مجلة المقتبس/العدد 54/حمة أبي رباح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 54/حمة أبي رباح

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 8 - 1910



لم يكتب أحد من المتقدمين من علماء العرب وغيرهم في تاريخ هذه الحمة أو موقعها أو وصفها وصفاً علمياً مع ما لها من المكانة التاريخية والطبيعية كما أنه ليس للباحثين المتأخرين من الغربيين والسوريين مقال في هذا الباب يرجع إليه أو شرح يستند عليه.

ولقد كان بودي أن أقف على كلمة من هذا القبيل لتكون لي دليلاً في سبيل ما أريد تسطيره وحجة تؤيد ما أعلمه في هذا الموضوع وأروم تحبيره إلا أنني لم أجد كتاباً يذكر ما أردت وينبئ ما رمت فما وسعي إلا أن أعود إلى ما أعلمه عن هذه الحمة بالاختبار مجداً في تطبيقه على الفن الحديث ومستدلاً على تاريخه بما عثرت عليه فيها من الأبنية والآثار القديمة بقدر الإمكان.

مركزها الجغرافي_أبو رباح جبل من كورة حمص من عمل ناحية القريتين يبعد عن الأولى أربعين ميلاً إلى جهة الشرق وعن الثانية تسعة أميال إلى الشمال الغربي يشرف على ضيعة يقال لها الغنتر من أملاك عبد المجيد آغا سويدان مدير ناحية حسية (أيكي قبولي) الحالي ورئيس أسرة سويدان المعروفة ويحده من الشمال أراضي (الشومرية) وهي جبال قل فيها المنبسط ذات تربة جيدة وأرض خصبة منبتة وفيها بعض القرى المستحدثة وكانت من أملاك السلطان السابق ويسمونها الآن (الأملاك المدورة) ومن شماله أيضاً البلعاس وهي كورة من كور حمص فيها حرج من شجر البطم يبلغ طوله تسعين ميلاً من الغرب إلى الشرق ويحده من الشرق طريق القوافل بين الشام وتدمر ثم الجباة وهي مزرعة لنا ذات مياه وقد أوقع سيف الدولة فيها بقبائل البادية وذكرها المتنبي بقصيدة يمدح بها المشار إليه حيث قال:

ومروا بالجباة يضم فيها ... كلا الجيشين من نقع أزارا

ومن الجنوب الغنثر والجباة المار ذكرهما ومن الغرب الشومرية والفرقلس وهي قرية من الأملاك المدورة ذكرها ياقوت الحموي فقال أنها اسم مياه قرب سلمية بالشام والأصح أنها أقرب إلى حمص من سلمية.

مركزها الطبيعي_إن هذا الجبل بركان لا ثائر ولا منطفئ لأنه لو كان ثائراً لأهلك القرى المجاورة له وقضى على الأرواح والأجساد مما يقذفه من الحجارة والحمم ولو كان منطفئاً لما صعد منه البخار الذي يراه منه الناظر من مسافة بعيدة متفرقة في الجو. ومعلوم أن الأرض كانت جسماً يكاد يكون سيالاً يتلظى قبل وجود الإنسان والحيوان والنبات على سطحها ثم برد سطحها وبقي جوفها شديد الحرارة والسبب في ثوران البركان هو هذه الحرارة والماء والمواد المعدنية الحارة في جوف الأرض فإذا ما اختلط الماء بالمواد المعدنية الحارة تمدد ورفع ما فو قه ثم يزداد الضيق عليه من الحرارة وثقل الأرض وعندما يشتد دفعه ينفجر ويقذف الحمم والصخور والبخار ويجعل الصعيد المستوي جبلاً راسياً مما يرمي به تلك الأجسام ولكن إذا فقدت المواد المعدنية وظل الماء جارياً تسخنه حرارة باطن الأرض الطبيعية البالغة ألفي درجة أو أكثر وكانت الأرض بركانية من قبل لا يصعد من أفواهها غير البخار كما يشاهد في أبي رباح هذا إذ يسمع الإنسان الواقف عند فوهته صوتاً كهدير البحر ويرى البخار يتصاعد منها كبخار الماء المغلي في المرجل.

فمن هذا يتبين لنا أن أبا رباح كان بركاناً ثائراً في العصور الخالية ودام ثورانه ردحاً من الزمن إلى أن انتهى ما في جوفه من المواد المعدنية وبقي الماء والحرارة الطبيعية المسببان لصعود بخاره الحار.

نظرة تاريخية_اتضح مما قدمنا أن هذه الحمة بركان نفدت مواده المعدنية الحارة منذ ألوف السنين وصارت إلى ما هي عليه اليوم عبارة عن فوهة وسط جبل يتصاعد منها بخار مائي ليس إلا. ثم جاء الأقدمون وبنوا فوق هذه الفوهة حماماً يستشفون به من الأسقام والأمراض ولكن من هؤلاء الأقدمين الذين شادوا هذا المعهد الكبير النافع؟. .

سؤال نقف عنده إذ ليس لدينا من الأدلة التاريخية إلا الآثار الموجودة التي ستستنبط منها ما يكون موافقاً للأحكام التاريخية فنقول: سكن هذه البلاد كما روى التاريخ من الأمم ذات الحضارة والمدنية والسلطة الكنعانيون والآراميون واليونانيون السلوقيون والتدمريون والرومانيون والمسلمون فالأمم الأربع الأولى هم سكان البلاد الأصليون والاثنتان الباقيتان هم الفاتحون الذين قطنوها بعد الفتح فأي أمة من هذه الأمم قامت بتشييد هذا المحل يا ترى؟ المسلمون؟. . لا لأن الآثار الموجودة ليست من أيامهم بل هي أقدم منهم بقرون عديدة كما أنها ليست من أعمالهم ولو كانت ذلك لدنوها في كتبهم وكذلك الرومانيون لم يكون إلا أمة فتوح واستعمار لا أمة علم وفن ولم يبرزوا إلا في بناء المعاقل والحصون في الصحاري لصد صدمات المهاجمين وقلما تنفع دولة مستعمراتها كما تفيد ممالكها الأصلية ومع كل ذلك نرى أثراً من تلك الآثار المتباينة في طراز هندستها وقدمها على نسق الأبنية الرومانية ذات العقود والقناطر قائماً على يمين الحمة بمسافة عشرات من الخطوات وهو أحدث الآثار الباقية المتداعية الأركان.

وإذا أمعنا النظر في هذه الآثار ندرك أنه ليس للكنعانيين والآراميين من صنعة فيها وربما أقاموا في ذلك المكان حيناً من الدهر حتى داهمتهم الحمم الصادرة عن جوف الأرض إبان ثورانها فأزهقت نفوسهم ودفنت مساكنهم إذ يبصر المرء هنالك آثاراً طامسة تغشاها الحمم والأنقاض الدالة على الثوران في غابر الزمان.

وهنا لم يبق لدينا سوى تينك الأمتين السلوقية والتدمرية ولا مناص من نسبة هذا الحمام وما يجاوره من الأنقاض إلى إحداهما أو إلى كليتيهما لأن الأمة السلوقية كانت ربة علم وفلسفة لا يفوتها استخدام مثل هذا البخار للمنافع الصحية وكذلك الأمة التدمرية على ما نعرفه ويعرفه الخاص والعام فإن لنا في مدينتها العظمى شاهداً عدلاً على ما بلغته في الصناعات والترقي في الفنون وناهيك بأعمدتها الباسقة التي كانت تجري من فوقها الأنهار فأمة مثل هذه لا يعوقها جعل بركان قريب لعاصمتها حماماً يزيل ما في الأبدان من الأوجاع والأوصاب.

فكلتا الأمتين كان لهما في حلبة المعارف أفكار سامية وفي مضمار الرقي عقول نيرة ثم دالت دولتهما وهما ينشدان:

إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار

أي لعمر الحق أنها لأثار تدل على ما كان لهم من اليد الطولى في الفنون الجميلة والصناعات البديعة كما أن قيام هذا الحمام ليس عن عبث أو سائقة طبيعية بل عن علم صحيح وعقل رجيح فإذا حققت النظر في مبانيه الخربة وجدت أنها كانت في عهدها الزائل مستوفاة الشروط الطبية داخلاً وخارجاً مما نعجز نحن أبناء القرن العشرين عن الافتكار بمثله ولو بعد حين.

وفوق كل هذا إنني أرجح نسبة هذه الآثار إلى التدمريين لمشابهة أنقاضها لأنقاض مدينة تدمر وقربها منها ولما يتواتر على السنة الأهلين في تلك الأنحاء من أن هنالك ساقية قديمة تنتهي إلى المدينة المذكورة.

نبذة صحية_لو كنت طبيباً لفحصت هذا الحمام من وجهته الطبية والكيماوية فحصاً دقيقاً وعلمت ماهية بخاره ومقدار درجات حرارته ونتيجة تحليله ولكني لا أطيق التطفل على موائد الطب فأقتصر على ما أعلمه من شفائه للمصابين بالأمراض العصبية عامة وتيبس الأعضاء والتشنج خاصة.

وفاتنا ذكر ما هنالك من المناظر غير الفوهة التي بني عليها الحمام وفيها منفذان أحدهما يتداوى به الصم بوضع آذانهم على فيه والثاني يؤمه العقيمات من النساء لدفع الأسباب المانعة من حبلهن بقعودهن القرفصاء عليه ولا أخال الأطباء يقولون بخرافة هذه الطريقة لأن البخار إذا ما دخل الأذن وبيت الولادة يطهر ما فهيما من الأوساخ إن كان ثمة ذلك والله أعلم

لمحة إدارية اقتصادية_ليس من ينكر أن مثل هذه المعاهد إذا عني بإصلاحها تأتي بدخل عظيم ولكننا أمة قدر لها أن تكون في الأعصر الماضية خاملة لا تهتدي إلى طرق غناها ولا تقر بمقدار ثروتها التي هي تحت تصرفها وفي حوزتها فترى المال الذي في جبالها متروكاً والممزوج بتربة سهلها منسياً ومن جملة المهملات هذا المكان الذي نحن بصدده وهو لم يزل خراباً يباباً يلجأ إليه لصوص الأعراب وجناتهم فلو لحظ بطرف الاهتمام قليلاً وأرسل إليه طبيب كيماوي يحلل بخاره ويشرح فوائده الصحية بقرير شرحاً وافياً ومهندس يخطط لاعتماره مصوراً كافياً ثم تنشأ فيه أماكن منتظمة تسر القاصدين من المرضى وغيرهم بعد بناء مخفرة للجند تمنع المعتدين من أهل البادية وتلزمه الحكومة إلى شركة أو متمول لقاء مبلغ من المال لكانت تستفيد منه وتفيد فتنشر الأمن في تلك الربوع وعساها فاعلة عن قريب وعسى أهل العلم لا يضنون علينا بما يكشف الغامض من هذه الحمامات البخارية.

فارس فياض.