مجلة المقتبس/العدد 60/في أرض الجليل
مجلة المقتبس/العدد 60/في أرض الجليل
من دمشق ركبنا قطار السكة الحجازية قاصدين إلى بلاد الجليل فاجتار بنا سهول حوران وجزءاً من وادي الأردن والغور ومعظم البلاد التي مررنا بها تبعث النفس على النظر والعين على التحديق والفكرة على التأمل لما جرى فيها من الوقائع والحوادث في سالف الأعصار.
وإن أرضاً أخرجت رسولاً كالسيد المسي عليه الصلاة والسلام فكانت مهوى افئدة اهل النصرانية في العالم على اختلاف الأعصار والأقطار لحرية بأن تزار مهما شظت بقاصدها الديار فما بالك وهي الآن منا بضع ساعات في قطار البخار، وإن بلاداً مضى على أبناء إسرائيل ألوف من السنين وهم لم ييأسوا من استرجاعها لجديرة أن يخف إليها كل من يروم البحث في اجتماع الأمم وافتراقها.
يحد بلاد الجليل شرقاً الأردن وجنوباً الكرمل وجبال افرايم وغرباً بحر الروم وشمالاً فينيفية ولبنان وتسمى هذه البلاد جليل الأمم لكثرة الأمم فيها وفي الجليل تربى يسوع وفيها صرف أكثر مدة خدمته جهراً فدعي جليلياً وكان تلاميذه جليليين ماعدا يهوذا الاسخريوطي واشتهر الجليليون بشدة البأس فقال يوسيفوس المؤرخ اليهودي الذي كان هو نفسه جليلياً أنهم كانوا يتمرنون على استعمال كل أنواع الأسلحة منذ الصغر، وقد اشتهروا بشدة مقاومتهم للرومانيين وآل خراب اورشليم إلى نجاح الجليل فأصبحت دار العلوم اليهودية ونقل إليها السنهدريم مجمع الأمة العظيم فجعل اولا في اوشته وهي الآن خربة هوشته قرب شفا عمرو ثم نقل إلى شفرام وهي الآن شفا عمرو ثم إلى بيت شعرايم وصفوري وطبرية وكانت الجليل مقسومة إلى قسمين الجليل السفلى وطولها من طبرية إلى زبولون قرب عكا وعرضها من قرية كسالوت قرب تايور إلى بيرسبع (غير بير سبع في الجنوب) وكان فيها على رواية بوسيفوس 240 قرية وفي أصغرها 15000من السكان والجليل العليا طولها من ميلون غرباً إلى طلة قرب الأردن شرقاً وعرضها من بير سبع جنوباً إلى بقعة على حدود أرض صور شمالاً.
ومعنى الجليل بالعبرانية الدائرة أو المقاطعة وكانت تطلق خاصة على القطر الشمالي من أرض الموعد وفيها عشرون مدينة أعطاها سليمان إلى ملك صور لقاء خدمه في عمارة المعبد في القدس وكان يسكن هذه البلاد جمهور من الوثنيين ومن هنا اشتق اسمه الأمم وكانت بلاد الجليل تمتد على عهد عيسو إلى ضفاف بحيرة طبرية ثم دخل فيها سهل يزرعيل مرج ابن عامروعلى عهد السيد المسيح كانت عبارة عن أرض عازر ونفتالي وزبولون وازياخار وظلت مقتسمة إلى جليل أعلى وجليل أسفل الأول يمتد إلى شمالي الخط الممتد من عكا إلى كفر ناحوم والثاني يدخل فيه القسم الجنوبي.
ويمكن على الجملة أن يقال أن أرض الجليل واقعة اليوم في الجهة الشمالية من بلاد فلسطين بين لواءي عكا ونابلس وفي الجهة الغربية من نهر الأردن ويدخل فيها قضاء صفد وقضاء طبرية وقضاء الناصرة وبعض قضاء جنين ومن أعمالها مرج ابن عامر وكانت أهم مدن الجليل بطلومايس التي أصبحت فيما بعد عكا وصفورية والناصرة وكفركنة وبتولي وكفر ناحوم وسكانها كما هم الآن مزيج من أمم مختلفة وأهم عناصرهم اليهود والآشوريون وكان هذا الاقليم على عهد ظهور النصرانية عامراً جداً بالسكان غنياً مزهراً وله حياة سياسية كما له حياة دينية وجميع أنواع العبادات والمذاهب تجري فيه حرة مطلقة لا شيء ينغص عليها أمرها وتكثر فيه النباتات والزهور من كل نوع وفيه غابات كثيرة كان يستخرج منها خشب السفن.
وعرف العرب أرض الجليل بجبل الجليل فقال ياقوت أن جبل الجليل في ساحل الشام ممتد إلى قرب حمص كذا كان معاوية يحبس في موضع منه من يظفر به ممن ينبز بقتل عثمان وقال ابن الفقيه وكان منزل نوح عليه السلام في جبل الجليل بالقرب من حمص في قرية تدعى سحر ويقال أن بها فار التنور قال وجبل الجليل بالقرب من دمشق أيضاً وهو جبل يقبل من الحجاز فما كان بفلسطين منه فهو جبل الحمل وما كان بالأردن فهو جبل الجليل وهو بدمشق لبنان وبحمص سنير، وهذا التعريف أقرب إلى الجلاء من غيره، وقال ابن عساكر أن جبل الجليل من أعمال صيداء وبيروت من ساحل دمشق، وهو تعريف حسن في الجملة قال أبو قيس بن الاسات:
فلولا ربنا كنا يهوداً ... وما دين اليهود بذي شكول
ولولا ربنا كنا نصارى ... مع الرهبان في جبل الجليل
ولكنا خلقنا إذا خلقنا ... حنيف ديننا عن كل جيل
قلنا إن أرض الجليل كانت معترك الأمم والأديان من قديم الزمان ولقد جاء عليها عهد أيام الرومان كانت فيه الأديار والبيع والمعابد مبثوثة في كل بقعة من بقاعه وقرية من قراه ولما فتحها المسلمون عاملوا أهلها بالرفق وأقروهم على عبادتهم شأنهم في فتوحاتهم ولكن دالت الدول وكرت الأعصار وجيشت ملوك أوروبا على الشرق جيوشها في القرون الوسطى وكانت الحرب الصليبية سجالا بين المسلمين والصليبيين في هذه الارض مدة قرنين فلا عجب إذا شهدنا أسوار المدن مهدمة وآثار البيع والاديار معفاة داثرة وأشجار ذاك الصقع وغاباته مدمرة وكثيراً من مدنه قرى صغيرة أو مزارع بائرة.
خربت هذه الديار بأدوار اتت عليها كان القول الفصل في سياسة حكومات الأرض لرجال الدين وكان أهل الصليب من أمم أوروبا كلما أرادوا أن يرجعوا أدراجهم ويتخلوا عن هذه الأرض يحفز أرواحهم حافز من القساوسة والشمامسة ومن لف لفهم من حملة الدين فيلقون بأنفسهم في مآزق صعبة ويركبون إلى نيل اوطارهم كل ذلول وصعبة فتردهم جيوش المسلمين عن استباحة حمى الإسلام لأن فلسطين أوسورية إذا ملكها الافرنج يضيع الإسلام المسجد الاقصى ويوشك أن يكون الخطر محدقاً بالحرمين الشريفين مبعث الوحي والرسالة ومحج أهل الإسلام من العالمين ولذلك هاجم الصليبيون هذه الديار بسائق الدين ودافع عنها المسلمون بسائق الدنيا والدين فكتبت الغلبة لأهل هذه البلاد وقلما ظفر مهاجم ورجع الدخلاء عنها مدحورين ولكن بعد أن خرب العامر والغامر وأصبحت نفراء جرداء لا تجد فيها خضراء ولا غضراء.
ولقد كانت طبرية عاصمة الجليل ولها شأن مذكور بين مدن تلك الأرباض أسست عام 17 للمسيح على يد هيرود انتيباس حاكم الجليل الذي جعلها عاصمته وسماها بالاسم الذي عرفت به إلى اليوم إكراماً لحاميه الامبراطور طيباريوس الروماني وكانت المدينة جنوبي موقع المدينة الحالية اولا اي حوالي الحمامات المعدنية ويسمى اليوم ذاك المكان بخربة الحمام وذلك لأنه اكتشفت مدافن وقبور في مكان المدينة القديمة فأبى اليهود أن يسكنوها لان خرق حرمة المدافن يعد عندهم من الكبائر، ولم يستطع هيرود أن يسكن طبرية لاول انشائها الا باناس من طبقة واطئة انعم عليهم بأنواع الاحسان وأغدق عليهم الأعطيات ترغيباً لهم ولما توفي عاملها عهد الامبراطور نيرون إلى اغريبا الفنى بالولاية عليها سنة 41 فلم يكن منه إلا أنه أسقط طبرية عن مكانتها واختار صفورية لتكون عاصمة الجليل.
ولما انتفض اليهود على الرومانيين عهد إلى المؤرخ يوسيفوس أن يكون والياً على الجليل الاسفل والأعلى فحصن طبرية وكانت ينتابها ليؤيد نفوذ الدولة على الشاغرين من أهلها، واستسلم أهل طبرية لفباسيان وفتحوا له أبوابها لما داهم الجليل بجيشه فكان ذلك سبب أنعام الرومانيين عليهم بضروب الاحسان بعد خراب بيت المقدس.
ولئن سحق الامبراطور ادريانوس الامة الاسرائيلية وأنشأ له معبداً في طبرية لعبادة الأوثان فقط ظل نفوذ اليهود مستحكماً بعده، وإن عد اليهود طبرية بموجب شريعة اسرائيل من المدن القذرة فإن لربانيين منهم اختاروها واتخذوها بلدهم المقدسة وجعلوها محجهم الجديد وفي أواخر القرن الثاني انتقل من صفورية إلى طبرية كبار رجال التلمود عندهم ونشأ منهم ربابنة عظماء يقدسونهم ويمجدونهم ومنهم الذين جمعوا المبعثر من شريعة اسرائيل ودخلت النصرانية في القرن الرابع إلى طبرية.
فتحت طبرية على يد شرحبيل بن حسنة في سنة 31 هـ صلحاً على أنصاف منازلهم وكنائسهم وقيل أنه حاصرها أياماً ثم صالح أهلها عل انفسهم وأموالهم وكنائسهم إلا ما جلوا عنه وخلوه واستثنى لمسجد المسلمين موضعاً ثم نقضوا في خلافة عمر رضي الله عنه واجتمع إليهم قوم من شواذ الروم فير أبو عبيدة إليهم عمرو بن العاصي في اربعة آلاف وفتحها على مثل صلح شرحبيل وفتح جميع الأردن على مثل هذا الصلح بغير قتال قال ياقوت: وهي بليدة مطلة على البحيرة المعروفة ببحيرة طبرية وهي في طرف جبل وجبل الطور مطل عليها وهي من أعمال الأردن في طور الغور بينها وبين دمشق ثلاثة أيام وكذلك بينها وبين بيت المقدس وبينها وبين عكا يومان هي مستطيلة على البحيرة وعرضها قليل حتى تنتهي إلى جبل صغير فعنده آخر العمارة.
ولما فتح الصليبيون بيت المقدس اقطع ملكها غود نرى دي بوليون ولاية الجليل إلى تنكر يد فجعل عاصمتها طبرية فأنشئت مدينة حديثة شمالي القديمة وهي الموجودة اليوم وفي سنة 1187 قبيل وقعة حطين كان يملك طبرية ريمون الثالث كونت طرابلس فسقطت المدينة بيد صلاح الدين إلا القلعة وكان فيها امرأته وأولاده فطلبت الأمان من صلاح الدين فأمنها وانصرفت عنها تلحق بزوجها وغدت طبرية في سنة 1239 ملكاً لاود دي مو بيلارد بموجب معاهدة عقدت بين الملك الصالح أيوب سلطان دمشق ضد ملك مصر فاستعادها هذا بعد خمس سنين وذبح الحامية والنصارى فيما يقول الافرنج وأخذت هذه المدينة بالانحطاط حتى أن الرحالة كارسيموس لما زارها سنة 1620 لم يرقيها أحداً من اليهود ووجد سكانها كلهم من المسلمين.
وحكم طبرية ظاهر العمر حاكم عكا وهو الذي بنى سورها المتهدم الحالي سنة 1738 وجدده ابراهيم باشا المصري سنة 1833 ولكن أصيبت بعد أربع سنين من هذا التاريخ بزلزال لم يبق منها ولم يذر هلك فيه سبعمائة شخص وقوضت أركان أبنيتها كافة وقل سكانها المسلمون ونزلها يهود من أطراف الأرض وهم اليوم أكثر من ثلاثة أرباع سكانها لا يقلون عن سبعة آلاف فيهم النمساوي والبولوني والروسي وغيرهم.
وأهم ما في طبرية حماماتها وبحيرتها قال علي بن أبي بكر الهروي: أما حمامات طبرية التي يقال أنها من عجائب الدنيا فليست هذه التي على باب طبرية على جانب البحيرة (المعروفة اليوم) فإن مثل هذه كثيراً ما رأينا في الدنيا وأما التي من عجائب الدنيا فهو موضع من أعمال طبرية شرقي قرية يقال لها الحسينية في واد وهي عمارة قديمة يقال أنها من عمارة سليمان بن داود وهو هيكل يخرج الماء من صدره وقد كان يخرج من اثنتي عشرة عيناً كل عين مخصوصة بمرض إذا اغتسل فيها صاحب ذلك المرض برئ بإذن الله تعالى والماء شديد الحرارة جداً صاف عذب طيب الرائحة ويقصده المرضى يستشفون به وعيون تصب في موضع كبير حر يسبح الناس فيه ومنفعته ظاهرة وما رأينا ما يشابهه إلا الشرميا.
قلنا وإن ما يشير إليه من الحمامات بأنه في واد بعيد عن طبرية وهو من عجائب الدنيا يشير فيما نحب إلى الحمة الواقعة في وادي اليرموك على طريق الخط الحديدي عند الكيلومتر 93 و 95 قال أبو القاسم في وصف حمة طبرية وفيها عيون ملحة حارة وقد بنيت عليها حمامات فهي لا تحتاج إلى الوقود تجري ليلا ونهاراً حارة وبقربها حمة يغتمس فيها الجرب وبها مما يلي الغور بينها وبين بيسان حمة سليمان بن داود عليه السلام ويزعمون أنها نافعة من كل داء.
وهذه الحمة الأخيرة أي حمة سليمان لا تزال إلى اليوم معروفة بحمام سيدي سليمان وهي إحدى الحمامات الكائنة في جنوب طبرية على نحو كيلومترين منها ويجري الماء إلى الحمامات من أربع عيون حارة وأهمها ما بناه ابراهيم باشا وهو في الشمال ويعرف باسمه وهو عبارة عن حوض كبير تحيط به عمد قديمة من الرخام وعليه قبة عظمى وهي مثقوبة بثقوب اسطوانية يخرج منها البخار ودرجة حرارة الماء 62 بالميزان المئوي وهو صاف براق في الجملة ملح الطعم مر مهوع وتنبعث منه رائحة شديدة من حامض الكبريت أو رائحة بيض فاسد، وهذه الحمات ملك الحكومة تؤجرها ممن تريد لقاء ألف ليرة في السنة وفيها مغاطس في مكان آخر قد يغير صاحب الحمام مياهها في الاحايين ولكنها كسائر أقسام الحمامات الأربعة غير صحية لان أناساً كثيرين من أرباب الأمراض المختلفة ينزلونها في وقت واحد ويخشى أن تسري جراثيم بعض الأمراض إلى جسم من كان منها سليماً فيخسر بانغماسه في هذا الماء من حيث يريد الربح ولو رتبت هذه الحمامات ترتيباً صحياً كما هو الحال في حمامات مارينباد في النمسا وبورصة في الاناضول وحلوان في مصر وأنشئت هناك كما هو رأي بعض المفكرين في عمران هذه الديار للانتفاع بخصائصها الطبيعية فنادق وحدائق وأماكن تتوفر فيها شروط الراحة ومرافق الحياة لجلبت المستحمين في هذه الحمة من اقطار الأرض كما تجلب حمامات بورصة وحلوان ومارينباد وباد.
وموسم الاستحمام بهذه الحمامات من اول كانون الثاني إلى آخر حزيران وتختلف الحرارة في الصيف في طبرية من 25 إلى 42 ولكن الهواء حسن في الجملة فلا يؤثر في سكانها الأصليين كثيراً بقدر تأثيره في الغرباء ولذلك صدق ما قاله فيها أبو عبد الله ابن البناء: طبرية قصبة الأردن بلد وادي كنعان موضوعة بين الجبل والبحيرة فهي ضيقة كربة في الصيف وخمة وبئة وطولها نحو من فرسخ بلا عرض وسوقها من الدرب إلى الدرب والمقابر على الجبل بها ثمان حمامات بلا وقيد حارة الماء والجامع في السوق كبير حسن فرشه مرفوع بالحصى على اساطين حجارة موصولة ويقال أن أهل طبرية شهرين يرقصون من كثرة البراغيث وشهرين يلوكون يعني البق فإنه كثير عندهم وشهرين شاقفون يعني بإيديهم العصي يطردون الزنابير عن طعومهم وحلاوتهم وشهرين عراة يعني من شدة الحر وشهرين يزمرون يعني يمصون قصب السكر وشهرين يخوضون من كثرة الوحل في أرضهم قال وأسفل طبرية جسر عظيم عليه طريق دمشق وشربهم من البحيرة وحول البحيرة كله قرى متصلة ونخيل فيها سفن كثيرة وهي كثيرة الأسماك لا تطيب لغير أهلها والجبل مطل على البلد وماؤها عذب ليس بحلو.
ويرى أطباء العصر أن مياه طبرية الحارة تنفع النساء في وظائفهن التناسلية وتشفي كل الشفاء من الأوجاع العصبية الحادة والمزمنة ومن أمراض الرثية الروماتيزم ومن ضعف المجموع العصبي ومن داء النقرس ومن البول السكري ومن المرة السوداء لابوخندريا ومن أمراض أعضاء التناسل ومن الأورام المفصلية التي هي في حال الوقوف كما قد تنفع في التهاب قصبة الرئة برونشيت المزمن وبعض أمراض الأنف والحنجرة المزمنة والأمراض الجلدية وعدم انتظام حركة سلسلة الفقار واختناق الرحم والبول الزلالي والتدرن الرئوي وغيرها.
أما بحيرة طبرية فقد قال فيها واصفوها من الافرنج أنها الحوض الثاني الذي يملؤه نهر الأردن في طريقه عند انحداره من قيسارية إلى بحيرة لوط وسطح مائها على 308 أمتار تحت سطح البحر المتوسط وعمق البحيرة 45 متراً في وسطها ولكنه يبلغ 250 متراً في اللجج المجاورة للشاطئ الجنوبي من البحيرة اي قرب سمخ التي يركب منها إلى طبرية في قارب في البحيرة ساعة أو يركب في مركبة على اليابسة ساعة ونصفاً.
وطول البحيرة 21 كيلو متراً من الشمال إلى الجنوب وعرضها تسعة كيلومترات ونصف أي أن مساحتها السطحية 170 كيلومتراً مربعاً ومياهها قابلة للشرب في الفصول الأربعة وفيها كثير من السمك الجيد والجبال التي تحيط بالبحيرة في الجنوب الغربي تنفرج عنها في الشمال الغربي فيتالف منها نصف دائرة متسعة وفيها يكون سهل النويز الخصيب وعلى ثمانمائة متر من البحيرة إلى الأعالي عدة قرى وبينها مدينة صفد القديمة وفي الشمال من البحيرة سهل مموش يشعر بمصب الأردن وفوق السهل المتوج الذي يفصل بحيرة طبرية عن بحيرة الحولة أو مياه ميروم تنظر إلى قنن جبل حرمون (الشيخ) المكللة بالثلوج ويحد البحيرة من الشرق والجنوب الشرقي صخور عالية هائلة يبلغ علوها نحو ثلاثمائة متر وهي تحمل سطح الجولان وفي الجنوب ينفرج الغور ثانية فيجتازه الأردن ويتلون فيؤلف أضواجاً عديدة.
وكان اسم هذه البحيرة في القديم كنريت اشارة إلى شكلها البيضي الذي يشبه عود الطرب واسمه بالعبرانية كنور على أن هذا الشكل هو عام في جميع البحيرات التي تحيط بها الجبال ويجتازها نهر وكانت كنريت معروفة قبل العبرانيين من مدن الكنعانيين وبعد سبي بابل دعيت البحيرة بحيرة الغوير أخذاً من اسم السهل الخصيب الذي يصل إلى شواطئها من الشمال الغربي وسميت في العهد الجديد ببحيرة الجليل وببحيرة طبرية وهذا الاسم هو الذي أطلقه عليها العرب.
ولم يخل هذا البلد على حرارته من رجال في الإسلام ولدوا ونشأوا وكانت لهم يد في خدمة المسلمين مثل الامام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير أبي القاسم الطبراني أحد الأئمة المعروفين والحفاظ المكثرين والطلاب الرحالين الجوالين والمشايخ المعمرين المصنفين المحدثين والثقات الاثبات المعدلين وغيرهم ممن يفنى الدهر والخلف يتناقل عن السلف أعمالهم.
وكان الأردن على عهد الفتح الاسلامي أحد أجناد الشام الخمسة وهي كورة واسعة منها الغور وطبرية وصور وعكا وما بين ذلك قال أحمد بن الطيب المرخسي الفيلسوف هما أردنان أردن الكبير وأردن الصغير فأما الكبير فهو نهر يصب إلى بحيرة طبرية بينه وبين طبرية لمن عبر البحيرة في زورق اثنا عشر ميلا تجتمع فيه المياه من جبال وعيون فتجري في هذا النهر فتسقي اكثر ضياع جند الاردن مما يلي ساحل الشام وطريق صور ثم تنصب تلك المياه إلى البحيرة التي عند طبرية وطبرية على طرف جبل يشرف على هذه البحيرة فهذا النهر في الأردن الكبير بينه وبين طبرية البحيرة وأنا الاردن الصغير فهو نهر يأخذ من بحيرة طبرية ويمر نحو الجنوب في وسط الغور فيسقي ضياع الغور وأكثر مستغلهم السكر ومنها يحمل إلى سائر بلاد الشرق وعليه قرى كثيرة منها بيسان وقرارا واريحا والعوجاء وغير ذلك وعلى هذا النهر قرب طبرية قنطرة عظيمة ذات طاقات كثيرة تزيد على العشرين ويجتمع هذا النهر ونهر اليرموك فيصيران نهراً واحداً فيسقي ضياع الغور وضياع البثنية ثم يمر حتى يصب في البحيرة المنتنة في طرف الغور الغربي وللأردن عدة كور منها كورة طبرية وكورة بيسان وكورة بيت رأس وكورة جدر وكورة عفورية وكورة صور وكورة عكا وغير ذلك، وقد فتح طبرية لما انتقضت عمرو بن العاص كما قلنا فتحها على مثل صلح شرحبيل وكذلك جميع مدن الأردن وحصونها ففتح بيسان وافيق وجرش وبيت رأس وقدس والجولان وعكا وصور وصفورية وغلب على سواد الأردن وجميع أرضها.
في وادي الأردن بين قرية لوبية وطبرية في سهل قرية حطين وقعت الوقعة الهائلة بين جيوش الصليبيين وجيوش المسلمين ورأسهم صلاح الدين التي قال فيها مؤرخو الصليبيين أنها كانت في الرابع من تموز سنة 1187م وكان جيش الافرنج مؤلفاً من ألفي فارس وخمسين ألف راجل اشتد بهم العطش لقلة الماء هناك وبرحت بهم تباريحه قبل الوقعة بيومين وهبت عليهم ريح شرقية وهي المعروفة بالخماسين فمن لم يسلم الروح ظلماً اسلمها للسيف وانهزم الكنت ريموند صاحب طرابلس فاستولى صلاح الدين على الاكمة وقتل من ملوكهم صاحب الكرك رنودي شاتليون الذي كان غزا الحجاز واحب فتح الحرمين فنذر صلاح الدين أن هو ظفر به أن يقتله بيده وكذلك كان واستسلمت سائر المواقع لإرادة الجيش الصلاحي.
وكان صلاح الدين قد نازل طبرية ونقب بعض ابراجها ونهب المدينة وأحرقها فلما سمع الفرنج بذلك اجتمعوا للمشورة فأجمعوا على التقدم فركبوا واشتد القتال وصبر الفريقان ورمي جاليشية المسلمين من النشاب ما كان كالجراد المنتشر والافرنج يقاتلون سائرين نحو طبرية لعلهم يردون الماء فلما علم صلاح الدين مقصدهم صدهم عنه وكان بعض المنطوعة قد ألقى في تلك الأرض ناراً وكان الحشيش كثيراً فاحترق وكانت الريح فحملت حر النار والدخان إليهم فاجتمع عليهم العطش وحر الزمان وحر النار والدخان وحر القتال فلما انهزم القمص (الكنت) سقط في أيديهم وكادوا يستسلمون ثم علموا انهم لا ينجيهم من الموت إلا الاقدام عليه فحملوا حملات متداركة كادوا يزيلون المسلمين على كثرتهم عن مواقفهم إلا أن الافرنج لا يحملون حملة فيرجعون لا وقد قتل منهم فوهنوا لذلك وهناً فارتفع من بقي منهم إلى تل بناحية حطين وأرادوا أن ينصبوا خيامهم هناك فاشتد القتال عليهم من سائر الجهات واخذ المسلمون صليبهم الأعظم الذي يسمونه صليب الصلبوت ويذكرون أن فيه قطعة من الخشب التي صلب عليها المسيح عليه السلام فيما يقال فكان أخذه من أعظم المصائب إلى أن أسر المسلمون من نجا من حد السيف وفيهم الملك وأخوه والبرنس ارنلط (ارنولد) صاحب الكرك ولم يكن في الفرنج أشد منه عداوة للمسلمين وأسروا أيضاً صاحب جبيل وابن هنفري ومقدم الداوية وكان من أعظم الفرنج شأناً وأسروا أيضاً جماعة من الداوية وجماعة من الاسبتارية (الاسبتالية) وكثر القتل والااسر فيهم فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحداً ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا أحداً وما أصيب الفرنج منذ خرجوا إلى الساحل وهو سنة إحدى وتسعين واربعمائة إلى الآن (583) بمثل هذه الوقعة قال ابن الأثير: ولقد اجتزت بموضع الوقعة بعدها بنحو سنة فرأيت الأرض ملأى من عظامهم تبين على البعد منها المجتمع بعضه على بعض ومنها المفترق هذا سوى ما جحفته السيول وأخذته السباع في تلك الآكام والوهاد.
واختلفت الروايات في مقدار عسكر صلاح الدين والصحيح على أنه كان نحو جيش الصليبيين أي يزيد عن خمسين ألف مقاتل إلا أنه كان يزداد كل يوم حتى صار معه في طبرية ثمانون ألف مقاتل واجتمع عسكر الصليبيين في الجليل في صحراء صفورية أولاً إلى أن كانت هذه الوقعة التي لم تقم لهم بعدها قائمة وسقطت مدن الجليل بيد الجيش الصلاحي واحدة بعد أخرى مثل عكا والناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف والفولة وغيرها من البلاد المجاورة لعكا قال العماد الاصفهارني: وكانت الفولة أحسن قلعة وأحصنها واملأها بالرجال والعدد واشحنها وهي للداوية حصن حصين ومكان مكين وركن ركين ولهم بها منبع منيع ومربع مريع ومسند مشيد ومهاد مهيد وفيها مشتاهم ومصيفهم ومقراهم ومضيفهم ومربط خيولهم ومجر ذيولهم ومجرى سيولهم ومجمع اخوانهم ومشرع شياطينهم وموضع صلبانهم ومورد جمتهم وموقد جمرتهم فلما اتفق يوم المصاف خرجوا باجمعهم إلى مصرعهم واثقين بأن الكدر لا يتمكن من صفو مشرعهم فلما كسروا وأسروا وخسروا وتحسروا ظلت ظلول انفولة بحدود اهلها المفلولة ودماء داويتها المطلولة ولم يجتمع شمل غمودها بالسيوف المسلولة ولم يبق بها إلا رعايا رعاع وغلمان وأتباع واشياع شعاع فعدموا امكان حماية المكان ووجدوا امنهم في الاستئمان فسلموا الحصن بما فيه إلى السكان وكانت فيه اخاير الذخائر ونفائس الاعلاق فوثقوا بما أحكموه من الميثاق وخرجوا ناجين ودخلوا في الزمام لاجين وللسلامة راجين وتسلم جميع ما كان في تلك الناحية من البلاد مثل دبورية وجينين وزرعين والطور والمجون وبيسان والقيمون وجميع مالطبرية وعكا من الولايات والزيب ومعليا والبعنة واسكندرونة ومنوات.
هذه هي عاصمة الجليل وهذا طرف من تاريخها وعمرانها في القديم أما اليوم فحالها حال قرية حقيرة لا نكاد تجد فيها شجرة مع اشتهارها قديماً بكثرة الاشجار بلا أن النخيل الذي كان يكثر فيها لا تجد له إلا أثراً ضئيلاً جداً كما كاد يفقد من أرض الجليل اللهم إلا بعض سواحل البحر ولذلك تجد طبرية باهتة مكمدة ولو حفت المراف البحيرة بالأشجار لطاب مناخها واعتدل هواؤها وراق للنواظر منظرها وأصبحت مصيفاً ومشتى على حد سواء ولكل الأهالي كالى والحكومة لا يهمها إلا أخذ ما تيسر من الضرائب والعثور.
قال لنا أحد أصدقائنا من علماء دمشق في الاقتصاد والعمران زرت طبرية منذ اثنتين وخمسين سنة وزرتها منذ سنتين فلم أشهد فرقاً في عمرانها بل رأيتها جامدة لم تتحرك ولولا فندق لالماني ومستشفى للانكليز لرسمت لطبرية نفس تلك الصورة التي علقت في ذهني منذ نصف قرن ومع ما نشكه من بطء بلادنا في نهوضها وعمرانها نجد القرى في هذه الحقبة من الزمن قد تغيرت صورتها وانبسطت رقعتها وحسنت ولو بعض الشيء بقعتها أما طبرية فهي الجمود بعينه ولم يزدها الاجالية من يهود الغرب نزلوها مهاجرين فكان المسكن الذي ينزله خمسة أنفس يؤوي الآن عشرين فتضايق السكان وفسد الهواء واستوبل الماء وافتقر أهل البلاد الأصليين لأن لسان حال الاسرائيليين والصهيونيين خاصة مع جميع الشعوب كما قال ذلك السامري لامساس.
كان من حق الناصرة أن يسبق الكلام عليها لانها اليوم أعمر بلاد الجليل ومهبط أفئدة أمم النصرانية ولكنها بلد حديث بالنسبة لبلاد الجليل بدأ مجدها بأنها كانت موطن مريم العذراء عليها السلام وفيها عاش المسيح إلى الثلاثين من عمره ولم ير لها ذكر في كلام قدماء المؤرخين ومعنى الناصرة الفرع أو الزهرة وهي على ثلاثة عشر ميلاً من طبرية ممتدة على شكل نصف دائرة في سفح دائرة من الآكام العالية وبيوتها بيضاء نظيفة تحيط بها أشجار الزيتون والتين والصبار وبذلك تألف منها صورة مليها لا تتعب العين من النظر إليها.
قال رنان: كانت الناصرة بلدة صغيرة قائمة في طية أرض منبسطة على متن بعض الجبال أما سكانها فإنهم يبلغون اليوم أربعة آلاف نسمة فكأنها الناصرة القديمة لأن المؤرخ يوسيفوس يقول أن أصغر قرى الجليل كان عدد نفوسها خمسة آلاف نسمة وإن كان هذا القول لا يخلو من مبالغة، والبرد في الناصرة شديدة في زمن الشتاء ولكن الهواء جيد جداً وكانت الناصرة في ذلك الزمن شبيهة بكل قرى اليهود يومئذ أي أنها كانت مؤلفة من منازل مبنية من غير هندسة ولا نظام ومنظرها شبيه بمنظر القرى الآسيوية وربما لم تكن منازل الناصرة تختلف عن المنازل الحجرية المربعة القائمة في جهات لبنان العامرة والتي إذا أضيفت إليها أشجار الكرمة والتين المغروسة بجانبها كان لها منها منظر رائق.
أما المكان الذي بنيت فيه الناصرة فإنه مكان شائق وليس في الدنيا كلها مكان أفضل منه للأمل في السعادة والراحة، ولا تزال هذه المدينة إلى اليوم مقاماً جميلاً، أما سكانها فهم قوم ألفوا اللطف والبشاشة وحدائقها باردة خضراء، وقد وصف انطونين مارتير الناصرة في أواخر القرن السادس عشر فشبه أرضها بأرض الجنة من فرط خصبها، ولا يزال في غربي المدينة أودية خصيبة ينطبق عليها وصفه.
أما العين التي كانت مركز الحركة في هذه المدينة وكان حولها السرور شاملاً فقد هدمت ولا يجري الآن من نبعها سوى ماء كدر وأما جمال النساء الناصريات اللواتي يجتمعن حولها في المساء من ذلك الجمال الذي كان مشهوراً عنه في القرن السادس عشر أن هبة للناصريات من مريم العذراء فإنه لا يزال يترقرق في وجوههن فهناك الشكل السوري الجميل في أتم خلقه.
ولا شبهة في أن العذراء كانت تقف في صباها بين أولئك النساء حول العين ومعها إناء الماء لتستقي منها، وقد قال انطونين مارتير أن نساء اليهود يكرمن المسيحيين في هذا المكان مع أنهن يكرهنهم كرهاً شديداً في غيره، فكأن هواء وطن السيد لطف أخلاقهن، وإذا نظرت في البغض الديني وجدته في هذا المكان أخف منه في سائر الأمكنة.
وأما منظر الأفق من المدينة فإنه قصير ضيق ولكنك إذا صعدت إلى الآكام المشرفة عليها انبسط أمامك منظر جميل يسحر الألباب، فإنه من الجهة الغربية يظهر لك جبل الكرمل ممتداً إلى البحر وداخلاً فيه ويليه غيره من الجبال بينها وادي الأردن وسهول بيريا المرتفعة، أما في جهة الشمال فإنك ترى جبال صفد متجهة نحو البحر وهي تستر عنك عكا وتظهر لك خليج حيفا.
مذ كان أفق يسوع، هذا كان في صباه المنظر الدائم أمام عينيه، هذا هو مهد ملكوت الله وسرير الديانة المسيحية، فإذا بقي العالم مسيحياً في مستقبل الزمان وصار أكثر احتراماً لأصول الدين وأشد رغبة في استبدال الأماكن المقدسة المشكوك فيها بأماكن حقيقية فما عليه إلا أن يبني كنيسة على هذه الآكام التي كان يسوع يجلس عليها ويشاهد العالم بها، هناك يجب أن تقام الكنيسة الكبرى التي يجب أن يحج إليها المسيحيون من جميع أقطار العالم، هناك حيث يرقد يوسف النجار وألوف من أبناء الناصرة المنسيين يحق للفيلسوف أن يقف ويتأمل في مجرى حوادث العالم ليعزي نفسه عما يصادفه الانسان في هذه الحياة من الفشل والخيبة في أعز ما يكون لديه ولكي يتحقق أن العالم سائر إلى غرض إلهي لا يصرفه شيء عنه مهما قام في سبيله من المصاعب والعثرات.
هذا ماوصف به فيلسوف الفرنسيس الناصرة بلد يسوع الناصري كما كان يقال له والتي منها اشتق اسم النصارى وهو وصف ينطبق كل الانطباق على حالتها اللهم إلا ما جاء عفو الخاطر فكان أشبه بتشبيه شاعر مثل قوله في مكان الناصرة أنه ليس في الدنيا كلها مكان أفضل منه للتأمل في السعادة والراحة ونظن مثل هذا القول يصح إطلاقه على جبال سورية عامة بل جبال الأرض كافة فهي كلها تبعث الروح على التأمل لفراغ الذهن فيها من كدورات المدن وازدحام الأنفاس ولما تقع عليه العيون من المناظر الشائنة في هذا الوجود الغريب وكيف كانت الحال فالفيلسوف يعذر على ما قال لنشأته وتربيته التي قلما يتجرد منها إنسان مهما نزع ربقة القيود والتقاليد ولكن هذا الغلو لا يقدح في جمال هذا البلد الطيب وأي بلاد لا تطيب لأهلها.
أما تاريخ الناصرة فله ارتباط كلي بتاريخ الجليل وبعد فلم تداهم جيوش كبرى وهولاكو وتيمور هذا الإقليم فلم من غاراتهم وتخريبهم ولقد قال بعض مؤرخي الافرنج أن التسامح الذي أسداه المسلمون للمسيحيين لم يدم زمنه طويلاً حتى أن ويلبالد لما وصل إلى الناصرة سنة 725 م لم يجد فيها كنيسة قائمة ومع هذا ذكروا بأنه كان فيها سنة 808 ثمانية عشر راهباً.
وتغلب الامبراطور يوحنا سيميسيس على العرب واستولى على سورية وفلسطين واحتل طبرية عام 975 م وجبل تابور والناصرة ولكن ادخل عليه خصيانه السم فعادت الولايات التي افتتحها فسقطت في أيدي العرب، وقد قال ساولف أن تنكرد لما فوضت إليه بعد فتح القدس بلاد الجليل سنة 1100 م كانت معاهد الناصرة قد خربها العرب ولم يبق إلا بعضها فأعاد الصليبيون بناءها واتخذوها كنيسة جامعة لهم، ولما سقطت أرض الجليل بيد صلاح الدين بعد وقعة حطين آضت الناصرة أيضاً إليها فعطف على أهلها وفي خلال هدنة العشر سنين المعقودة بين الصليبيين وصاحب مصر في 20 شباط 1229 أصبح فريدريك الثاني امبراطور ألمانيا الحاكم المتحكم بالطريق من عكا إلى الناصرة فرمم هذه المدينة على أنها ما كانت قط حصناً منيعاً.
وفي شهر آذار 1263 قدم من مصر في جيش هائل صحبها الظاهر بيبرس البندقداري وعسكر في منحدر جبل تابور وبعث كما قال القس مسترمان برجاله يخربون البيع والادبار واطلق الحرية للمسيحيين على أن يدينوا بالاسلام لكنهم أبوا ووقعت فيها وقعة هائلة قتلوا عن آخرهم، ولمؤرخي الادبار أخبار يتلونها وأحاديث يقصونها عما لقيها القسيسون والرهبان من المظالم إلى القرن الماضي أيام تنفس خناقهم بتولي الظاهر عمر امر الجليل فأصبحوا أحراراً في كنائسهم وعباداتهم آمنين من عيث البدو الذي وقع مرتين على الناصرة فغزوا أهلها في عقر دارهم.
وتاريخ الناصرة هو في الحقيقة تاريخ الادبار والمعابد فيها وفد قوي سلطانها منذ جاءه بونابرت وحاصر عكا سنة 1799 وبعث بأحد قواده يعسكر في الناصرة الاحسانات على الاديار من أمم النصرانية في الغرب على اختلاف لغاتهم ومذاهبهم وما منهم إلا من أنشأ بيعة حتى بلغت أربع عشرة بيعة وكنيسة ومعظمها من ضخامة البناء وحسن الهندام ما يذكر بقصور الملوك ومنازل المترفين والفرنسيسكان أقدم الرهينات وأرسخهم قدماً في الناصرة وكنيستهم مما يزار لبعض الآثار التاريخية فيها ويكفي أنها أثر من آثار الكنائس في القرون الوسطى.
وفي الناصرة يشتد التنافس بين أهل المذاهب المختلفة من المسيحيين يعلمون الذكور والإناث ويلقنونهم ما يشاؤون ويطبون المرضى ويعطونهم العقاقير بلا مقابل من أي نحلة كانوا على شرط أن يستمعوا لبعض الواعظين ونصائح دعاة الدين ولذلك قل في هذه البلدة أميون وجاهلون، والقارئون الكاتبون من أهلها من الجنسين أكثر من كل بلد سواها في سورية يعيشون بصدقات المحسنين ويتمتعون بما تجود بهم أيدي أتقياء الغربيين.
ولو اتصلت الناصرة اليوم بالسكة الحديدية مع خط حيفا على الأقل أو لو مد منها خط إلى القدس لما حج حاج من النصارى إلا ونزل الناصرة يزور ويتبرك ولكان من ذلك للحكومة والأمة فائدة مادية مهمة فمن مدن سويسرا ما يعيش طول سننه مما ينفته الزوار في مصايفها أفلا يجدر ببلد السيد المسيح أن يعيش أهلها من ريع يأتيهم به عشرات الألوف من جمهور المؤمنين من المسيحيين.