مجلة المقتبس/العدد 6/النظامية والمستنصرية
مجلة المقتبس/العدد 6/النظامية والمستنصرية
بلغت بغداد في الحضارة أعلى درجاتها إبان التمدن الإسلامي وكانت عاصمة العلم ومبعث أشعة الحكمة حتى في عصور تدنيها أيام ضعف سياستها وأصبح حكم العباسيين فيها اسمياً ولم تبرح تنفخ فيها روح النمو والرقي التي بثها فيها خلفاء القرن الثاني والثالث فكان العادة أو قوة الاستمرار حكمت أن لا يكون القرن الرابع والخامس والسادس والسابع دون ذينك القرنين إلا قليلاً. وظلت هذه العاصمة على علاتها أرقى من قرطبة والقيروان ومصر ودمشق وسمرقند وخراسان وغيرها من أمصار الحضارة وقواعد العمل على ما بذل زعماء تلك العواصم من العناية في مضاهاة دار السلام وقبة الإسلام.
ولقد كانت المدارس إحدى العوامل الكبرى في ذاك الترقي ويكاد الفضل يرجع إلى بغداد في إحداثها على هذا الطرز المألوف وإن بقيت الأمة زمناً تتلقى علوم الدنيا والدين في حلقات المساجد والمجامع الخاصة. ولقد استاء علماء ما وراء النهر لما بلغهم توفر الخلفاء على بناء المدارس في بغداد وأقاموا للعلم مأتماً تفادياً من ابتذاله وخشية أن تصبح الغاية من الدراسة دنيوية محضة غايتها جر مغنم واجتلاب ديناً عريضة وأسفوا أن رأوا بعض رجال العلم أخذوا يتناولون رواتب لقاء دروس ينفعون بها الأمة وكانوا وأجدادهم من قبل يلقونها بلا عوض ولا عرض ينالونه.
وكأن الله خص القرن الرابع بأن قامت فيه أعظم كليات المسلمين اليوم إلا وهو الأزهر في القاهرة الذي بناه القائد جوهر كما خص القرن الخامس بأن وفق نظام الملك وزير السلاجقة لتأسيس المدرسة النظامية سنة 459هـ ببغداد ووفق المستنصر بالله العباسي أيضاً أن أسس مدرسته المستنصرية في أوائل القرن السابع ببغداد. ولما كانت النظامية والمستنصرية عامرتين بضروب العلم غاصتين بالطلاب والأساتذة لم يكن الأزهر يذكر في جنبهما. ولكن دالت الأيام ودرست معالم هاتين الكليتين العظيمتين وكتب البقاء لهذه المدرسة المصرية. ولذلك أحصر الكلام فيهما الآن فأقول:
أسس نظام الملك مدرسته النظامية وسط الجانب الشرقي من دجلة وقسمها إلى مقاصير كثيرة خص كل فرع من فروع العلوم الدينية والدنيوية ببعضها وجعل فيها غرفاً كثيرة يأوي إليها الطلبة والأساتذة هذا عدا ما هناك من أبهاء ومنتديات وقاعات وبستان فسيح ومصلى وأماكن للاستراحة وجميع ما يلزم لدار علم مثلها من سائر موافق الحياة كالمطبخ والحمام وغيرهما وكانت فيها خزانة كتب عظيمة كما في غيرها من المدارس الكبرى مسبلة على العالمين والمتعلمين فيها. وبنيت طبقتين وأقيمت في أطرافها أروقة وطاقات وجعلت فيها أنابير ومستودعات فيها كل حاجيات أهلها من طعام ولباس وفراش وكان المعلمون كالمتعلمين يكفون المؤونة فيها فينال كل واحد من أوقافها الدارة ما يسد به عوزه وربما ما يفيض عن حاجته.
وليس فيما لدي من المواد شيء يصح الاستنباط منه لإصدار حكم صحيح على نظام الدروس والمدرسين والدارسين في تلك المدرسة وناهيك بأنه كان لها مفت يفتي أهلها في مصالحها على ما هناك من أساتذة هم فخر الإسلام والمسلمين في أعصارهم فقد كان الشيخ رضي الدين أبو داود سليمان بن المظفر بن غانم بن عبد الكريم الجيلي الشافعي مفتياً فيها. كما درس فيها جلة مثل أبي اسحق الشيرازي وأبي نصر بن الصباغ وحجة الإسلام أبي حامد الغزالي وأخيه أبي الفتوح أحمد وأبي الفتح بن برهان وأبي القاسم الدبوسي وأبي عبد الله الطبري وأبي محمد الشيرازي وضياء الدين السهروردي وأبي القاسم القشيري وأبي منصور الوزان وأبي الفتح أسعد المهيني وأبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله شيخ العراق في وقته وأبو سعيد المتولي وكمال الدين النحوي وفخر الإسلام أبو بكر المستظهري وأبو بكر بن الدهان النحوي الضرير والشرف يوسف بن بندار الدمشقي وعشرات غيرهم ممن تخرج بهم مئات من الفقهاء والمحدثين والأصوليين والمتكلمين والمتأدبين وغيرهم.
وشقيقة هذه المدرسة بل خليفتها المدرسة المستنصرية بناها سنة 631 المستنصر بالله في الرصافة على ضفة دجلة الشرقية وانفق في بنائها ما ينفقه الملوك في بناء إذا أرادوا به تخليد ذكرهم وإحياء مفاخرهم. وجعل فيها خزانة كتب حملت من الآفاق حملها مائة وستون حمالاً وفي رواية بعض المؤرخين أنها كانت مائتين وتسعين حملاً عدا ما أضيف إليها بعد. قال الذهبي وأوقاف هذه المدرسة عظيمة غلت في بعض السنين سبعين ألف دينار قيل أن قيمة ما وقف عليها يساوي ألف ألف دينار. وقد جعلت على المذاهب الأربعة وأقيم فيها مستشفى وأطباء يدرسون الطب كما يدرس فيها علم الحيوان النبات والفلك والرياضيات على اختلاف ضروبها والآداب على أنواعها والجغرافية والتاريخ وعلوم الحديث والقرآن.
وشرط بانيها أن يكون عدد الفقهاء فيها مائتين وثمانية وأربعين فقيهاً يصيب أهل كل مذهب ربع هذا العدد يأخذون رواتب وجرايات كثيرة هذا ما عدا المحدثين والمقرئين ومشاهراتهم وعدا كتاب متصل بالمدرسة خص بثلاثين يتيماً يستظهرون فيه الكتاب العزيز ويكفون المؤونة وعدا المدرسة الطبية والمستشفى والصيدلية التي يدرس فيها الدارسون ويستشفى بها المرضى ويأخذون ما يقتضي لهم من المعاجين والأدوية.
وأول من عهد إليه التدريس في تلك الكلية محي الدين أبو عبد الله ابن فضلان الشافعي ورشيد الدين أبو جعفر الفرغاني الحنفي والنيابة عنهما جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي الحنبلي وأبو الحسن المغربي المالكي واشتهر من مدرسيها جمال الدين العاقولي. ووصف هذه المدرسة العالم محمود شكري الآلوسي في كتابه مساجد بغداد ومدارسها فقال أنه كان فيها مزملة للماء البارد وأن الداخل إليها اليوم من بابها الكبير الجنوبي يرى فسحة طولها نحو مائة متر وعرضها نصف ذلك وفي كل جهة منها إيوان رفيع السمك كأنه أعد كل واحد منها لمدرس من المذاهب الأربعة وأن الموظفين بها كانوا أقل من المشتغلين فإنهم في كل وقت كانوا دون ألفي طالب على اختلاف طبقاتهم واستعدادهم وأما الموظفون فهم دون الألف وكانت التفرقة بين الأصناف والطبقات بألوان الطيالس فذوو الطيالسة الصفر صنف والبيض صنف والحمر صنف وهكذا. وكان في بابها ساعة عجيبة.
هذا ملخص ما كانت عليه النظامية والمستنصرية من الإتقان العجيب ولم يبق للأولى من أثر اليوم غير قاعدة منارتها وهي مطبخ أحد الإسرائيليين وبقيت الثانية محفوظة من أيدي التخريب إلا قليلاً بيد أنها حولت إلى إدارة جمرك منذ بضع سنين وذهبت تلك الحضارة وما يتبعها جملة وراحت النظامية ولم نعد نسمع إلا بأخبارها وربما تتبعها المستنصرية تلك المدرسة التي بلغ من غرام بانيها بها كما قال ابن العبري أنه بنى بجانبها بستاناً خاصاً له وقلما يمضي يوم إلا ويركب في السيارة ويأتي البستان يتنزه فيه ويقرب من شباك مفتح في إيوان المدرسة ينظر إلى البستان وعليه ستر فيجلس وراء الستر وينظر إلى المدرسة ويشاهد أحوالها وأحوال الفقهاء ويشرف عليهم ويتفقد أحوالهم. فليت المستنصر يحيا اليوم فيرى ما فعلت الأيام بما شاده وشاده نظام الملك.