مجلة المقتبس/العدد 52/آفة الأخبار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 52/آفة الأخبار

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1910



مسألة تصحيح السند في الأخبار من المسائل المعول عليها كثيراً في الإسلام حتى عد ذلك من خصائصه وبه حفظت السنة بحالها وطرحت منها الزوائد ولم يبق مجال للوضاعين والقصاصين على شدة احتيالهم في بث ما اخترعوه ووضعوه ولأجل هذا الغرض ألفت المصنفات الكثيرة في الطبقات ليعرف كل امرئٍ بترجمته فلا يغترر إنسان بقوله مهما بلغ من زخرفه: فمن طبقات للمفسرين وأخرى للمحدثين وأخرى للفقهاء وغيرها للمؤرخين وغيرها للنحويين والحكماء والأدباء والفلاسفة والأطباء لتظهر على الدهر صفات من انتسب لعلم أو ضرب في العارف بسهم.

ولذلك كان من السهل التمييز بين أقوال المؤلفين على عهد رواج بضاعة العلوم في هذه الديار أيام كانت ملكة النقد ترجع إلى قواعد مقررة وضوابط محررة فلا يغتر الخاصة بنقل نقله مؤلف هو في الحقيقة من العامة بمجرد ما يرونه8 مكتوباً على الورق منشوراً في سفر مجلد.

ولقد كان ولا يزال بعض من يعانون صناعة التأليف يسقطون الحين بعد الآخر في مسائل فيخلطون فيها على الأغلب ومنشأ ذلك على ما يعرف المحققون عدم تصحيح السند والنقل وأخذ القول على عواهته بدون تمحيص حتى لم تكد تخلو كتابة المكثرين من المغامز يتبين منها عوارها ويتجلى ضعفها.

مثال ذلك اختلاف بعضهم في أمر الخلفاء وما كانوا عليه من النازع والأخلاق فكان بعضهم يقدح في سيرتهم حتى يسقطوهم كل الإسقاط وبعضهم يرفعونهم حتى يبلغوا بهم مراتب الملائكة وكلا الأمرين إفراط وتفريط. فقد رأينا بعض الوضاعين وأرباب المجون اتهموا بعض بني العباس كالرشيد والمأمون مثلاً بالتبذل والاسترسال في الخلاعة ولم نر مؤرخاً واحداً من ثقات المؤرخين صحح هذه الأخبار فكأن مدون تلك الهنات يحاول إلصاقها بخصمه لغرض سياسي أو أن ينقلها بعض أرباب المقالات والأهواء_وأكثرها أيضاً من نزعات سياسية_ويقصد منها غرضاً من الأغراض أو يغتر بها الأبله وما أكثر البله في المؤلفين. ومن الحكايات المدخولة للأغراض المنوه بها ما رواه بعض لم يصححوا النقل في السبب الذي حمل الرشيد على نكبة البرامكة من قصة العباسة اخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه وأنه لكلفه بمكانهما من معاقرته وإياهما الخمر إذن لهما في عقد النكاح دون الخلوة وأن العباسة تحيلت عليه في التماس الخلوة لما شغفها من حبه فحملت ووشي بذلك للرشيد فغضب ونكب البرامكة.

وقد رد ابن خلدون على هذه التهمة الشنعاء أحسن رد معقول فدفع هذه الفرية عن ابنة خليفة وأخت خليفة محفوفة بالملك العزيز والخلافة النبوية وصحبة الرسول قريبة من عهد البداوة وسذاجة الدين وما هذه التهمة إلا مما وضعه الوضاعون يقصدون التوصل منه إلى النيل من أولئك الخلفاء بهذه الطريقة السافلة وإغراء الناس على إتيان المنكرات ليقول العامة إذا كان مثل الرشيد يعاقر الخمر ويقدح في مروءته في مسألة تزويج أخته فأولى بنا أن لا نشدد في قيود الدين والآداب ونحن يسعنا ما يسعهم وقد قال الطبري وهو من ثقات المؤرخين والمحدثين أن الرشيد كان يصلي في كل يوم مائة ركعة نافلة وكان يغزو عاماً ويحج عاماً. أما الشراب الذي يرمي بنو العباس بتناوله فكان عصير التمر وقد أفتى بحله الفقهاء.

وإنا إذا تمدنا في أخبارنا على مثل كتاب أعلام الناس ونزهة المجالس وشمس المعارف وغيرها من كتب الموضوعات واعتقدنا صحة أقوال بعض أرباب الأهواء من المؤرخين لا يكاد يبقى لنا بقية يعتد بها من الخلفاء والأئمة ما كانت الأمة تبقى إلى اليوم محافظة بعض الشيء على آدابها وأخلاقها. ومن ذلك ما وقع مؤخراً لصاحب مقالة تعليم النساء فنقل ما قاله الأدباء وأكثرهم من المخالفين لبني العباس في مذهبهم الديني والسياسي_في علية حفيدة المنصور وبنت المهدي وأخت موسى الهادي وإبراهيم ابن المهدي والرشيد والعباسة وأسماء وعمة الأمين والمأمون والمعتصم وإنها كانت تشبب بغلامين طل ورشا وإن الرشيد لما آنس منها ميلاً إلى طل وهبها إياها وقبل رأسها وقال لها لست أمنعك بعد اليوم من شيءٍ تريدينه!

ولئن رجح الكاتب الرواية الثانية لما عرف من أنفة الرشيد وغيرته ولكنه كان عليه طرح هذه الرواية المدخولة لأدنى نظرٍ قياساً على نظائرها مما روي عن أرباب الخلاعة من الماجنين من الشعراء والوضاعين من أهل الأهواء ممن يريدون الاعتذار عن سيئاتهم باتهام العظماء بهذه التهم الشنعاء ليكون الناس في الخزي والبذاء كأسنان لمشط في الاستواء ولطالما ودَّ صاحب الكبائر لو كان الناس كلهم شركاءهم فيما يقترفون.

وإنا إذا وضعنا هذه الرواية على محك الروية لتجلى لنا لأول نظرة بأنها لا تصدر عن عامة الناس في عصر الرشيد والمأمون وناهيك به من عصر بلغ الغاية في الآداب والعلم والصيانة فكيف يعقل صدور ذلك من خليفة وابنة خليفة وأخت خليفة ولو وجد عقلاء عصره ورجال دولته أقل نقد عليه لما سكتوا عنه ولو أغمضوا عيونهم لما خفي أمره على الطالبين القائمين بالدعوة إلى أهل البيت وهل أحسن لهم ذريعة في إسقاط الرشيد والمأمون من نسبتهما إلى أمور لو ثبت أقلها لكانت تقصيهما عن منصب الخلافة ولو كان أهل الأرض ظهراءهما.

إن أخلاق السوقة تأبى لعمز الحق الرضى بما نقله أهل المجون عن الرشيد وسماحه لأخته بمعشوقها وقوله لها أنه لا يصدفها عن إتيان ما تريد إذا كان فيه هوى نفسها! وإن نسبة تلك الأشعار في النسيب والتشبيب إلى امرأة كعلية من فضيلة النساء لا يرضى به السوقة دع عنك الخلفاء بعد الذي علمناه من أن العرب كانوا يقتلون من بناتهم من تشبب وتفحش في غزلها فكيف بعد هذا نثق برواية القيرواني في علية وهو أموي والأصفهاني وهو علوي. ومعاداة العلويين والأمويين لبني العباس معلومة مشهورة وميل الأدباء والموسيقيين للأغراب لإدهاش الناس معروف موصوف ومتى كانت تؤخذ حقيقة علمية من أديب أو فضيلة أخلاقية من شاعر.

وعندنا أن كل ما اتهم به الوضاعون وأهل الخلاعة بعض الخلفاء الأول من بني العباس إنما أتى من تكتم العباسيين في أسرار دولتهم ولأنهم أعطوا الأمة حرية أمنت فيها فلم ير بعض أردياء الفطرة أقرب إلى العبث بعقول العامة بنشر تلك الموضوعات والمجونيات بين العامة والخاصة كما أشاعوا سوء القالة عن العباسة وعلية والناس أميل إلى الشر منهم إلى الخير وإلى كسر القيود أكثر من الاحتفاظ بها وإلى أقاصيص الهزل وأساطير اللهو أكثر من روايات الجد وتلقف الحقائق. وكل شيءٍ يحتاج إلى تمحيص وحاجتنا إليه في التآليف والمؤلفين أكثر حتى لا نتغرر بكل قول ولا نصحح كل نقل.