السرسور هو تصحيف زرزار. ومن ثم فإنك لا ترى في لسان العرب أثراً لهذه الكلمة الأخيرة بالمعنى الذي أشار إليه اللغويون.

أما السرسور فقد ذكرها جميع اللغويين أصحاب المطولات قال في التاج: السرسور: بالضم. الفطن العالم الدخال في الأمور بحسن حيلة. . . وعن أبي حاتم: الحبيب. . . إلى آخر النص الذي ذكره صاحب اللسان. وقد نقل أصحاب دواوين اللغة كلام أبي حاتم فلا حاجة إلى إيراد جميع نصوصهم الآخذين عنه عبارته هذه بدون تغيير وقد ذكرناها. وأما صاحب محيط المحيط فقد غلط في قوله زرادرة بالدال بعد الألف وإنما هي بالواو وقال في التكملة: البطارقة الواحد زورار كما نقلناه فويق هذا.

ولم ينبه أحد من لغويي العرب إلى أنها من أصل أعجمي وأما الإفرنج فلا أعرف منهم إلا فرنكل إذ قال أنها من أصل فارسي أو آرامي قال: سفير: سيسار وفيها لغة وهي سرسور.

والعربي إذا رأى كلتا اللفظتين: الزرزار والسرسور لا يتوقف في أن يقول أنهما من أصل واحد وهو: الزور مكررة مع تصحيف فيكون معناها: رئيس الرئيس أي الرئيس الكبير. لأن الزور هو الرئيس وليس الأمر كذلك ولا سيما الزرزار لأنهم شرحوها بمعنى البطريق أو الكبير من الروم. فلا يمكن أن تكون الكلمة إلا رومية أي لاتينية وهي أي سنسور ثم صحفها العرب وتلاعبوا بلغاتها كما فعلوا بلغتهم فتولدت منها ألفاظ كثيرة مرجعها إلى واحدة. وقلبهم النون رآها هين مستغاض في كتبهم والشواهد فيه لا تعد ولا تحد حتى في الألفاظ العربية الفصيحة كما قالوا في ريح ساكرة: ريح ساكنة. وقالوا الزون والزور. والواو والوكن. والهبور والهبون (العنكبوت) وتأسر عليه وتأسن وما فيه حبربر ولا حبنبر. والمركوس والمنكوس. إلى غير هذه من الألفاظ وعليه قالوا في سنسور: سرسور. ومن العرب من كان يقلب السين زاياً منقوطة ويجعل الالف المفخمة أي الإفرنجة تارة ألفاً وطوراً واواً كما في صلاة وصلوة. وحياة وحيوة. فقالوا على هذا القياس زرزار.

ولعل الأصح أن اللفظة أول ما وردت في كلامهم جاءت مجموعة بصورة زنازرة أو زرزارة ثم توهموا مفردها زرزار حملاً لها على مادة عربية وكان السرسور أو السنسور من ولاة القضاء عند الروم وكان من وظيفته إحصاء أبناء الرعية الرومانية وتقدير أموالهم وتدبير بيت المال أو خزينة المملكة. ثم امتدت سطوتهم حتى بلغت شأواً بعيداً في النفوذ وشأواً خطيراً في السلطة حتى قلد الزرازرة نقابة أشراف الروم فصارت وظيفتهم كوظيفة نقيب الأشراف عند المسلمين في عهدنا هذا. بل وأوغلوا في السطوة حتى قلدوا أمر مراقبة الآداب وتنزيل الأشراف عن مناصبهم العليا وإبعاد شيوخ المجلس الأكبر عن مناصبهم بل وربما طردوهم من المجلس طرداً لا مرد لهم إليه.

وكانت هذه الوظيفة مقيدة بالبطارقة لا غير. ومن ذلك تعريف العرب للزرازرة بمعنى البطارقة. ثم أرخي عنان جوداها فقبض عليه صهواً كل من كان أهلاً للعلى وإن كان من السوقة.

على أن أصح وجه اللفظ هو السرسور كما جاءت في أغلب كتب الأئمة إلا أنها وردت عندهم بالمعنى الفرعي لا بالمعنى الأصلي أي إنها جاءت بالمعنى الثالث الذي انتقلت إليه في الرومية واشتهرت به في عهد صدر الإسلام لأنهم قالوا في تفسيرها: الفطن العام الدخال في الأمور.

وإن قيل لنا: إن سرسور هو تعريب سيرسور واصل معناه الشعبان فرحاً. (كتاب الألفاظ الفارسية المعربة تأليف السيد أدي شير ص 89). قلنا: لا يقول هذا الكلام إلا من أراد الهزء والسخرية بأهل العلم والتحقيق وإلا أي مناسبة بين هذين المعنيين. وكيف سمى الروم صاحب مقام من أهل المراتب العليا عندهم باسم فارسي. تلك أضحوكة من الأضحوكات المبكيات. هذا فضلاً عن أن العقل يأبى مثل هذا الوضع الغريب والتأويل البعيد العجيب ولا سيما أن جميع اللغويين متفقون على أن الزرازرة هم البطارقة أي علية أشراف الرومان. والسراسرة هم الفطنون العلماء الدخالون في الأمور كأن العرب جعلت لكل فرع من المعنى فرعاً من اللفظ تفنناً وتمييزاً لفظاً من لفظ وهم كثيراً ما يفعلون ذلك.

هذا وتأويل السرسور بالمعنى الذي عقده بناصيته أهل اللغة يوافق كل الموافقة للتآويل المختلفة التي جاءت بها لفظة تعني ما يأتي: (1) الذي ينتقد مسلك الناس وأعمالهم. (2) الذي ينتقد مؤلفات المصنفين وما وقع فيها من الأوهام والأغلاط. (3) أحد عمال الحكومة تقيمه على فحص الكتب والجرائد والمجلات وهو الذيس سماه كتاب هذا العهد بالمراقب. (4) وسرسور الدروس عندهم القيم بشؤونها وبحفظ قوانينها. (5) وسرسور المصرف (البنك) سرسور شركة تجارةٍ وقد فوض إليه تحقيق أعمال المدبرين والمقيمين بشؤونها. وهذا كله يصح فيه معنى السرسور على موجب ما أثبت معناه اللغويون أي الفطن العالم والحسن القيام على المال العالم بمصلحته.

هذا ما أردنا إيراده بخصوص اللفظة وأصلها ومعناها عند العرب سابقاً ومعناها عند الإفرنج في عهدنا هذا. وإمكان دخول مختلف معانيها في لغتنا إذ الجامعة بين شعبها موجودة عندنا أيضاً وهذا كله من منافع الوقوف على أصول الألفاظ والبحث عن انسلالها في لغتنا. بقي علينا أن نذكر ما يتعلق بهذه اللفظة في أمرها في التاريخ فنقول:

(3 - السرسور في التاريخ) كانت إقامة رتبة السرسور أو السنسور في الطبقة الأولى عند أمة الرومان. وكان ينتخب أصحابها انتخاباً إلى زمن محدود مضروب. وإذا قلدها واحدهم أصبحت سلطته توازي سلطة القنصل مع أن هذه السلطة هي ابنة تلك لا غير. وكان يقام السرسور في الأصل لتعداد النفوس كما يدل عليه اللفظ نفسه سنسور مركبة من سنس والأداة الدالة على الصاحبية والسنس هو تعداد النفوس ومن بعد ذلك امتدت سيطرته إلى إصلاح الأخلاق وتهذيب ضروب الجماعات وطبقاتها. ومن ثم كان يشارف السوقة والبطارقة حتى إذا أخذوا بشيء وجب عليهم أن يزكوا أنفسهم كلما اقتضت الحال أو دعاهم السرسور أن يتبينوا ما يعزى إليهم. ولم تكن وظيفة أو رتبة أو منصب من مقامات الدولة الرومية إلا وتخضع لسلطة السرسور أو الزرزار. ومما كان يكلف به السهر على كل ما يتعلق بالمصالح العامة كالجسور والأقنية والأبنية العامة والقناطر والمعابر إلى غيرها. وكانت هذه السطوة أو السلطة تعلو في الشعب الروماني بقدر ما كانت تنحط وتهوي في مجلس شيوخهم على أنهم لم تأخذ بالانحطاط إلا لما دب الفساد إلى الأمة كلها وسرى إلى الخاص منهم والعام سراً وجهراً حتى فشا في السراسرة أنفسهم ولقد كان للقب الزرزار من الشرف الرفيع ما حدا بقيصر وسائر الانبراطرة أن يتسموا به ويتخذوه لأنفسهم.

وأما في بلاد اليونان فإن الزرازرة لم يفوزا بما حظي به من النفوذ زملاؤهم الرومانيون فإن زرازرة أثينة واسبرطة لم يقلدوا ذلك اللقب إلا تقليداً أدبياً ليس إلا.

وقد بقي الزرزار حتى في عهد بعض جمهوريات إيطالية الأخيرة كجمهورية البندقية مثلاً ثم انقرض بانقراضها.

كان أول دخول هذا اللقب عند الرومانيين في نحو سنة 310 من تاريخ رومية أي سنة 444 قبل الميلاد. وكان قد لاحظ مجلس رومه الأعلى أن القناصل الذين كان من دأبهم الاشتغال بتسيير الوفود العسكرية كانوا يستطيعون أيضاً أن يحافظوا على أعمال الأفراد الخاصة فكان أول من ارتقى إلى هذه الدرجة العليا اثنان من البطارقة على ما رواه طيطس ليفيوس.

'

وكانت مدة مقامهم بادئ بدءٍ خمس سنوات ينتخبونهم في مجالسهم الكبرى يسمون هذه المجالس مجالس القوامسة أو مجلس الزرازرة فقد قال أحدهم وقو ق. اسكونيوس بدبانس يعاد انتخاب الزرازرة كل خمس سنوات وهذه عبارته اللاتينية. إلا أن هذه المدة الطويلة وسوست في صدر الذين تقلدوها ما بكدر خواطر القناصل ويقلقها فقصرها الدقططور مامرقس أميليوس فأنزلها إلى مدة 18 شهراً فامتعض من ذلك الزرازرة وانتقموا من صاحب هذا الإصلاح بمحو اسمه من قبيلته وتقييده بين عداد دافعي الخراج.

وكان من اللازم في بادئ الأمر لمن يريد الحصول على هذه المرتبة العليا أن يكون المترشح لها من أصل شريف. إلا أن هذا القيد لم يدم إلا مئة سنة ثم عدل لأن القناصل كانوا يؤخذون من سواد السوقة فساوَوا أولئك بهؤلاء. وأول من أخذ من ظهراني الشعب هوك. مرطيوس روتيليوس فانه علا وصار دِقططوراً ثم رقي فصار زرزاراً مع منليوس نفليوس ومع الزمان سنّ المدير الأعظم أو الدقططور ق. ب. فيلون سنة ومما جاء فيها أنه يجوز انتخاب السرسور من الرعية. والتاريخ يفيدنا أن ق. بمبيوس وق. متلس قلدا لازرزارية وهما من السوقة وذلك سنة 622 من تأسيس رومة. ولم يكن من الضروري قبل الحرب الفونية الثانية أن يكون المترشح ممن مارس أمراً من أمور القضاء الأكبر ليصبح أهلاً للزرزاربة بما أن طيطس ليفيوس بكر أن بيبلوس بيفينوس كراس لم يكن إلا أمير ابنية فانتخب زرزاراً وحبراً أعظم معاً. إلا أنهم بعد ذلك العهد لم يعودا يرقون إلى هذه الرتبة إلا من كان قنصلاً في السابق. ولم يكن لجوز لواحد أن يكون زرزاراً غير هـ، مرة واحدة في حياته إن كنت ممن وقف على ماء كتبه فاليرس مكسيمس تتذكر بأنه قال عن م. روتيليوس أنه من بعد أن أقيم زرزاراً للمرة الثانية وبخ الشعب توبيخاَ شديداً على قلة احترامه لسنة أجدادهم إذ رأوا أن من المناسب تقصير مدة هذا القضاء لأنهم تحققوا أن من بقي بيديه عنان هذه السلطة مدة مديدة يصبح قهاراً عسوفاً عضوضاً ومن ثم غدا انتخاب الزرزار للمرة الثانية مخالفاً لسنن السلف وقد قال بلينيوس الأصغر أن من يوسد الزرزاربة للمرة الثانية عليه أن يأباها حباً بالمنفعة العامة.

وكان سلاَّ أبطل الزرزاربة إلى وقت إلا أن أوغسطس قيصر أزالها بتاتاً. وكان القياصرة يزاولون بأنفسهم ما كان مترتباً على الزرازرة إلى عهدة اسبسيانس. وبعد وفاة هذا العاهل دُثر أثر هذا القضاء المطلق حتى لم يبق منه إلا الاسم. وحاول الإمبراطور دقيوس إعادته فلم يفلح. وممن اشتهر بالزرازية قاطو أو قاطون حتى غلب عليه لقب الزرزار وعرف به. وقد اعتمدنا فيما كتبناه على عدة أسفار لعدة كتاب من روم اولاتين وفرنسويين وإنكليز.

بغداد سلتسنا