مجلة المقتبس/العدد 61/في أرض الجليل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 61/في أرض الجليل

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1911



تتمة ما ورد في الجزء الأول

جبلان في هذا الصقع يقدسهما المسيحيون لما لهما من الشأن في تاريخ الدين وهما من أجمل الجبال يبعثان النفوس إلى عبادة الخالق تعالى وتوحيده ونعني بهما جبل الطور وجبل الكرمل، فالأول على مقربة من الناصرة قائم في الجو وسط سهل يزرعيل يعلو عنه خمسمائة متر ويعلو عن سطح البحر 602 مترين وهو جميل المنظر ومحله عجيب في إنباته وروائه وتجد في منحدراته شجر السنديان والخروب والبطم والمصطكى وغير ذلك، وقد ذكر بعض سياح الافرنج الذين زاروا هذه الديار في القرن التاسع للميلاد أنه كان يصعد إلى قمة الجبل من سلم طوله 4340 درجة والطريق إلى القنة يدل على ذلك ومسطح القنة 1200 متر طولاً و 400 متر عرضاً وفي أحد سفوح الجبل آثار مدينة عبرانية قديمة تسمى الدبورة أو أبو عمود وكانت مطلة على الوادي الذي كان طريق الزوار والجيوش المصرية قديماً فموقعه من أحسن المواقع الحربية وفي سفح جبل تابور وفي سنة 53 م حدثت ملحمة كبرى بين اسكندر بن اريستوبول وأوليسوس كابينوس أحد قواد بومبينوس الامبراطور الروماني وبعد قرن عندما انتقض اليهود على الرومانيين أحدث يوسفوس قلعة على قمة الجبل وكذلك فعل المسلمون في القرن الثالث عشر للميلاد فأقاموا حصناً منيعاً تجد اليوم بعض آثاره وقد تقاسم الروم واللاتين لعهدنا سطح الجبل وجعلوه أدياراً.

كان جبل الطور ذا شأن عظيم على عهد الصليبيين لإشرافه على بلاد الأردن، قال ياقوت: والطور جبل بعينه مطل على طبرية الأردن بينهما أربعة فراسخ على رأسه بيعة واسعة محكمة البناء موثقة الأرجاء يجتمع في كل عام بحضرتها سوق ثم بنى هنالك الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب قلعة حصينة وأنفق عليها الأموال الجمة وأحكمها غاية الإحكام فما كان في سنة 615 هـ وخرج الافرنج من وراء البحر طالبين للبيت المقدس أمر بخرابها حتى تركها كأمس الدابر.

ويقول مؤرخو الصليبيين أن الذين خرجوا من وراء البحر من الافرنج طالبين للقدس سنة 1217 م كانوا اندراوس الثاني صاحب المجر وليوبولد دوق النمسا وغليوم كونت فلاند ولويس البافاري ويوحنا دي بريان ملك القدس وهوج دي لوزنيان صاحب قبرص جاؤوا في خمسة عشر ألفاً من رجالهم وحاولوا مرتين فتح قلعة الطور فارتدوا عنها خائبين فرأى الملك العادل قطعاً لأطماعهم وحرصاً على السلام أن يدك ذاك الحصن بعد خمس سنين من بنائه وفي سنة 1263 جاء الظاهر بيبرس البندقداري من مصر في جيش ضخم وعسكر في منحدر جبل الطور وخرب فيما قيل الأماكن الدينية التي كانت فيه وجعل عاليها سافلها وفي سنة 1631 نال قنصل دوقية طوسكانيا في صيدا من الأمير فخر الدين المعني رخصة تجيز لرهبنة الأخوات القاصرين أن يقيموا في جبل الطور ومنذ ذاك العهد أصبح هذا الجبيل معاهد للعبادة والنسك.

هذه لمعة من تاريخ الطور ويقال له جبل التجلي كما يقال له جبل تابور، أما الكرمل فهو أيضاً من الحصون المهمة قال ياقوت: كرمل بالكسر ثم السكون وكسر الميم ولام هو حصن على الجبل المشرف على حيفا بسواحل بحر الشام وكان قديماً في الإسلام يعرف بمسجد سعد الدولة، ولذا يغلط الناس اليوم في فتحهم كاف الكرمل والصحيح كسرها وهذا الجبل أطول من الطور يمتد من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي على طول 34 كيلو متراً ويختلف عرضه من 5 إلى 8 كيلومترات ولا يبلغ علوه في الشمال الغربي أكثر من ثلثمائة متر على حين يبلغ في الوسط 540 متراً وهو مشرف عل البحر من جهة وعلى سهل يزرعيل الفسيح من جهة أخرى.

ومعنى كرمل بالعبرانية الحديقة ورد ذكره في التوراة إشارة إلى الجمال والخصب وهو من أشهر جبال غربي الأردن يبتدئ من رأس قرب حيفا وينتهي بوادي الملح مقابل يتنعام طوله نحو 12 ميلاً وأعلى رؤوسه عند عسفيا نحو 1729 ويعرف هذا الجبل بجبل النبي الياس لأنه أقام فيه وكان الكرمل في كل عصر موطن التفكر والعزوف عن الدنيا وذلك في أيام الوثنية والنصرانية حتى أن الفيلسوف فيثاغورس اليوناني كثيراً ما كان يذهب للتدبر والتفكر في الكرمل المقدس وفي عهد دارا بن يستاسب ملك الفرس (521 - 485 ق. م) كان يعبد في الكرمل كوكب المشتري وقال بعض مؤرخي الرومان أن الكرمل نفسه كان يعبد فلم يكن فيه معبد ولا هيكل بل ليس فيه إلا مذبح وعباد يتعبدون وكان في النصرانية معبداً لرجالها حتى نشأت في القرون الوسطى فيه رهبنة الكرمليين المشهورة في المشرق والمغرب وهو اليوم مقسم بين أهل المذاهب المختلفة من المسيحيين أقاموا فيه الأديار وغرسوه بأنواع الأشجار واستقلوا به حتى لا يطرقه طارق ألا بجعل أو إذن وهو مطل على حيفا وعكا ناظر إلى بلاد الجليل ولا سيما سهل يزرعيل أو مرج ابن عامر المعروف في التوراة ببقعة مجدو وبقعة مجدون ووادي يزرعيل وهو مرج واسع واقع بين جبال الجليل وجبال السامرة طوله من الشرق إلى الغرب 24 ميلاً وعرضه من ميلين إلى 12 ميلاً وهو مثلث الشكل وقاعدة هذا المثلث ضلعه الشرقي وهو خط يمتد من جبل جلبوع والدحي وتابور إلى جبال الجليل أو الناصرة ومن هذه القاعدة يتفرع ثلاثة فروع نحو الشرق فرع بين جلبوع والدحي وفرع بين الدحي وتابور وهو الأخصب والأشهر وفرع بين تابور وجبال الناصرة وعند هذه القاعدة ترتفع الأرض فيتحول مجرى الماء إلى الشرق والغرب ويشق هذا السهل من الشرق إلى الغرب نهر قيشون المسمى الآن المقطع ومع كل ما هو عليه من الإهمال الآن لا يزال هذا السهل في غاية الخصب وكان أعظم ساحة حرب في هذه البلاد.

نعم إن العناية بهذا السهل قليلة لأن أصحابه أغنياء كانوا ابتاعوه فيما بلغنا بحيلة ورشوة وذلك أن قراه كانت لا ناس من الفلاحين ضعاف أرادت الحكومة منذ نحو أربعين سنة أن تسجل قراهم للتقاضى منها ضرائب وكان الفلاح يرتعش من سماع الضرائب ويخاف أن يعرف بأنه مالك أرض فأبوا أن يسجلوها بأسمائهم تفادياً من الظلم الذي كان ينال الفلاح يومئذ فازمع والي سورية إذ ذاك أن يبيع تلك القرى أو سهل يزرعيل برمته باعتباره من الأراضي الأميرية المحلولة فما كان من أولئك الأغنياء إلا أن احتالوا لتباع كلها صفقة واحدة وهي ثماني عشرة قرية لا يقطعها الفارس في أقل من ثماني ساعات وذلك حتى لا يتيسر لأحد الأهالي أن يشتريها فرشوا الوالي فيما قبل بثلاثة آلاف ليرة وابتاعوها بأقل من خمسة عشر ألف ليرة وجلسوا يلعبون بالميسر مع الوالي في دارهم ولم يمض الهزيعان الأولان من الليل إلا وقد خرج الوالي كما دخل صفر اليدين من المال الذي ناله من طريق الرشوة فأضر بالأمة والدولة معاً لأن أولئك الأغنياء خسروه في القمار ليلاً ما كان ناله منهم رشوة في النهار، وهكذا حرم أصحاب هذه القرى الحقيقيون منها بجهلهم وسوء إدارة الحكومة إذ ذاك وتشتتوا في البلاد وبعضهم استخدموا إجراء في قرى الأغنياء وكانوا من قبل في نعمة ولكن من يأخذ البلاد بغير حرب يهون عليه تسليمها فإن أولئك المالكين زهدوا فيما ملكوا لأنهم بعيدون عنها والأرض لمن يقوم على تعهدها فهو هو مالكها الحقيقي لا من يكتفي من ريعها بما حصل، فأباع بعض أولاد أولئك الأغنياء ما ورثوه من آبائهم وأكثرها انتقلت إلى أيدي الجمعية الصهيونية ويوشك أن يباع ما بقي ولكن بمئات الألوف من الليرات لارتقاء الأسعار ولأن الصهيونيين آلوا على أنفسهم أن يملكوا فلسطين وأرض الميعاد، ويبذلوا فيها مهما كلفتهم.

ولا بأس هنا من الإشارة إلى الجمعيات الاسرائيلية وما ترمي إليه من المقاصد فهي عدة جمعيات منها جمعية أحباء فلسطين وهي منتشرة في عامة الأطراف ومنها تتفرع جمعية معاونة فلاحي اليهود وصناعهم في فلسطين وسورية وهذه الجمعية روسية ولهاتين الجمعيتين فروع كثيرة في القدس ويافا وأعمالها وحيفا وأعمالها وصفد وبلاد بشارة وحوران وعبر الأردن ويقدر الخبيرون عدد أفرادها بمئة وخمسين ألف نسمة يزيد عددهم كثيراً بما ينضم إليهم كل شهر من إخوانهم الأوروبيين الذين يرحلون بدينهم من أوروبا إلى الأرض المقدسة، وعدا هاتين الجمعيتين فإن للإسرائيليين أناساً من مشهوري أغنيائهم مثل روتشيلد وبركم وفليرو وفتيفيوري وغيرهم ممن ابتاعوا الأراضي لابناء نحلتهم وأمدوهم بالمال ليتوفروا على استثمارها على نحو ما تشاهد في زمارين مما يدل بلسان حاله أن الصهيونيين سيعيدون مجد آبائهم في فلسطين ويستولون عليها وهاك ما يقوله العارفون بهذه المسألة التي يهتم لها كل من يعرف تاريخ السياسة ويغار على مصلحة البلاد فقد قال أحدهم أن آمال اليهود في استرداد فلسطين بلاد آبائهم وأجدادهم وإعادة مجدهم وملكهم إليها قديم يعود إلى عهد الرومان وتؤيده حروبهم العديدة مع المملكة الرومانية وفي كل واقعة منها في حروب اليهود ليوسيفوس آيات بينات على ذلك ولكن هذه الآمال غاضت بعد أن شتتهم في الأرض أدريانوس في القرن الثاني بعد المسيح وفرق جامعتهم وأبعدهم عن صهيون أو أورشليم أو القدس عاصمة مملكتهم القديمة ومدينة هيكلهم العظيم ولكنها ما لبثت أن ظهرت في صورة التمني في عهد قسطنطين الذي أذن لهم بالدنو مرة في السنة من أسوار بيت المقدس ليندبوا مجدهم الزائل وما زالوا إلى يومنا هذا يدنون من حائط الحرم الشريف الخارجي المسمى بالبراق ويتذكرون مجد ملوكهم وعظمة هيكلهم ومدينتهم ويطلبون من الله أن يعيد ما خسروه.

ولكن رجال النهضة منهم لم يقفوا عند حد التمني فألف الدكتور هارتشل الجمعية الصهيونية التي جعلت همها الوحيد جمع المال وتوحيد كلمة اليهود على اختلاف لغاتهم وبلدانهم وجمعهم في بلد واحد أمين يحصنونه أعظم تحصين بحيث لا يستطيع أحد مهاجمتهم وفاوض الدكتور المذكور حكومة عبد الحميد في ذلك ولم ينجح فعهدت الجمعية الصهيونية إلى الايكا بالاستعمار التدريجي كما عهد إلى جمعية الاتحاد الاسرائيلي (اليانس اسرائيليت) بالتهذيب والتعليم وبقيت تعمل على جمع المال وتوحيد كلمة اليهود وإقناع رجال الحكومة الدستورية بحسن مقاصدها.

نعم إن الجمعية الصهيونية اليهودية ورفيقاتها جمعيات ايكا وفاعوليم واليانس وغيرها ساعيات في استرجاع فلسطين التي وعدهم بها ربهم في الإصحاح الثاني والثلاثين من ارميا من الكتاب المقدس الباحث عن أسر بابل لليهود والذاكر وعد الرب برجوعهم إلى فلسطين بقوله في آخره:

يشترون الحقول بفضة ويكتبون ذلك في صكوك ويختمون ويشهدون شهوداً في أرض بنيامين وحوالي أورشليم وفي مدن يهودا ومدن الجبل ومدن السهل مدن الجنوب لاني أرد سبيهم يقول الرب وذلك بعد ما سبتهم حكومة الكلدان على أنهم لم يستطيعوا البقاء من بعد ذلك لأنهم أصبحوا محل التنازع بين حكومة الرومان في مصر وحكومة الرومان في أنطاكية ثم انقرضوا ولم يبق لهم ملك ولا دولة والآن عملاً بهذه الآية يشترون الأراضي في فلسطين على حساب الفضة ويشرطون البيع على أن يكون الثمن فضة ويكتبون الصكوك ويشهدون وهكذا تراهم لا يفتررن طرفة عين وهم يتجسسون الأخبار عن الذين تأخرت حالتهم المالية من أهل هذه البلاد وهي عبارة عن لواء عكاء بأجمعه ولواء القدس ولواء نابلس وقسم من لواء الكرك وبعض من قضاء عجلون ويطمعون البائع بالثمن الفاحش ويكتبون الصكوك ويشهدون عليها ويسجلونها عند محرر المقاولات وعند بعض القنصليات وكانت الحكومة قبلاً منعت استعمارهم ولكن بما بذلوه من الدنانير التي تسحر الباب الخائنين من الحكام والمستخدمين استطاعوا أن يستولوا على ثلاثة أرباع قضاء طبرية ونصف قضاء صفد وأكثر من نصف قضاء يافا والقدس والقسم المهم من نفس حيفا وبعض قراها واليوم يسعون للدخول إلى قضاء الناصرة ليستولوا على سهل شارون ويزرعيل المذكور بالتوراة والمعروف اليوم بمرج بني عامر الذي يشقه الخط الحجازي من الغرب إلى الشرق وكل ذلك بأسماء العثمانيين وبدلالة سماسرتهم الخائنين الذين يعدون أنفسهم من سراة القوم وأمجاد البلاد وهكذا اشتروا الكثير من القرى واستولوا عليها وهم لا يخالطون العثمانيين ولا يشترون منهم شيئاً ولهم بنك أنغلو فلسطين بقرضهم بفائدة لا تتجاوز الواحد في المائة في السنة وقد جعلوا كل قرية إدارة فيها مدرسة وكل قضاء مديرية ولكل جهة مدير عام ولهم راية لونها أزرق وفي وسطها خاتم سليمان وتحته كلمة عبرانية معناها صهيون لأنه جاء في التوراة أن أورشليم ابنة صهيون ويرفعون هذا العلم مكان العلم العثماني في أعيادهم واجتماعاتهم ويترنمون بالنشيد الصهيوني وقد احتالوا على الحكومة فقيدوا أنفسهم عثمانيين في سجل النفوس كذباً وبهتاناً وهم لا يزالون حاملين الجوازات الأجنبية التي تحميهم وعندما يصيرون إلى المحاكم العثمانية يظهرون جوازاتهم ويدعون الحماية الأجنبية ويحلون دعاويهم واختلافاتهم فيما بينهم بمعرفة المدير ولا يراجعون الحكومة ويعلمون أبناءهم الرياضة البدنية واستعمال السلاح وترى بيوتهم طافحة بالأسلحة وفيها كثير من المارتين ولهم بريد خاص وطوابع خاصة وغير ذلك مما يبرهن على أنهم بدأوا بتأسيس مقاصدهم السياسية وتأليف حكومتهم الخيالية فإذا لم تضع الحكومة حداً لهذا السيل الجارف لا يمضي على فلسطين زمن إلا وتراها أصبحت ملكاً للجمعية الصهيونية ورفيقاتها أو شعبها المذكورة.

إليك بعض ما يقال في الاستعمار الصهيوني وعواقبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهو مضر باتفاق العقلاء المجردة نفوسهم عن الأغراض وهناك استعمار آخر في فلسطين والجليل وهو أقل منه خطراً ونعني به قدوم الجالية من الأوروبيين ليتخذوا هذه البلاد موطناً لهم على أن لا ينسوا مساقط رؤوسهم ويظلوا من تبعة دولهم كالألمان في يافا وحيفا مثلاً.

فقد أتت عشرات من الأسرات الألمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ونزلت في ذيلك البلدين فارة بدينها من ألمانيا إلى هذه الأرض المقدسة وهي من طائفة حرة اسمها شيعة الهيكليين أو أحباب أورشليم أنشئت سنة 1862 في إمارة ورتمبرغ في ألمانيا عقيب الحركة الدينية التي أحدثها هوفمان الذي ذهب إلى أن الرأي الحالي في دين النصرانية لا يكون سبيلاً إلى أن يحيا المتدينون بها حياة مسيحية حقيقية فأخذ أشياعه على أنفسهم أن يقيموا ملكوت الله في الأرض بأن يبدؤوا بذلك من أرض الوعد ومنها ينبثون في أوروبا ليجددوا حياة الكنيسة والمجتمع وهم يفسرون نبوات العهد القديم تفسيراً حسناً فشرعوا سنة 1868 بإنشاء مستعمرة في حيفا وفي الوقت نفسه أنشأوا مستعمرة لهم في يافا ولهذه الطائفة الآن أربع مستعمرات يناهز سكانها 1300 وقد ساعدت على استعمار البلاد وفتحت للألمان باب التدخل في شؤوننا أحياناً.

ولو عقل من يساكنون هؤلاء الألمان من أهل حيفا ويافا لقلدوهم في نشاطهم وتنظيم بيوتهم وحدائقهم، زر حي الألمان أو مستعمرتهم في الشمال الغربي من حيفا وألق عليها نظر المتدبر تجدهم لا يزيدون عن سبعمائة نسمة ولهم مدرستان ومعبدان، سرح رائد الطرف في تلك الطرق المعبدة المنسقة والبيوت القائمة على نظام واحد تحيط بها الحدائق الصغرى الغاصة بكل غض ويانع المستوفية شروط المرافق والمنافع وتعال معي بعدها ننظر إلى ما في جوارها من بيوت الوطنيين وأحيائهم فماذا تجد؟ تجدها بؤرة الأوساخ ومثال الخلل ونموذج الاتكال وراموز الجمود والخمود، طف واعتبر بيناتهم العاملات وبناتنا الخاملات ثم أنصفنا وأنصفهم منا، هل نرى رجالنا في اقتدارهم على مستوى بناتهم في تربيتهن ونشاطهن، أما التنظير بين رجالنا ورجالهم فهذا لا يقول به حتى أضيق الناس عقلاً.

شرذمة من المطرودين من بلادهم نزلوا بلادنا فقراء معدمين لا يملكون غير مضائهم وبعض حرف يحسنونها فساعدهم بعض موسريهم على ابتياع عشرات من الأفدنة من أرض بلادنا فعمروها كما ترى على النسق الألماني ولم تمض بضع سنين حتى وفوا بنشاطهم ديونهم وأثروا ولا إثراء ابن البلاد الذي ورث مئات الأفدنة وأصبحوا يغبطون حتى من كبار أغنيائنا ونحن من أمرهم حائرون باهتون لا نعمل ولا نتحرك كأن الفتور قد كتب علينا والغرور مسجل في صحائف حياتنا وكأنهم خلقوا من طينة غير طينتنا وعقل يستحيل علينا أن نلحق شأوه.

ولا ننس تلك الحديقة التي زرناها في المستعمرة الألمانية في حيفا وقد تجلى لنا فيها المضاء الغربي في أجلى مظاهره حتى لظننتنا في حديقة من حدائق فرنسا أو ألمانيا، حديقة لا تبلغ مساحتها فداناً دمشقياً وفيها معظم ما يجود في الأرض الحارة من صنوف البقول والأشجار جعلت مساكب وقسمت طرقاً وقد قيل لنا أن دخل صاحبها منها لا يقل عن خمسين ألف قرش في السنة فلم يسعنا إلا أن نقول سبحان الله السر في السكان لا في المكان، نعم السر في السكان ولا عجب إذا رأينا الألمان في مقدمة دول الأرض بعلومهم وصناعتهم وإحصائهم في الفنون وعندهم مثل هذا الشعب النشيط الذي يعلم بعمله أهل النشاط من الأمم دروساً سامية فما بالك به مع الخاملين.

وعلى ذكر حيفا لا بأس بإيراد نبذة موجزة من تاريخها لنسلسله إلى حالتها اليوم فنقول:

كانت حيفا قديماً تسمى قلمون وليس لها ذكر في التوراة وتاريخها القديم غامض لا شأن له، ولقد كان الساحل من نصيب قبيلة عازر ولما وصل الاسرائيليون إلى هذه البلاد لم يستطيعوا أن يستولوا على مدينة من المدن الساحلية ومن جملة الملوك الذين غلبهم جوزوي في شمالي فلسطين كان الملك جوشانان ملك الكرمل والكرمل كانت كما يقول المؤرخ بلين على الجبل المسمى باسمها وكان اسمها قديماً اكباتان وكان في جوار حيفا أو قلمون مدينة اسمها سيكامينوس أي مدينة الصبار لكثرة هذا الشجر في أرضها فكانت قلمون وسيكامينوس مدينتين متنافستين تعمر الأولى وتخرب الثانية وهكذا كانت المنافسة بينهما سجالاً إلى القرون الوسطى وقد زالت سيكامينوس من لوح الوجود أبد الدهر، فتاريخ المدينتين كما قال برنابه ميسترمان ممزوج بعضه في الآخر، ولقد روى التاريخ أن بطليموس لا يثر حاكم جزيرة قبرص بعد أن طردته أمه كليوباترا من مصر جاء سنة 104 ق. م لنجدة عكا وكان يحاصرها إذ ذاك اسكندر جانى ملك يهودا فأنزل جنده وكان ثلاثين ألفاً في مدينة سيكامينوس وفي أوائل التاريخ المسيحي لم تكن سيكامينوس ذات شأن هي وسائر المدن المجاورة لها وكانت مدينة عكا على رأي سترابون أرقى تلك البلاد وتجيء بعدها قيسارية.

وكثيراً ما يذكر اسم الكرمل وبعض المدن مثل سيكامينوبوليس وبوكولوبوليس وكروكوديبوبوليس وغيرها وذكر المؤرخ بلين أموراً كهذه، وقد ازدهرت مدينة سيكامينوس ومدينة قلمون في القرن السادس للميلاد.

ومعنى حيفا بالعبرانية الرأس أو الأرض الداخلة في البحر لأنها أنشئت في جوار الكرمل وهو لها معتصم وملجأ وحيفا القديمة كانت في مكان لا يبعد كثيراً عن حيفا الجديدة عرفت آثاره كما أن مدينة سيكامينوس تبين أنها على أربعة كيلومترات من حيفا القديمة وقد اكتشفت بعض آثارها وعادياتها وهي رومانية يونانية.

ولقد كانت حيفا في الإسلام من جملة الحصون المشرفة على البحر الرومي لا سيما وأنها موازية لجزيرة قبرص ولم تزل في أيدي المسلمين إلى أن تغلب عليها كوفرى الذي ملك بيت المقدس سنة 494 وبقيت في أيديهم إلى أن فتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة 573 (1187) وكانت حيفا من نصيب الملك تنكرد الذي أصبح أميراً على بلاد الجليل من طبرية إلى حيفا ولما سقطت عكا في أيدي الافرنج سنة 1191 خرب صلاح الدين حيفا نكاية بالصليبيين حتى لا ينالهم منها إلى الخراب، ولكن هؤلاء جددوا بنيانها ولما غادروا سورية سنة 1292 ظلت حيفا خاملة الذكر إلى أن كان القرن الثامن فاستولى عليها الشيخ ظاهر العمر كما استولى على أرض الجليل ودكها فجعل عليها سافلها ثم أعاد بناءها وبنى عليها سوراً وأنشأ له قصراً من جنوبها يطل عليها.

والظاهر عمر هذا كان من أرة بدوية اسمها بني الزيادنة ورث من أبيه الحكم على مدينة صفد واستولى على طبرية سنة 1738 وعلى عكا سنة 1749 فأصبح شيخاً على أعمال الجليل كلها وكان يميل إلى العمران بحيث يشبه بأعماله الأمير فخر الدين المعني أمير الدروز في القرن الحادي عشر للهجرة وقد تقاتل الشيخ ظاهر العمر مع أبنائه أنفسهم ثم غدر به أحد رجاله أحمد باشا الجزار واستولى على الحكومة دونه، واستولى بونابرت على حيفا سنة 1799 وبعد بضعة أيام ضربه الاسطول الانكليزي ضربة قاضية وفي سنة 1837 احتلت عساكر ابراهيم باشا المصري مدينة حيفا وفي سنة 1840 أصيبت حيفا ولا سيما حصنها بأضرار جسيمة من قذائف الأساطيل الانكليزية والنمساوية والعثمانية ومنذ غادرها الجيش المصري ظلت بلا حامية إلى المدة الأخيرة وقد جعلت قضاءً وأخذت بعض السفن التجارية ترسو فيها قليلاً فتنقل إليها البريد والبضائع وتحمل منها حبوب حوران وحاصلات الجليل وقد زادت مكانة بجعلها سنة 1320 مبدأ للسكة الحديدية الحجازية فأنشئت في ضاحيتها محطة مهمة ومعامل وأنابير فأخذت المدينة تعمر بذلك حتى كادت بما بلغته تنسي ذكر الموانئ المجاورة لها، ويقدر سكانها الآن بنحو عشرين ألف نسمة نحو نصفهم اسرائيليون مهاجرون لم يقيدوا في دفاتر الحكومة سوى ستمائة منهم والباقون مسلمون ومسيحيون ويقف عليها مدى السنة زهاء 300 باخرة و700 مركب ويحمل منها زهاء عشرين ألف طن من الحبوب والدرة والسمسم والزيت ويصدر إليها ما تبلغ حمولته عشرة آلاف طن من البضائع.

وماء البلد من آبار فيه بعض الملوحة وقد كان يمكنها الاستقاء من ينابيع بقربها ولا سيما من نهر المقطع أو قاديشا الفاصل بين أرض الجليل وفينيقية أو بين أرضها وأرض عكا لو صحت العزيمة على ذلك، وهواؤها جيد ومناظرها الطبيعية رائقة ويكثر فيها النخيل.

أما عكا وهي الآن مركز اللواء وقضاء طبرية وقضاء صفد وقضاء الناصرة من أعمالها وبعبارة ثانية هي قاعدة بلاد الجليل على ما أصابها من الانحطاط الشديد، ويؤخذ مما ورد في سفر القضاة أن عكو أي عكا لم تكن مدينة اسرائيلية ولم تصبح مستعمرة يهودية إلا بعد أزمان طويلة، وكان اليونان يربطون عكا بفلسطين ثم دعيت بعد باسم بطولمايس نسبة إلى أحد بطالسة مصر وربما كان بطليموس ابن لاغوس وذكر مؤلفو الرومان والنقود التي عثر عليها من عهدهم أن عكا كانت مستعمرة للامبراطور كلوديوس وكانت ذات منعة من حيث هي مدينة بحرية واستولى عليها العرب سنة 638 ففقدت إذ ذاك اسمها اليوناني.

قال ياقوت العكة الرملة حميت عليها الشمس وعكة اسم بلد على ساحل بحر الشام من عمل الأردن وهي من أحسن بلاد الساحل في أيامنا هذه وأعمرها قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء البشاري: عكة مدينة حصينة كبيرة الجامع فيه غابة زيتون يقوم بسرجه وزيادة ولم تكن على هذه الحصانة حتى قدمها ابن طولون وكان قد رأى صور واستدارة الحائط على ميناها فأحب أن يتخذ لعكة مثل تلك المينا فجمع صناع الكور وعرض عليهم ذلك فقيل له لا يهتدي أحد إلى البناء في الماء في هذا الزمان ثم ذكر له جدنا أبو بكر البناء وقيل له أن كان عند أحد فيه علم فهو عنده فكتب إليه وأتي به من القدس وعرض عليه ذلك فاستهان به والتمس منهم احضار فلق من خشب الجميز غليظة فلما حضرت عمد يصفها على وجه الماء بقدر الحصن البري وضم بعضها إلى بعض وجعل لها باباً عظيماً من ناحية الغرب ثم بنى عليها الحجارة والشيد وجعل كلما بنى خمس دوامس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتد البناء وجعلت الفلق كلما ثقلت نزلت حتى إذا علم أنها قد استقرت على الرمل تركها حولاً كاملاً حتى أخذت قرارها ثم عاد فبنى من حيث ترك وكلما بلغ البناء إلى الحائط الذي قبله أدخله فيه وحنطه به ثم جعل على الباب قنطرة والمراكب كل ليلة تدخل البناء وتجر سلسلة بينها وبين البحر الأعظم مثل صور قال فدفع إليه ألف دينار سوى الخلع والمركوب واسمه عليه مكتوب إلى اليوم قال وكان العدو قبل ذلك يغير على المراكب.

وفتحت عكا في حدود سنة 15 على يد عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وكان لمعاوية في فتحها وفتح السواحل أثر جميل ولما ركب منها إلى غزوة قبرص رمها وأعاد ما تشعث منها وكذلك فعل بصور ثم خربت فجددها هشام بن عبد الملك وكانت فيها صناعة بلاد الأردن وهي محسوبة من حدود الأردن ثم نقل هشام الصناعة منها إلى صور فبقيت على ذلك إلى قرابة أيام الإمام المقتدر ثم اختلفت أيدي المتغلبين عليها وعمرت عكة أحسن عمارة وصارت بها الصناعة إلى يومنا ذا وهي للافرنج قال ياقوت: وكانت قديماً بيد المسلمين حتى أخذها الافرنج ومقدمهم بغدوين صاحب بيت المقدس من زهر الدولة بن أمير الجيوش منسوب إلى أمير الجيوش بدر الجمالي أو ابنه وكان فيها من قبل المصريين فقصدها الافرنج براً وبحراً في سنة 497 فقاتلهم أهل عكة حتى عجزوا عنهم لقصور المادة بهم وكان اهل مصر لا يمدونهم بشيء فسلموها إليهم وقتلوا منها خلقاً كثيراً وسبوا جماعة أخرى حملوهم إلى خلف البحر وخرج زهر الدولة حتى وصل إلى دمشق ثم عاد إلى مصر ولم تزل في أيديهم حتى افتتحها صلاح الدين يوسف بن أيوب في جمادى الأول سنة 583 وشحنها بالرجال والعدد والميرة فعاد الافرنج ونزلوا عليها وخندقوا دونهم خندقاً وجاءهم صلاح الدين ونزل دونهم وأقام حولهم ثلاث سنين حتى استعادها الافرنج من المسلمين عنوة في سابع جمادى الآخرة سنة 587 وأحضروا أسارى المسلمين وكانوا نحو ثلاثة آلاف وحملوا عليهم حملة واحدة فقتلوهم عن آخرهم، والنسبة إليها عكي وقد نسب إليها قوم وقد رسمها عماد الدين الأصفهاني في الفتح القبسي بالألف المقصورة تارة عكا وبالألف الممدودة أخرى.

وقد استولى بودوين الأول على عكا سنة 1104 م بمعونة اسطول جنوي له وجعلها الصليبيون ميناءً مهمة لا لإنزال جيوشهم بل ميناءً تجارية فكانت ترسو فيها سفن الجنويين والبنادقة والبيزانيين وبعد وقعة حطين سقطت عكا بيد صلاح الدين وفي سنة 1189 حاصرها من البر الملك كي دي لوزنيان ومن البحر اسطول بيزاني واستولى عليها ريشاردس قلب الأسد ملك الانكليز سنة 1191 م فأصبحت من ذاك الحين الجادة العظمى للنصرانية في فلسطين وكانت معسكر الفرسان ودعوها باسم إحدى فرقهم وكانت تدعى القديس يوحنا فقالوا عنها وفي سنة 1291 استولى عليها الملك الأشرف بعد مقاومة شديدة فقضى بالاستيلاء عليها على سلطة الافرنج من هذه البلاد، فبقيت عكا أهم ميناء ينزل فيه حجاج الغربيين إلى الأرض المقدسة وفي حوالي منتصف القرن الثامن عشر استولى الشيخ ظاهر العمر على الجليل الأسفل وعلى جزء عظيم من الجليل الأعلى واتخذ عكا مقر إمارته فعادت إليها نضرتها وخلفه في الإمارة أحمد باشا الجزار الذي وسع حدود إمارته فامتدت شمالاً إلى نهر الكلب وبعلبك وجنوباً إلى قيسارية واشتهر بمبانيه التي جلب لها المواد من عسقلان وقيسارية وغيرهما، وبدأ الفرنسيس سنة 1799 يحاصرون عكا وبعد ثماني وقائع سألت فيها الدماء إلى الأباطح اضطر نابوليون أن يرجع عنها واستولى ابراهيم باشا سنة 1832 على المدينة فنهبت وخربت ولكنها عادت فنهضت من كبوتها وفي سنة 1840 خربت الأساطيل الانكليزية والنمساوية ثغر عكا فخرب بذلك كل أثر من آثارها القديمة ثم تعاقب الخراب الاقتصادي عليها فكانت تجارتها رائجة لأنها كانت سوق الحبوب التي ترد إليها من الداخلية ولا سيما من حوران فسقطت من هذه الوجهة خصوصاً لما قامت بعد موانئ سورية مثل بيروت وطرابلس وحيفا ويافا تنازعها في مكانتها وأنشئت سكك حديدية ربطت معظم هذه الموانئ بالمدن الداخلية وبقيت عكا في نجوة من الأرض ضعيفة في تجارتها وهاجرها كثير من أهلها ومنهم أناس من كبار تجارها وأرباب الأملاك بها.

وقفنا على سورها نطل على ثغر عكا الذي اهرقت في سبيل الاستيلاء عليها دماء غزيرة ذاك السور الذي أعجز بمناعته صلاح الدين وجيوشه وتدبيره فارتد عنها غير ما مرة وأهرق الصليبيون دماءهم في بسط أيديهم عليها ثم زحزحوا عنها بعد وقائع تشيب لهولها الرؤوس وهكذا طمح فيها الفاتحون لأنهم كانوا يعتبرونها مفتاح سورية، ولطالما كانت عكا ترمي من برها وبحرها بالقذائف والنيران وكانت مجزرة يهلك فيها الإنسان.

وقفنا على أسوارها ننظر إلى المدينة التي أعجزت الملك الناصر والملك الظاهر بونابرت ونتأمل في أرباضها القاحلة اليوم وكم جثة دفنت فيها وفي بحرها وهو يحدجها بعينه الزرقاء كم ابتلع من أسطول بما فيه، وقفنا وفكرنا ملياً في حال البشر يقتتلون على بسط سلطانهم وتكبير رقعة بلدانهم ويرتكبون كل منكر في سبيل المجد والفخار رأيناهم في القديم يقتتلون بحجة دينية واليوم هم كذلك ولكن حجتهم مدنية وإنسانية وما المقصود في الواقع ونفس الأمر إلا الاستيلاء والتغلب وتوسيع نطاق الحكم والسلطان.

فوقفنا على أسوار عكا نندب في نفسنا الضعف البشري وقد استولى على النفس جلال ذلك البلد وذكرنا أرواح الخلق تباع في كل عصر بيع السماح ولو أردنا أن نأتي هنا على لمعة من تاريخه لاقتضى له مجلد برأسه، وهاك الآن نموذجاً واحداً بما جرى لأجلها في القرون الوسطى قاله أبو الفدا حاضرها بنفسه: إن السلطان الملك الأشرف سار بالعساكر المصرية إلى عكا وأرسل إلى العساكر الشامية وأمرهم بالحضور وأن يحضروا صحبتهم المجانيق فتوجه الملك المظفر صاحب حماة وعمه الملك الأفضل وسائر عسكر حماة صحبته إلى حصن الأكراد وتسلمنا منه منجنيقاً عظيماً يسمى المنصوري حمل مائة عجلة ففرقت في العسكر الحموي وكان المسلم إلي منه عجلة واحدة لأني كنت إذ ذاك أمير عشرة وكان مسيرنا بالعجل في أواخر فصل الشتاء فاتفق وقوع الأمار والثلوج علينا بين حصن الأكراد ودمشق فقاسينا من ذلك بسبب جر العجل وضعف البقر وموتها بسبب البرد شدة عظيمة وسرنا بسبب العجل من حصن الأكراد إلى عكا شهراً وذلك مسير نحو ثمانية أيام للخيل على العادة وكذلك أمر السلطان الملك الأشرف بحر المجانيق الكبار والصغار ما لم يجتمع على غيرها واشتد عليها القتال ولم يغلق الافرنج غالب أبوابها بل كانت مفتحة وهم يقاتلون فيها وكان يحضر إلينا مراكب مقبية بالخشب الملبس جلود الجواميس وكانوا يرموننا بالنشاب والجروخ وما زالوا بها حتى فتحت وكان في داخل البلد عدة أبرجة عاصية بمنزلة قلاع دخلها عالم عظيم من الفرنج وتحصنوا بها وقتل المسلمون وغنموا من عكا شيئاً يفوق الحصر من كثرته ثم استنزل السلطان جميع من عصى بالأبرجة ولم يتأخر منهم أحد فأمر بهم فضربت أعناقهم عن آخرهم حول عكا ثم أمر بمدينة عكا فهدمت إلى الأرض ودكت دكا ومن عجائب الاتفاق أن الفرند استولوا على عكا وأخذوها من صلاح الدين ظهر يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وخمسمائة واستولوا على من بها من المسلمين ثم قتلوهم فقدر الله عز وجل في سابق عمله أنها تفتح في هذه السنة (690) في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة على يد السلطان الملك الأشرف صلاح الدين فكان فتوحها مثل اليوم الذي ملكها الفرنج فيه وكذلك لقب السلطانيين.

وهذا القول ينبئك بمكانة عكا واغتباط المؤرخ باستخلاصها من الأعداء، ومن مدن الجليل صفد ولم يتيسر لنا زيارتها للأمطار المتهاطلة ولموقها في قمة جبل وهي ترى من طبرية وعلى بضع ساعات منها ومعظم سكانها يهود وبعض المسلمين من مهاجرة الجزائر وليس في أهلها العريق فيها للسبب الذي أورده أبو الفدا في حوادث سنة 664 قال وفي هذه السنة خرج الملك الظاهر بعساكره المتوافرة من الديار المصرية وسار إلى الشام، وجهز عسكراً إلى ساحل طرابلس ففتحوا القليعات وحلبا وعرقا ونزل الملك الظاهر على صفد ثامن شعبان وضايقها بالزحف وآلات الحصار وقدم إليه وهو على صفد الملك المنصور صاحب حماة ولاصق الجند القلعة وكثر القتل والجراح في المسلمين وفتحها في تاسع عشر شعبان المذكور بالأمان ثم قتل أهلها عن آخرهم.

ولقد كانت صفد في القرن السابع مملكة يقال لها مملكة صفد ومضافاتها وصفد حصن بقبة جبل كنعان في أرض الجرمق كان قرية فبني مكانها حصن سميت صفت ثم قيل صفد وهو حصن منيع وكان بها طائفة من الفرنج يقال لهم الداوية فحصرهم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي وفتحها وقتل كل من فيها على رأس تل بالقرب منها ثم رممها وبنى في وسطها برجاً مدوراً سماه قلة ارتفاعه في السماء مائة وعشرون ذراعاً وقطره سبعون ذراعاً وإلى سطحه طريقان يصعد في الطريق إلى أعلاه خمسة أفراس صفاً بلا درج في ممشى حلزوني وهو ثلاث طبقات أبنية ومنافع وقاعات ومخازن وتحته كله بئر للماء من الشتاء يكفي لأهل الحصن من الحول إلى الحول أشبه بمنارة اسكندرية وبهذا الحصن بئر تسمى الساقورة وعمقها مائة وعشرة أذرع في ستة أذرع بذراع النجار والدلاء التي لها بتاتي من الخشب تسع البتية نحو قلة من الماء وهم بتيتان في حبل واحد يسمى سرباق كغلظ زند الإنسان وكلما وصلت بتية إلى الماء وصلت الأخرى إلى رأس البئر وكلما وصلت واحدة إلى رأس البئر وصلت الأخرى إلى الماء وعلى رأس البئر ساعدان من حديد بكفين وأصابع تتعلق الأصابع في حافة البتية الملآنة وتجذبها الكفان فينصب الماء في حوض يجري فيه إلى مقر، فإذا انصب الماء من البتية حصل القصد والجاذب لهاتين البتيتين مرمة هندسية بقسي ودوائر وحركات ولا يزال ذلك السرباق راكباً على بكرته طرداً وعكساً يمنة ويسرة وحول المرمة بغال معلمات تدور بذلك فإذا سمع البغل الدائر خرير الماء وجر السلسلة انقلب راجعاً على عقبه ودار يمشي في مرتبته بخلاف ما كان يمشي إلى أن يسمع خرير الماء وجر السلسلة فينقلب دائراً على خلاف دورته كذلك وهي من أعاجيب الدنيا فإذا وقف واقف وتكلم كلمة واحدة في رأس البئر سمع رجع صوته بتلك الكلمة نازلاً نحو لحظة جيدة حتى يبلغ الماء ثم يعود إليه فيسمعه كما قالها فإن صاح وغلب سمع دوياً واضطراباً بذلك الصياح كالرعود لبعد الماء وعمقه، ومن أعمال صفد مرج عيون وأرض الجرمق وهي مدينة قديمة عادية كانت بها طائفة من العبرانية ينسبون إليها يقال لهم الجرامقة والكنعانيون بوادي كنعان ابن نوح ومن عملها جبل بقيعة وبه قرية يقال لها البقيعة لها أمواه جارية ولها سفرجل مليح وبه قرى كثيرة الزيتون والفواكه والكرم وجبل الزابود مشرف على صفد والزابود قرية وبها أيضاً قرى كثيرة.

وفي بلاد الجليل أو عمل الأردن قرى دائرة ذكر بعضها ياقوت في معجمه مثل (كفرسبت) وهي قرية عند عقبة طبرية و (كفرعائب) وهي قرية على بحيرة طبرية من أعمال الأردن ذكرها المتنبي فقال:

أتاني وعيد الأدعياء وإنهم ... أعدوا لي السودان في كفر عاقب

ولو صدقوا في جدهم لحذرتهم ... فهل في حدي قولهم غير كاذب

ومثل (كفرمندة) قرية بين عكا وطبرية بالأردن يقال لها مدين المذكورة في القرآن والمشهور أن مدين في شرقي الطور وفي كفرمندة قبر صفوراء زوجة موسى عليه السلام وبه الجب الذي قلع الصخرة من عليه وسقى لهما والصخرة باقية هناك إلى الآن (عصرياقوت) وفيه ولدان ليعقوب يقال لهما أشير ونفتالي

و (دبورية) بليد قرب طبرية من أعمال الأردن قال أحمد بن منير

لئن كنت في حلب ثاوياً ... فنجني الغبير بدبورية

و (ديرالتجلي) على الطور زعموا أن عيسى عليه السلام علا عليهم فيه و (خيارة) قرية قرب طبرية من جهة عكا قرب حطين بها قبر شعيب النبي عليه السلام عن الكمال بن العجمي و (عفربلا) بلد بغور الأردن قرب بيسان وطبرية و (الصنبرة) موضع بالأردن مقابل لعقبة أفيق بينه وبين طبرية ثلاثة أميال كان معاوية يشتو بها و (أربد) بالفتح ثم السكون والباء الموحدة قرية بالأردن قرب طبرية عن يمين طريق المغرب بها قبر أم موسى بن عمران عليه السلام وقبور أربعة من أولاد يعقوب عليه السلام وهم وإن وايسا جار وزبولون وكاد فيما زعموا و (اسكندرونة) قال ياقوت وجدت في بعض تواريخ الشام أن اسكندرونة بين عكا وصور و (اكسال) قرية من قرى الأردن بينها وبين طبرية خمسة فراسخ من جهة الرملة ونهر أبي خطرس لها ذكر في بعض الأخبار كانت بها وقعة مشهورة بين أصحاب سيف الدولة بن حمدان وكافور الإخشيدي فقتل أصحاب سيف الدولة كل مقتلة و (معليا) من نواحي الأردن بالشام و (الزيب) قرية كبيرة على ساحل بحر الشام قرب عكا و (صفورية) كورة وبلدة من نواحي الأردن بالشام وهي قرب طبرية و (الأقحوانة) موضع بالأردن من أرض دمشق على شاطئ بحيرة طبرية حدث هشام بن الوليد عن أبيه قال خرج قوم من مكة نحو الشام وكنت قيمهم فبينما نحن نسير في بلاد الأردن من أرض الشام إذ رفع لنا قصر فقال بعضنا لبعض لو ملنا إلى هذا القصر فأقمنا بفنائه حتى نستريح ففعلنا فبينما نحن كذلك إذ انفتح باب القصر وانفرج عن امرأة مثل الغزال العطشان فرمقها كل منا بعين وامق وقلب عاشق فقالت: من أي القبائل أنتم ومن أي البلاد قلنا: نحن أضاميم من هنا وهناك فقالت أفيكم من أهل مكة قلنا: نعم، فأنشأت تقول:

من كان يسأل عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزل قمن

وإن قصري هذا ما به وطني ... لكن بمكة أمسى الأهل والوطن

إذ نلبس العيش صفواً ما يكدره ... قول الوشاة وما ينبو به الزمن

من كان ذا شجن بالشام ينزله ... فبالأباطح أمسى الهم والحزن

ثم شهقت شهقة وخرت مغشية عليها فخرجت عجوزة من القصر فنفخت الماء على وجهها وجعلت تقول في كل يوم لك مثل هذا مرات تالله للموت خير لك من الحياة فقلنا أيتها العجوز ما قصتها فقالت: كانت لرجل من أهل مكة فباعها فهي لا تزال تنزع إليه حنينا وشوقاً.

هذا ما تيسر نقله مما تأثرت به النفس في رحلة قصيرة إلى تلك الكورة في الشهر الماضي، ولو وفق أهالي عكا إلى تحقيق ما يفكرون به ويلتمسونه من الحكومة من إلحاق لوائهم بولاية سورية لأصبحت مدينتهم أو حيفا ميناءً مهمة لدمشق ومورد التجارات من أوروبا ومصدر الغلات من بلادنا ولعاد لبلاد الجليل بهاؤها القديم ولما أضر ذلك بعمران بيروت وطرابلس ضرراً يذكر إذ كل بلد ينال إذ ذاك حظه من الرقي، وقد كان الفكر الشائع يوم بوشر بمد شعبة من السكة الحجازية من حيفا أن تسقط بيروت عن مكانتها التجارية فرأيناها بعد أن تم ذلك الخط قد زادت بيروت مكانة ولم يغادرها من التجار إلا أفراد قلائل وعمرت حيفا بعض الشيء وإذا جعلت لهذه ميناء ترسو فيها السفن آمنة كما هي الحال في بيروت ترتقي أيضاً زيادة ولا تضر بغيرها.

والعمران كالثروة لا يحلو وينفع إلا إذا كان موزعا بين البلاد على التساوي وحبذا يوم يكون فيه لكل ميناء من موانئ سورية صغيرة كانت أو كبيرة مرفأ أمين للسفن وخط حديدي يصلها بالبلاد الداخلية ولو بخطوط زراعية ضيقة يومئذ يقال أن سورية دخلت في دور العمران.