مجلة المقتبس/العدد 62/لفتوى في الإسلام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 62/لفتوى في الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 4 - 1911


آداب المستفتي وصفته وأحكامه

الأول

المستفتي كل من لم يبلغ درجة المفتي فهو فيما يسأل عنه من الأحكام الشرعية مستفت بتقليد من نفسه.

والمختار في التقليد أنه قبول قول من يجوز عليه الإصرار على الخطاء بغير حجة على عين ما قبل قوله فيه.

ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثة يجب عليه علم حكمها.

فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وإن بعدت داره وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الأيام والليالي.

الثاني

يجب عليه قطعاً البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفاً بأهليته.

فلا يجوز لا استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والاقراء وغيرها من العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك.

ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلاً للفتوى وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إنما يعتمد قوله انا أهل للفتوى لا شهرته بذلك ولا يكتفي بالاستفاضة ولا بالتواتر لأن الاستفاضة والشهرة من العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس وأما التواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس: والصحيح هو الأول لأن إقدامه عليها إخبار منه بأهليته فإن الصورة مفروضة فيمن وثق بديانته ويجوز استفتاء من المشهور المذكور بأهليته.

قال الشيخ أبو اسحق الشيرازي رحمه الله وغيره: يقبل في أهليته خبر العدل الواحد قال أبو عمرو: ينبغي أن يشترط في المخبر أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميز به المتلبس من غيره فلا يعتمد في ذلك على آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك.

وإذا اجتمع اثنان أو أكثر ممن يجوز استفتاؤهم فهل يجب عليه الاجتهاد في أعيانهم والبحث عن الأعلم والأورع الأوثق ليقلده دون غيره فيه وجهان (أحدهما) لا يجب بل له استفتاء من شاء منهم لأن الجميع أهل وقد اسقطنا الاجتهاد عن العامي وهذا الوجه هو الصحيح عند أصحابنا العراقيين (والثاني) يجب لأنه يمكنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسؤال وشواهد الأحوال وهذا الوجه قول أبي العباس ابن سريج واختاره القفال المرزوي وهو الصحيح عند القاضي حسين والأول أظهر وهو الظاهر من حال الأولين.

قال أبو عمرو رحمه الله: لكن من اطلع على الأوثق فالأظهر أنه يلزمه تقليده كما يجب أرجح الدليلين وأوثق الروايتين، ثم هذا يلزمه تقليد الأورع من العالمين والأعلم من الورعين فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قلد الأعلم على الأصح.

وفي جواز تقليد الميت وجهان (الصحيح) جوازه لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها (والثاني) لا يجوز لفوات أهليته كالفاسق (قال النووي) وهذا ضعيف لا سيما في هذه الأعصار.

(الثالث)

هل يجوز للعامي أن يتخير أي مذهب شاء قال الشيخ ينظر أن كان منتسباً إلى مذهب بنيناه على وجهين حكاهما القاضي حسين في قول أن العامي هل له مذهب أم لا (أحدهما) لا مذهب له لأن المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما (والثاني) له مذهب فلا يجوز له مخالفته.

وإن لم يكن منتسباً بني على وجهين حكاهما ابن برهان في العامي هل يلزمه أن يتمذهب بمذهب مفت يأخذ برخصه وعزائمه أحدهما لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأول أن يختص بتقليده عالماً بعينه فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء أم يجب عليه البحث عن أسد المذاهب وأصحها أصلاً ليقلد أهله فيه وجهان مذكوران كالوجهين السابقين في البحث عن الأعلم والأوثق من المفتين والثاني يلزمه وبه قطع أبو الحسين الكيا وهو جار في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم.

الرابع

إذا اختلفت عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للأصحاب أحدها يأخذ بأغلظها والثاني بأخفها والثالث يجتهد في الأولى ويأخذ بفتوى الأعلم لا الأورع كما سبق واختاره السمعاني الكبير ونص الشافعي رضي الله عنه على مثله في القبلة والرابع يسأل مفتياً آخر فيأخذ بفتوى من وافقه والخامس يتخذ فيأخذ بفتوى أيهما شاء واختاره أبو اسحق الشيرازي وجماعة.

قال الشيخ أبو عمرو: المختاران عليه أن يبحث عن الأرجح فيعمل به فإنه حكم التعارض فيبحث عن الأوثق بين المفتيين فيعمل بفتواه:

وقال النووي: الذي اختاره الشيخ ليس بقوي بل الأظهر أحد الأوجه الثلاثة وهي الثالث والرابع والخامس والظاهر أن الخامس أظهرها لأنه ليس من الاجتهاد وإنما فرضه أن يقلد عالماً أهلاً لذلك وقد يفعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما والفرق بينه وبين ما نص عليه في القبلة أن أماراتها حسية فإدراك صوابها أقرب فيظهر التفاوت بين المجتهدين فيها والفتاوى أماراتها معنوية فلا يظهر كثير تفاوت بين المختلفين والله أعلم.

الخامس

قال الخطيب البغدادي: إذا لم يكن في الموضع الذي هو فيه مفت إلا واحد لزمه فتواه وقال أبو المظفر السمعاني: إذا سمع المستفتي جواب المفتي لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه قال ويجوز أن يقال أنه يلزمه إذا أخذ في العمل به وقيل بلزمه إذا وقع في نفسه صحته قال السمعاني وهذا أولى الأوجه قال الشيخ أبو عمرو: لم أجد هذا لغيره وقد حكى هو بعد ذلك عن بعض الأصوليين أنه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ويلزمه الأخذ بفتوى من اختاره باجتهاده.

قال الشيخ: والذي تقتضيه القواعد أن يفصل فيقال: إذا أفتاه المفتي نظر فإن لم يوجد مفت آخر يلزمه الأخذ بفتواه ولا يتوقف ذلك على التزامه لا في الأخذ بالعلم به ولا بغيره ولا يتوقف أيضاً على سكون نفسه إلى صحته وإن وجد مفت آخر فإن استبان أن الذي أفتاه هو الأعلم الأوثق لزمه بناء على الأصح في تعينه وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ما أفتاه بمجرد إفتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده ولا يعلم اتفاقهما في الفتوى فإن وجد الاتفاق أو حكم حاكم لزمه حينئذ.

السادس

إذا استفتى فأفتي ثم حدثت تلك الواقعة له مرة أخرى فهل يلزمه تجديد السؤال فيه وجهان أحدهما يلزمه لاحتمال تغير رأي المفتي والثاني يعمل به وهو الأصح لأنه قد عرف الحكم أولاً والأصل استمرار المفتي عليه وخصص صاحب الشامل الخلاف فيما إذا قلد حياً وقطع فيما إذا كان ذلك خبراً عن ميت فإنه لا يلزمه والصحيح أنه لا يختص فإن المفتي على مذهب الميت قد يتغير جوابه على مذهبه.

السابع

له أن يستفتي بنفسه وله أن يعبث ثقة يعتمد خبره ليستفتي له وله الاعتماد على خط المفتي إذا أخبره من يثق بقوله أنه خطه أو كان يعرف خطه ولم يشك في كون ذلك الجواب بخطه.

الثامن

ينبغي للمستفتي أن يتأدب مع المفتي ويجله وفي خطابه وجوابه ونحو ذلك ولا يومئ بيده في وجهه ولا يقل له ما تحفظ في كذا أو ما مذهب إمامك ولا يقل إن أجابه هكذا قلت لنا ولا يقل أفتاني فلان أو غيره بكذا ولا يقل إن كان جوابك موافقاً لمن كتب فاكتب وإلا فلا تكتب ولا يسأله وهو قائم أو مستوفز أو على حالة ضجر أو هم أو غير ذلك مما يشغل القلب.

وينبغي أن يبدأ بالاسن الأعلم م المفتين وبالأولى فالأولى إن أراد جمع الأجوبة في رقعة وإن أراد إفراد الأجوبة في رقاع بدأ بمن شاء وتكون رقعة الاستفتاء واسعة ليتمكن المفتي من استيفاء الجواب واضحاً لا مختصراً مضراً بالمستفتي ولا يدع الدعاء لمن يستفتيه قال الصيمري: فإن اقتصر على فتوى واحد قال ما تقول رحمك الله أو رضي عنك أو وفقك الله أو سددك ورضي عن والديك وإن أراد جواب جماعة قال ما تقولون رضي الله عنكم أو ما تقول الفقهاء سددهم الله تعالى ويرفع الرقعة إلى المفتي منشورة ويأخذها منشورة فلا يحوجه إلى نشرها ولا إلى طيها.

التاسع

ينبغي أن يكون كاتب الرقعة ممن يحسن السؤال ويضعه على الغرض مع إبانة الخط واللفظ وصيانتهما عما يتعرض للتصحيف قال الصيمري يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم وكان بعض الفقهاء ممن له رياسة لا يفتي إلا في رقعة كتبها رجل فقيه من أهل العلم ببلده.

وينبغي للعامي أن لا يطالب المفتي بالدليل ولا يقل لم قال النووي: فإن أحب أن تسكن نفسه لسماع الحجة طلبها في مجلس آخر أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة.

وقال السمعاني: لا يمنع من طلب الدليل وإنه يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعاً به ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعاً به لافتقاره إلى الاجتهاد ويقصر فهم العامي عنه.

(العاشر)

إذا لم يجد صاحب الرقعة مفتياً ولا أحداً ينقل له حكم واقعته لا في بلدة ولا في غيره قال الشيخ - ابن الصلاح - هذه مسألة فترة الشريعة الأصولية وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع والصحيح في كل ذلك القول بانتفاء التكليف عن العبد وأنه لا يثبت في حقه حكم لا إيجاب ولا تحريم ولا غير ذلك فلا يؤاخذ إذن صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها والله تعالى أعلم.

من أفتى بالحديث الصحيح مخالفاً لمذهبه

قال الإمام النووي: صح عن الشافعي رحمه الله أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فقولوا بسنة رسول الله ودعوا قولي: وروي عنه: إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث واتركوا قولي: أو قال: فهو مذهبي: وروى عنه هذا المعنى بألفاظ مختلفة.

وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب واشتراط التحليل من الإحرام بعذر المرض وغيرها مما هو معروف في كتب المذهب.

وقد حكى أبو اسحق الشيرازي في ذلك عن الأصحاب فيها ممن حكى أنه أفتى بالحديث من أصحابنا أبو يعقوب البويطي وأبو القاسم الدارلي، وممن نص عليه أبو الحسن الطبري في كتابه في أصول الفقه، وممن استعمله من أصحابنا المحدثين الإمام أبو بكر البيهقي وآخرون.

وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث: انتهى.

وفي شرح الهداية لابن الشحنة - من كبار الحنفية - فإذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفياً بالعمل به فقد صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة.

وقال الإمام السندي في حواشيه على فتح القدير - من كتب الحنفية - الحديث حجة في نفسه واحتمال النسخ لا يضر فإن من سمع الحديث الصحيح فعمل به وهو منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح لا يعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وفلان فإنما يقال له انظر هل هو منسوخ أم لا، إما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخه فالعامل به في غاية العذر فإن تطرق الاحتمال إلى خطاء المفتي أقوى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث، قال ابن عبد البر: يجب على كل من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه حتى يثبت عنده ما يخصصه أو ينسخه، وأيضاً فإن المنسوخ من السنة في غاية القلة حتى عده بعضهم أحداً وعشرين حديثاً، وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي بل يجب عليه مع احتمال خطاء المفتي كيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث إذا فهم معناه وإن احتمل النسخ، ولو كانت سنة رسول الله لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قولهم شرطاً في العمل بها وهذا من أبطل الباطل وقد أقام الله تعالى الحجة برسوله دون آحاد الأمة، ولا يعرض احتمال الخطاء لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعاف حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطؤه من صوابه ويجري عليه التناقض والاختلال ويقول القول ويرجع عنه ويحكى عنه في المسألة عدة أقوال، وهذا كله فيمن له نوع أهلية أما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا فلان يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله أولى بالجواز ولو قدر أنه لم يفهم الحديث فكما لو لم يفهم فتوى المفتي يسأل من يعرفها فكذلك الحديث انتهى كلام السندي مخلصاً وقد أطال من هذا النفس العالي رحمه الله ورضي عنه.

إيثار الفتوى بالآثار السلفية

قال ابن القيم في أعلام الموقعين: اعلم أن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين وفتاوى التابعين أولى من فتاوى من بعدهم، وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب فيه أغلب، وهذا الحكم بحسب الجنس لا بحسب كل فرد فرد من المسائل فإن عصر التابعين وإن كان أفضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص ولكن المفضلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم: وتتمة كلامه درر لا يستغنى عن مراجعتها.

عناية المفتي بتعليل الأحكام وبيان أسرارها

قال الغزالي في المستصفى: إن في معرفة باعث الشرع ومصلحة الحكم استمالة للقلوب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع والمسارعة إلى التصديق فإن النفوس إلى قبول الأحكام المعقولة الجارية على ذوق المصالح أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد ولمثل هذا الغرض استحب الوعظ وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها وكون المصلحة مطابقة للنص وعلى قدر حذقه يزيدها حسناً وتأكيدا ومن أحسن المؤلفات في أسرار الشريعة أعلام الموقعين وحجة الله البالغة.

حظر الفتوى بنسخ نص إلا بنص

قال الإمام أبو محمد بن حزم في مقدمة المحلى: ولا يحل لأحد أن يقول في آية أو في خبر عن رسول الله ثابت هذا منسوخ وهذا مخصوص في بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه ولا أن لهذا النص تأويلاً غير مقتضى ظاهر لفظه ولا أن هذا الحكم غير واجب علينا من حين وروده إلا بنص آخر وارد بأن هذا النص كما ذكر أو بإجماع متيقن بأنه كما ذكر بضرورة حس موجبة أنه كما ذكر وإلا فهو كاذب انتهى.

وقال العلامة أبو النصر القزاني القورصاوي في كتابه الإرشاد: إن الاعتصام بالكتاب والسنة أصل أصيل من أصول الدين والناس رفضوا هذا القطب حتى حسبوا أن الحديث الموجب للعمل مفقود، وأن السبيل دون الوصول إليه مسدود، ولما كانت هذه بدعة عم في الدين ضررها، واستطار في الخلق شررها، وجب كشف الغطاء (إلى أن قال) فيقال لهؤلاء المخترعين هذا القول الذي وصفناه هل تجدون هذا الذي قلتم عن أحد يلزم قوله وإلا فهلموا دليلاً على ما زعمتم.

فإن ادعوا قول أحد من علماء السلف بما زعموا من كون الأخبار الثابتة بنقل الثقات حجة على المجتهدين لا على غيرهم طولبوا به، ولن يجدوا هم ولا غيرهم إلى إيجادهم سبيلاً.

وإن ادعوا فيما زعموا دليلاً يحتج به يقال ما ذلك الدليل، فإن قالوا إن الحديث يحتمل الوضع يقال ليس الذي يقوم حجة خبر كل من نصب نفسه محدثاً بلا ما رواه وأسنده الأئمة المتقنون المعروفون بالصدق والأمانة والثقات الراسخون في العلم عن قوم مرضيين عندهم وصححوه مثل مالك بن أنس ومسلم بن الحجاج ومحمد بن اسماعيل البخاري ومحمد بن ادريس الشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد بن عيسى الترمذي وسليمان بن أشعث السجستاني وغيرهم من الأئمة المعروفين، وكتبهم بأسانيدهم بين العلماء معتمدة مشهورة حتى قالوا إن الحديث إذا نسب إليهم فكأنه أسند إلى النبي لأنهم قد فرغوا من الإسناد وأغنونا عنه، ومن ثم لزم الأخذ بنص أحدهم على صحة السند أو الحديث أو ضعفه فكما أن المجتهد يعتمد على ثبوت الخبر على الإسناد من جهة الثقات فكذلك غيره، وكما أن خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجة يلزم به العمل على المجتهد وهو محجوج به فكذلك غيره، وكما يجب علينا الاتقاء من حديث لا يعرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه فكذلك على المجتهد.

وأيضاً إن الخبر يقين بأصله لأنه من حيث أنه قول الرسول عليه السلام لا يحتمل الخطأ وإنما الشبهة باعتبار النقل حيث يحتمل السهو والنسيان، وقول الفقيه يحتمل الخطأ بأصله إذ هو يجتهد فيخطئ ويصيب وإما باعتبار نقله فأكثره خال عن السند أصلاً فكما أن وضع الخبر محتمل وصحة الإسناد يدفعه فكذلك وضع الرواية محتمل ولا إسناد حتى يدفعه.

والصحابة رضي الله عنهم كانوا متفقين على ترك الرأي بالسنة وهو حجة شرعية فكيف لا يترك التقليد بها وهو ليس بحجة أصلاً.

فالواجب على من بلغه الحديث أن يعمل به هذا في فقهاء الصحابة رضي الله عنهم فكيف فيمن دونهم وقد صح عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: إذا صح الحديث عن النبي فاتركوا قولي فإنه مذهبي: وقال علي بن محمد القاري: وهذا مذهب كل مسلم.

وأما قولهم: الحديث يحتمل النسخ والتأويل: قلنا إذا ظهر ناسخه فلا نزاع في سقوط العمل به وإن لم يظهر فلا يترك العمل بالدليل الثابت لاحتمال النسخ بل يعمل به حتى يظهر ناسخه، ولو صار الدليل متروكاً بكل احتمال لم يبق دليل معمولاً به إلا ترى إلى ما نقله أصحاب الأصول عن أبي حنيفة ومحمد وحسن بن زياد رضي الله عنهم أن الحديث وإن كان منسوخاً لا يكون أدنى درجة من الفتوى ما لم يبلغه النسخ، وأيضاً قد شاع عن الفقهاء الرجوع عن قول إلى قول فهذا القول الذي يخالف الخبر الصحيح يجوز أن يكون قولاً مرجوعاً عنه فيكون كلا قول فكيف يترك الحديث الثابت بإسناده لاحتمال النسخ ولا تترك الرواية الخالية عن السند لاحتمال رجوع قائلها بل الظاهر أنه لم يبلغه الحديث ولو بلغه لرجع إليه أو كان ذلك المروي مذهبه فبلغه الحديث وترك مذهبه بالحديث ورجع إليه إحساناً للظن به فإنه إن خالف الحديث لقلة المبالاة والتهاون به سقطت عدالته فلا تقبل روايته وفتواه.

وكذلك قولهم: يترك النص لاحتمال كونه مؤولاً: قلنا احتمال التأويل إما أن يكون ناشئاً عن قرينة أو خفاءٍ فيه كما إذا كان مشتركاً أو مشكلاً أو مجملاً مثلاً أولا فإن كان الثاني فلا عبرة للاحتمال أصلاً إذ المراد من الكلام ظاهره عند خلوه عن قرينة تصرفه عنه والعقلاء لا يستعملون الكلام في خلاف الأصل عند عدم القرينة وإلا لبطل فائدة التخاطب، والفرار عن ظل جدار غير مائل لتوهم السقوط ينسب إلى السفه ولا كذلك إذا كان مائلاً، وإن كان الأول فإن قدر على ترجيح أحد المعاني المحتملة بالرأي فيعمل بما ترجح عنده وإن لم يقدر على الترجيح وكان جواب المسألة مما اشتهر وظهر وانجلى عن أصحابنا أرجو أن يسع الاعتماد عليه والعمل به إن شاء الله تعالى، ألا ترى إلى قول العلماء أن التمسك في الأصول بالكتاب والسنة وإجماع الأمة مع المجانبة عن الهوى والبدعة وفي الفروع بالمجمع عليه ثم بالأحوط ثم بالأوثق دليلاً ثم يقول من ظن أنه أعلم وأورع.

وأيضاً كما أن التأويل محتمل في الحديث كذلك يحتمل في فتوى الفقيه فإن جاز فهم المراد من الفتوى لظهوره جاز فهم المراد من الحديث أيضاً لظهوره، وليس الفقيه بأقدر على الفهم من النبي ، فهذا القول الذي أحدثوه وحكيناه عنهم من لزوم الأعراض عن سنن النبي وأحاديثه بالشبه التي وصفناها أحقر وأصغر من أن ينقل ويثار ذكره إذ هو قول محدث وكلام خلف يستنكره أهل العلم وحججهم داحضة عند العقلاء، وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم فلا حاجة في رده بأكثر مما شرحنا إذ قدر المقالة وقائليها القدر الذي وصفناه والله المستعان على دفع ما خالف السنة ومذهب أهل السنة وعليه التكلان انتهى كلامه بحروفه.

وجوب تحري المفتي من الأقوال أرجحها

إن مما يدعو للنظر والتروي في الفتيا كثرة المذاهب والأقوال في المسألة فليس مذهب أحق من مذهب ولا قول أرجح من آخر إلا بالدليل والبرهان الذي يدعمه ويؤيدة ويبينه أجلى بيان.

وقد اتفق الأصوليون كافة على وجوب اتباع المفتي الأقوى دليلاً والأقوم برهاناً من أي مذهب كان قال الإمام النووي في مقدمة شرح المهذب: ليس للمفتي ولا للعامل في مسألة القولين أن يعمل بما شاء منها بغير نظر بل عليه العمل بأرجحهما.

وقال العلامة أبو النصر القزاني الحنفي في كتابه الإرشاد: وليس للمفتي الفتوى بأحد القولين أو الوجهين من غير نظر بل عليه العمل بالأرجح والجمهور من المحققين قالوا: إن العمل والفتوى بالمجمع عليه ثم بالأحوط ثم بالأوثق دليلاً ثم يقول من ظنه أعلم وأورع ولذلك ترى المنتسبين إلى مذهب يفتون بخلاف قول إمامهم كالحنفية يقلدون أبا حنيفة فيما لم يظهر على خلاف قوله دليل أقوى من دليله وإذا ظهر الدليل الراجح على دليله يفتون ويعملون على خلاف قوله ويقولون الفتوى على قول أبي يوسف أو على قول محمد أو على قول زفر مثلاً وينقلون قول أبي حنيفة رضي الله عنه في ظاهر الرواية على خلافه وكذلك أبو يوسف أو محمد مثلاً ممن ينتسبون لمذهب أبي حنيفة فإنهم يقلدونه فيما لا دليل عندهم وإذا قام الدليل على خلافه يفتون بغير قوله لأن الواجب متابعة الدليل الراجح عند قيامه والتقليد إنما يصار إليه عند الضرورة مقدرة بقدرها انتهى.

وقال الإمام ابن هبيرة في الإيضاح: إذا خرج من خلاف الأئمة المجتهدين متوخياً مواطن الاتفاق ما أمكنه كان آخذاً بالحزم عاملاً بالأولى وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف توخي ما عليه الأكثر منهم والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد فإنه يأخذ بالحزم مع جواز عمله بقول الواحد إلا أنني أكره له أن يكون مقتصراً في حكمه على أتباع مذهب أبيه أو شيخه مثلاً فإذا حضر عنده خصمان وكان ما تشاجرا فيه مما يفتي الأئمة الثلاثة يحكمه نحو التوكيل بغير رضا الخصم وكان الحاكم حنفياً وعلم أن مالكاً والشافعي وأحمد اتفقوا على جواز هذا التوكيل وإن أبا حنيفة يمنعه فعدل عما اجتمع عليه هؤلاء الأئمة الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة بمفرده من غير أن يثبت عنده بالدليل ما قاله ولا أداه إليه اجتهاده فإني أخاف عليه من الله عز وجل أن يكون اتبع في ذلك هواه ولم يكن من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه (وكذلك) إن كان القاضي مالكياً واختصم إليه اثنان في سؤر الكلب فقضى بطهارة مع علمه بأن الفقهاء كلهم قد قضوا بنجاسته (وكذلك) إن كان القاضي شافعياً واختصم إليه اثنان في متروك التسمية عمداً فقال أحدهما هذا منعني من بيع شاة مذكاة وقال آخر إنما منعته من بيع الميتة فقضي عليه بمذهبه وهو يعلم أن الأئمة الثلاثة على خلافه (وكذلك) إن كان القاضي حنبلياً فاختصم إليه اثنان فقال أحدهما لي عليه مال فقال الآخر كان له علي مال ولكن قضيته فقضى عليه بالبراءة مع علمه بأن الأئمة الثلاثة على خلافه، فهذا وأمثاله مما أرجو أن يكون أقرب إلى الخلاص وأرجح في العمل.

وقال الإمام ابن عبد البر في جامع العلم: الواجب عند اختلاف العلماء طلب الدليل من الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول على الصواب منها وذلك لا يعدم فإن استوت الأدلة وجب الميل مع الأشبه بما ذكرنا بالكتاب والسنة فإذا لم يبن وجب التوقف ولم يجز القطع إلا بيقين فإن اضطر أحد إلى استعمال شيء من ذلك في خاصة نفسه جاز له ما يجوز للعامة من التقليد واستعمل عند إفراط التشابه والتشاكل وقيام الأدلة على كل قول بما يعضده قوله البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في الصدر فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك: هذا حال من لا يمعن النظر وهو حال العامة التي يجوز لها التقليد فيما نزل بها وأفتاها بذلك علماؤها.

وأما المفتون فغير جائز عند أحد ممن ذكرنا قوله لا أن يفتي ولا يقضي حتى يتبين له وجه ما يفتي به من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو ما كان في معنى هذه الأوجه انتهى وهو خلاصة الخلاصة ولباب اللباب وما ألطف قول الماوردي: يلزم الاجتهاد في كل حكم طريقه الاجتهاد انتهى والمجتهد فيه قال الغزالي هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي وقد ذكر الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين أن من أفتى بقول يعلم أن غيره أرجح منه أنه خائن لله ورسوله وللإسلام إذ الدين النصيحة (قال رحمه الله) وكثيراً ما ترد المسألة تعتقد فيها خلاف المذهب ولا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب ثم نحكي المذهب الراجح ونقول هذا هو الصواب وهو الأولى أن يؤخذ به.

وههنا لا بد من التنبيه على أنه ليس كل ما يقال عنه ضعيف هو ضعيف حقيقة فقد سرى التقليد في كل شيء حتى في التضعيف وليس القول الضعيف ما ضعفه فقيه برأيه لتوهم مخالفة قاعدة عنده أو قياس أو نظير كلا أن الضعيف ما خالف دليلاً صحيحاً من نص أو قياس قويم وكم من قول مضعف هو صحيح برهاناً ونظراً وأوفق للمصلحة ولحكمة الشارع ويرحم الله القائل:

وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم

فعلى المفتي أن يمحص الأقوال ولا يغتر بمجرد التضعيف بل يجري وراء الأسد برهاناً الأصلح عمراناً وقد قال تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر

الحذر من الفتاوى في تحسين البدع ووجوب الرجوع إلى مآخذها

قال الإمام ابن الحاج المالكي رحمه الله في كتابه المدخل: وليحذر أن يغتر العالم أو يميل إلى بدعة لدليل قام عنده على إباحتها من أجل استئناس النفوس بالعوائد أو بفتوى مفت قد وهم أو نسي أو جرى عليه من الأعذار ما يجري على البشر وهو كثير بل إذا نقل إباحة شيءٍ من هذه الأمور عن أحد من العلماء فينبغي للعالم بل يجب عليه أن ينظر إلى مأخذ العالم المسألة وجوازه إياها من أين اخترعها وكيفية إجازته لها لأن هذا الدين والحمدلله محفوظ فلا يمكن أن أحداً يقول فيه قولاً بغير دليل ولوفعل ذلك لم يقبل منه وهو مردود عليه وتتمته نفيسة فليرجع إليه.

وقال الإمام محمد البلاطنسي في خلال فتوى له: إن الواجب على الشخص أن يلزم طريق السنة ويجتنب سلوك البدعة ولا يغتر بكثرة الفاعلين لها ولا يكون العامل بها والمواظب عليها عالماً أو مرموقاً بعين الصلاح.

وقال الإمام أبو شامة الدمشقي: وأكثر ما يؤتى الناس في البدع بهذا السبب يكون الرجل مرموقاً بالأعين فيتبعون أقواله وأفعاله فتفسد أمورهم مع تمادي العهد ونسيان أول هذا الأمر كيف كان وقال شيخنا البلاطنسي رحمه الله: إن أهل الزمان إنما أتوا من قبل أنهم يفتون في كل ما يسألون عنه ولا يدرون أصابوها أم أخطؤها والمناكر الفظيعة لا ينتبهون لها ولا ينكرونها سئل الإمام مالك رضي الله عنه عن ثماني وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري فالله المستعان على هؤلاء الذين شهواتهم غالبة على ديانتهم ويفتون بما ينقدح في أذهانهم ولا يقصرون أنفسهم عما لا يعرفونه وأكثرهم ينطبق عليه الحديث الذي في الصحيح من قوله : إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.

(قال الإمام أبو بكر الطرطوشي) فتدبروا هذا الحديث فإنه يدل على أنه لا يؤتى الناس من قبل علمائهم فقط وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فيؤتى الناس من قبله.

قال وقد صرف عمر رضي الله عنه هذا المعنى تصريفاً فقال: ما خان أمين قط ولكنه اؤتمن غير أمين فخان (قال) ونحن نقول ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتي من ليس بعالم فضل وأضل انتهى.

استفتاء القلب

روى الإمام أحمد والدارمي في مسنديهما عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال أتيت رسول الله فقال جئت تسأل عن البر قلت نعم قال: استفت قلبك البر ما اطمأنت عليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك يشير إلى التورع عما هو حلال في الفتوى بحسب ظاهر الحال ولكنه يجد حزازة في قلبه فكل من وجد حزازة وأقدم مع ما يجده في قلبه فذلك يضره لأنه مأخوذ في حق نفسه بينه وبين الله تعالى بفتوى قلبه وتفصيل ذلك في كتاب الحلال والحرام من إحياء علوم الدين.

تغير الفتوى بتغير الأحوال والرد إلى المصالح

عقد الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين فصلا لتغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعادات وقال هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف مالا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة فبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها وصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة في شيءٍ وإن أدخلت فيها بالتأويل الخ والبحث جدير بالمراجعة وللإمام نجم الدين الطوفي مبحث واف في المصالح المرسلة لا يستغني عن مراجعته مفت ولا حاكم.

بحث قولهم في الفتوى هذا حكم الله أو فما حكم الله في كذا

المستفتي إما أن يسأل عن حكم منصوص عليه أو مجتهد فيه ففي الأول لا خلاف في جواز قوله: فما حكم الله: وقول مفتيه هذا حكم الله: لأن حكم الله كما قال الغزالي في المستصفى خطاب مسموع أو مدلول عليه بدليل قاطع وفي الثاني أعني المجتهد فيه أن على رأي الجمهور إن لله فيه حكماً معيناً يتوجه إليه الطلب وقد يصيبه المجتهد وقد يخطئه فلا يسوغ أن يقال فما حكم الله ولا هذا حكم الله لأنه مغيب وهو مثل دفين يعثر عليه المجتهد بالاتفاق فلمن عثر عليه أجران ولمن أخطأه أجر واحد لأجل سعيه وطلبه وإن قلنا على رأي غيرهم أنه ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين بل الحكم يتبع الظن والفرض على كل مجتهد ما غلب على ظنه فله أن يقول ما حكم الله بمعنى ما شرعه وأذن فيه وذلك هو ما غلب على ظن المجتهد.

وقد لخص هذه المسألة العلامة العضد في شرح مختصر المنتهى بقوله المسألة إما لا قاطع فيها من نص أو إجماع أو فيها قاطع أما التي لا قاطع فيها فقد اختلف فيها فقال القاضي - أبو بكر الباقلاني - والجبائي كل مجتهد مصيب بمعنى أنه لا حكم معيناً لله فيها وحكم الله فيها تابع لظن المجتهد فما ظنه فيها كل مجتهد فهو حكم الله فيها في حقه وحق مقلده وقد قيل لله فيها حكم والمصيب واحد وهو ما للجمهور.

وقد استدل للجمهور بحديث بريدة قال كان رسول الله إذا أمر أميراً على جيش أوسرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال له وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا قال المحد ابن تيمية وهو حجة في أن ليس كل مجتهد مصيباً بل الحق عند الله واحد.

وكذلك بحديث إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وأن أخطأ فله أجر فدل أن فيه خطأ وصواباً.

وقد أجيب عن الحديث الأول بما حكاه العلامة الشوكاني في نيل الأوطار قال وقد قيل أن هذا الحديث لا ينتهض للاستدلال به على أن ليس كل مجتهد مصيباً لأن ذلك كان في زمن النبي والأحكام الشرعية إذ ذاك لا تزال تنزل وينسخ بعضها بعضاً ويخصص بعضها ببعض فلا يؤمن أن ينزل على النبي حكم خلاف الحكم الذي قد عرفه الناس:

وأجاب الإمام الغزالي في المستصفى عن الحديث الثاني بقوله والجواب من وجهين الأول أن هذا هو القاطع على أن كل واحد مصيب إذ له أجر وإلا فالمخطئ الحاكم بغير حكم الله تعالى كيف يستحق الأجر (الثاني) هو أنا لا ننكر إطلاق اسم الخطأ على سبيل الإضافة إلى مطلوبه لا إلى ما وجب عليه فإن الحاكم يطلب رد المال إلى مستحقه وقد يخطئ ذلك فيكون مخطئاً فيما طلبه مصيباً فيما هو حكم الله تعالى عليه وهو اتباع ما غلب على ظنه من صدق الشهود وكذلك كل من اجتهد في القبلة يقال أخطأ أي أخطأ ما طلبه ولم يجب عليه الوصول إلى مطلوبه بل الواجب استقبال جهة يظن أن مطلوبه فيها (ثم قال) فإن قيل ولم كان للمصيب أجران وهما في التكليف وأداء ما كلفا سواء قلنا لقضاء الله تعالى وقدره وإرادته فإنه لو جعل للمخطئ أجرين لكان له ذلك وله أن يضاعف الأجر على أخف العملين لأن ذلك منه تفضل ثم السبب فيه أنه أدى ما كلف وحكم بالنص إذ بلغه والآخر حرم الحكم بالنص إذ لم يبلغه ولم يكلف إصابته لعجزه ففاته فضل التكليف والامتثال.

والبحث جدير بالعناية وقد جوده حجة الإسلام الغزالي في المستصفى فارجع إليه

الحذر من رد النص بالتأويل

قال الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد من أئمة الشافعية: إن الفقه في الدين منزلة لا يخفى شرفها وعلاها ولا تحتجب عن العقول طوالعها وأضواها وأرفعها بعد فهم كتاب الله المنزل البحث عن معاني حديث نبيه المرسل إذ بذاك تثبت القواعد ويستقر الأساس وعنه يقوم الإجماع ويصدر القياس لكن شرط ذلك عندنا أن يحفظ هذا النظام ويجعل الرأي هو المأموم والنص هو الإمام وترد المذاهب إليه وترد الآراء المنتشرة حتى تقف بين يديه.

وأما أن يجعل الفرع أصلاً ويرد النص إليه بالتكلف والتحيل ويحمل على أبعد المحامل بلطافة الوهم وسعة التخيل ويرتكب في تقرير الآراء الصعب والذلول ويحتمل من التأويلات ما تنفر منه النفوس وتستنكره العقول فذلك عندنا من أردء مذهب وأسوء طريقة ولا نعتقد أنه يحصل معه النصيحة للدين على الحقيقة وكيف يقع أمر مع رجحان منافيه وأنى يصح الوزن بميزان مال أحد الجانبين فيه ومتى ينصف حاكم ملكته غضبة العصبية وأين يقع الحق من خاطر أخذته العزة بالحمية إلخ.

الفتوى في أمر لم يقع

قال الإمام أبو شامة رحمه الله في كتابه (المؤمل في الرد إلى الأمر الأول) ما مثاله: كان الصحابة إذا نزلت بهم النازلة بحثوا عن حكم الله تعالى فيها من كتاب الله وسنة نبيه وكانوا يتدافعون الفتوى ويود كل منهم لو كفاه إياه غيره وكان جماعة منهم يكرهون الكلام في مسألة لم تقع ويقولون للسائل عنها: أكان ذلك: فإن قال لا قالوا: دعه حتى يقع ثم نجتهد فيه: كل ذلك يفعلونه خوفاً من الهجوم على ما لا علم لهم به واشتغالاً بما هو الأهم فإذا وقعت الواقعة لم يكن بد من النظر فيها.

قال الحافظ البيهقي: وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن ولم يمض به كتاب ولا سنة وكرهوا للمسؤول الاجتهاد فيه قبل أن يقع لأن الاجتهاد إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة قبل الواقعة وقد يتغير اجتهاده عند الواقعة فلا يغنيهم ما مضى من الاجتهاد واحتج في ذلك بما روي عن النبي : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه: انتهى.

المواضع التي يجب فيها على المفتي المناظرة أو يستحب وشرح

فوائدها

قال حجة الإسلام الغزالي في المستصفى: المحصلون يعتقدون وجوب المناظرة لغرضين واستحبابها لسنة أغراض.

(أما الوجوب) ففي موضعين (أحدهما) أنه يجوز أن يكون في المسألة دليل قاطع من نص أو ما في معنى النص أو دليل عقلي قاطع فيما يتنازع فيه في تحقيق مناط الحكم ولو عثر عليه لامتنع الظن والاجتهاد فعليه المباحثة والمناظرة حتى ينكشف انتفاء القاطع الذي يأثم ويعصى - المجتهد - بالغفلة عنه (الثاني) أن يتعارض عنده دليلان ويعسر عليه الترجيح فيستعين بالمباحثة على طلب الترجيح فإنا وإن قلنا على رأي أنه يتخير فإنما يتخير إذا حصل اليأس عن طلب الترجيح وإنما يحصل اليأس بكثرة المباحثة.

(وأما الندب) ففي مواضع (الأول) أن يعتقد فيه أنه معاند فيما يقوله غير معتقد له وأنه إنما يخالف حسداً أوعناداً أو نكراً فيناظر ليزيل عنهم معصية سوء الظن ويبين أنه يقوله عن اعتقاد واجتهاد (الثاني) أن ينسب إلى الخطاء وأنه قد خالف دليلاً قاطعاً فيعلم جهلهم فيناظر ليزيل عنهم الجهل كما أزال في الأول معصية التهمة (الثالث) أن ينبه الخصم على طريقه في الاجتهاد حتى إذا فسد ما عنده لم يتوقف ولم يتخير وكان طريقه عند عتيداً يرجع إليه إذا فسد ما عنده وتغير فيه ظنه (الرابع) أن يعتقد أن مذهبه أثقل وأشد وهو لذلك أفضل وأجزل ثواباً فيسعى في استجرار الخصم من الفاضل إلى الأفضل ومن الحق إلى الأحق (الخامس) أنه يفيد المستمعين معرفة طرق الاجتهاد ويذلل لهم مسلكه ويحرك دواعيهم إلى نيل رتبة الاجتهاد ويهديهم إلى طريقه فيكون كالمعاونة على الطاعات والترغيب في القربات (السادس) وهو الأهم أن يستفيد هو وخصمه تذليل طرق النظر في الدليل حتى يترقى من الظنيات إلى ما الحق فيه واحد من الأصول فيحصل بالمناظرة نوع من الارتياض وتشحيذ الخاطر وتقوية المنة في طلب الحقائق ليترقى به إلى نظر هو فرض عينه إن لم يكن في البلد من يقوم به أو كان قد وقع الشك في أصل من الأصول أو إلى ما هو فرض على الكفاية إذ لا بد في كل بلد من عالم مليء بكشف معضلات أصول الدين وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب متعين إن لم يكن إليه طريق سواه وإن كان إليه طريق سواه فيكون هو إحدى خصال الواجب فهذا في بعض الصور يلتحق بالمناظرة الواجبة.

فهذه فوائد مناظرات المحصلين وهو من أحسن ما كتب فيها وبه يعلم أن الدخول في المناظرة إنما هو للمجتهد وقد صرح به حجة الإسلام عليه الرحمة أيضاً في بحث آداب المناظرة من كتاب العلم في الأحياء وأما المقلد فقد قال عليه الرحمة في كتابه فيصل التفرقة: إن شرط المقلد أن يسكت ويسكت عنه: في كلام بديع ينبغي مراجعته وما ألطف قول ابن سهل: فما أضيع البرهان عند المقلد والله أعلم.

نموذج من فتاوى القرن السابع وتوقيع عدة مفتين على فتوى واحدة

(واقعة)

قرية موقوفة على شخصين على سبيل الإشاعة الوقف الصحيح الشرعي فوضع شخص يده على نصف الأرض واستغلها وبقي النصف الآخر في يد الشريك فهل يكون الحاصل من مغل النصف الباقي بين الشريكين أم لا.

أجاب الشيخ شمس الدين عبد الرحمن ابن نوح المقدسي إذا كانت مشاعة غير مقسومة فالغصب واقع عليهما ومغل ما لم توضع عليه اليد بينهما لا يختص به الشريك الذي هو في يده.

وصحح على جوابه عبد الكريم الأنصاري

وكتب قاضي الحنفية الصدر سليمان: نعم يكون بينهما إلا أن يكون نماء ملكه

وكتب بعض الحنابلة: نعم يكون ذلك بينهما على حسب شرط الواقف

وفيها أيضاً ما مثاله

(حادثة)

وقعت لنقيب الأشراف بدمشق سنة (666) كان قد حوسب فخرج عليه في الحساب ستة آلاف فقال: صرفتها في المداراة عن الوقف: فقال الأشراف: ما نعرف ما المداراة بين لنا ما أردت به: فقال: ما يلزمني ذلك شرعاً: فكتب في ذلك سؤال.

فكتب تاج الدين: إن لم يكن المتولي حاكماً فعليه بيان جهة المداراة ويكون ضامناً أن أصر على الامتناع من البيان، وساعده النجم الموقاتي على ذلك

وكتب البرهان المراغي: أنه لا يلزمه بيان المداراة:

فما كان يوم الجمعة السادس والعشرون من شوال من السنة المذكورة عقد مجلس بالعادلية عند قاضي القضاة ابن خلكان وحضر النقيب وقال: أن الفقهاء أفتوا أنه لا يلزمه بيان المداراة: فناظره الشيخ في ذلك فرجعوا إلى قوله وهذا لأن المداراة من غير الحاكم لا بد من تفسيرها لأنها في مظنة الاجتهاد فإنه قد يعتقد مصلحة ما ليس مصلحة الخ.

وفيها أيضاً ما صورته:

(واقعة) كان بدمشق شخص يعرف بناصر الدين ابن مجاور في سنة (673) وقف غراسا على مغارة الدم بجبل قاسيون ظاهر دمشق وأشهدنا بالوقفية ولم يكتب كتاب وقف فلما توفي كان لبيت المال في ميراثه نصيب فنازع وكيل بيت المال في الغراس فكتب محضر مضمونه أن ابن مجاور وقف ذلك الغراس على مغارة الدم وعلى مصارفها وقفاً صحيحاً شرعياً فقال الوكيل المصارف مجهولة وكتب في ذلك سؤال.

فكان الجواب أن المصارف الجهات المعينة في كتاب وقف مغارة الدم المتقدم على وقف هذا الغراس.

ولما حضر الشهود عند القاضي كانت صورة شهادتهم: أنهم يشهدون على إقرار ابن مجاور أنه وقف ذاك الغراس على مغارة الدم: ولم يقولوا وعلى مصارفها

فتوقف القاضي لذلك في الحكم ونازع الوكيل وقال: إن هذه الشهادة لا تقبل: فكتب في ذلك سؤال.

أجاب تاج الدين فيه بأن هذه الشهادة يثبت بها الوقف ويحكم الحاكم بالوقف بها مستدلاً على ذلك بأنهما شهدا على إقراره بالوقف ومطلق الإقرار بالوقف محمول على الصحيح والصحيح ما اجتمع فيه الشرائط المعتبرة فيه.

وساعده على ذلك البرهان المراغي والشيخ محي الدين النواوي وغيرهما.

وفيها أيضاً ما نصه

(واقعة)

وقف وقفاً صحيحاً شرعياً على بعض جهات البر وحكم به حاكم من حكام المسلمين واستثنى الواقف النظر فيه لنفسه مدة حياته وله أن يفوض ذلك إلى من يرى في حياته وبعد وفاته وكذلك كل من آل إليه النظر في هذا الوقف له أن يفوضه إلى من يراه أهلاً لذلك في حياته وبعد وفاته ولم يجوز هذا الواقف لناظر من النظار في هذا الوقف أن يفوضه إلا إلى من يعلم عدالته وأمانته وصلاحه ويختار من هو على هذه الصفات من أقرب الناس إلى الواقف ثم الأقرب فالأقرب إلى الأعلى من نسله فإن لم يكن من عصبته أحد موصوف بهذه الصفات فعند ذلك يفوض إلى من هو على هذه الصفات من عشيرة هذا الواقف فإن لم يوجد منهم أحد فوضه إلى من هو على هذه الصفات من الأجانب على حسب ما يراه وإن كان إلا بعد على هذه الصفات والأقرب عارياً عنها فيقدم الموصوف بهذه الصفات على الأقرب ومتى عاد الأقرب إلى هذه الصفات واتصف بها عاد النظر إليه ومتى مات الناظر من غير وصية ولا تفويض كان النظر بعده مفوضاً إلى الأقرب فالأقرب إلى الواقف من الموصوفين بهذه الصفات على الشرط المذكور فإن مات الناظر ولم يفوض إلى أحد ولم يبق من عشيرة الواقف المذكور أحد موصوف بهذه الصفات كان النظر في الوقف مردوداً إلى كل حاكم يتولى الحكم بمدينة كذا فأسند الواقف النظر في ذلك إلى أخيه زيد ثم إن أخا الواقف أسند النظر إلى ولده عمرو إذ لم يكن للواقف أحد أقرب منه ثم إن عمراً أسند إلى ولده بكر مع وجود من هو أقرب إلى الواقف فهل يصح إسناد عمرو أم لا وإذا لم يصح فيكون النظر إلى أقرب الناس للواقف بشرط الوقف وإذا كان الأقرب إلى الواقف امرأة وهي موصوفة بالصفات المشروطة في النظر فهل يعود النظر إليها لكونها أقرب إلى الواقف أم لا.

أجاب الزين ابن المنجا الحنبلي: لا يصح إسناد عمرو إلى ولده مع وجود من هو أقرب منه إلى الواقف وإذا مات عمرو ولم يجعل النظر إلى من له جعله كان النظر إلى الأقرب إلى الواقف الموصوف بما ذكر وإذا كان الأقرب امرأة موصوفة بما شرط وكان الوقف لا يتضرر بنظرها لقيامها بالواجب فيه إما بنفسها وإما بنائبها كان النظر إليها وكتب: كتبه ابن المنجا الحنبلي.

وكذلك بعده ابراهيم بن أحمد بن عقبة الحنفي

أجاب التقي ابن تيمية الحنبلي: لا يصح إسناد عمرو والحالة هذه بل يكون النظر إلى أقرب الموجودين إلى الواقف من المتصفين بالصفات المشروطة بمقتضى شرط الواقف إذ التفويض الفاسد كلا تفويض وسواء كان رجلاً أو امرأة لانتظام العموم لها وقد فوض عمر رضي الله عنه وقفه إلى حفصة وكتب: كتبه أحمد بن تيمية،

ووافقه على ذلك الشرف المقدسي الشافعي

هذه نموذجات من فتاوى القرن السابع وهكذا ما قبله فيرى الواقف أن الوقائع والنوازل والأقضية كانت تعرض على أنظار عدة من أولي العلم ليرى كل فيها ما يؤديه إليه اجتهاده وقد يدلي بعضهم بحجة أقوى وبرهان أقوم فيفيء إلى فتواه من أفتى بخلافه وقد رأيت في هذه الفتاوى - فتاوى الفزاري - من رجع بعد فتواه إلى ما كتبه مفت آخر في واقعة وعبارتها فيها: فلما أفتى الشيخ بذلك وكتب خطه رجع التقي ابن حياة إليه ورجع عما كان كتبه مع الجماعة واعتمد عليه انتهى وهكذا يكون العلم الصحيح والسعي وراء الحق في المسائل دون تعصب لإمام أو تقيد بمذهب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

جمال الدين القاسمي