مجلة المقتبس/العدد 51/درس على كتاب الدارس في المدارس
مجلة المقتبس/العدد 51/درس على كتاب الدارس في المدارس
أيها السادة:
إن تاريخ كل أمة سواء كان مجيداً أو غير مجيد لا يخلو مستقبله من ارتباط بماضيه لا من حيث التشابه بين طرفيه بل من حيث النتائج التي ترتب عليها نهضة الأمم أحياناً وتغير مجرى الحياة الاجتماعية بأن تسرع بخطا الشعوب إلى مراقي الصعود.
ومعناه أنه إذا كان ماضي الأمة عظيماً محترماً في التاريخ تحرص على أن يكون أعظم احتراماً في حاضرها أو على تسترد ذلك الاحترام إذا فقدت شيئاً منه. وإذا كان ماضيها سيئاً غير محترم في التاريخ تدأب على التخلص منه وتطلب لنفسها حاضراً أسعد منه. فالنتيجة واحدة في الحالتين ولكن لمن؟ ومن يحصل على مثل هذه النتيجة من الأمم؟
تحصل عليه أمة تعلم أن لها تاريخاً فتدرسه وماضياً تبحث فيه وترجع إليه لاسيما إذا كان تاريخاً مجيداً له آثار معروفة في الوجود وأثر محقق في الاجتماع. والأمة كالفرد فخورة بالماضي الجميل إذا تمثل لها نفح فيها من روحه فملأها نشاطها ودفعها إلى الأمام أشواطاً.
وإن أمة لا تعرف تاريخها أحر بها أن يتنكر لها الزمان وتزدري بها الشعوب لجهلها بماضي التاريخ وتنكرها الإنسانية وتنكرها السماء والأرض.
إن المنارة الإسلامية التي رفع منارها أسلافنا الطاهرون وغيرت شكل الأرض ومجرى الاجتماع كان لمدنيتكم هذه حظ وفير منها ولاسيما في التوفر على إنشاء معاهد العلم ودور التربية والتهذيب.
هذا أيها السادة ما دعاني لأن أقف بينكم خطيباً افتح صحيفة ماضي التاريخ فيما يتعلق بأسلافكم الغابرين ومدينتكم الفيحاء وفيها ذكرى للذاكرين وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
إن هذه الذكرى ما ترونه في هذا الكتاب الضخم المشتمل على ألف وثلاثمائة وستين صفحة وهو كتاب (الدارس في المدارس) تأليف العلامة المؤرخ محمد بن محي الدين النعيمي وهو خاص بما أنشئ من معاهد العلم والمساجد ودور العجزة (التكايا) في دمشق وقد بلغ عدد ذلك مائتين وبضعاً وثمانين لو وزعت المدارس منها على السنين منذ إنشاء أول مدرسة في القرن الخامس إلى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى عهد المؤلف في أواخر القرن التاسع لأصاب دمشق كل سنتين مدرسة تنشأ أو دار للعجزة والمرضى تشاد هذا فضلاً عما أنشئ من المدارس بعد ذلك التاريخ ولم يدركه المؤلف المذكور وهذ فهرست الكتاب نتلو عليكم بعضاً من أسماء المدارس التي جاءت فيه ولا أطيل خوفاً من ضيق الوقت.
أنا تواريخ إنشاء هذه المدارس بالضبط والأوقاف التي حسبت على الطلبة فيها والعلماء الذين نبغوا منها ودرسوا فيها كل هذا مذكور في صلب الكتاب وليس في الوقت متسع لتلاوته عليكم كما ترون من حجم الكتاب وحسبكم أن من درسوا في هذه المدارس وتولوا رياستها أو نبغوا فيها من علماء الشريعة مثل الحافظ الذهبي صاحب التاريخ المشهور والإمام ابن تيمية صاحب التآليف الكثيرة وقاضي القضاة صدر الدين الأزرعي صاحب الجامع الصغير والعماد ابن كثير والنووي وابن الصلاح والحافظ جمال الدين المزي وأشباههم من العلماء الكبار ومن علماء الطب مثل ابن أبي أصيبعة صاحب تاريخ الأطباء ومهذب الدين بن الحاجب ونجم الدين اللبودي وموفق الدين بن المطران ومهذب الدين الداخواز وعماد الدين الدنيسري وأضرابهم.
ومن علماء العقليات والرياضيات والموسيقى مثل محمد بن أبي الحكم الباهلي وعز الدين السويدي وأبي الفضل الحارثي المهندس الذي كان باب البيمارستان النوري القائم إلى اليوم من عمل يده وأضرابهم.
وها أنا أقرأ لكم مثالاً واحداً من ترجمة هؤلاء الرجال فاسمعوا ما قال تاريخ الدارس هذا في ترجمة أفضل الدين بن أبي الحكم نقلاً عن الصفدي:
(محمد بن عبد الله بن المظفر بن عبد الله الباهلي) هو أفضل الدين أبو المجد بن أبي الحكم من الحكماء المشهورين كان طبيباً حاذقاً وله يد طولى في الهندسة والنجوم (أي علم الفلك) وله في سائر الآلات المطربة يد عمالة وعمل أورغناً وبالغ في إتقانه وقرأ على والده وغير في الطب وكان في دولة نور الدين بن الشهيد ولما عمر البيمارستان والمستشفى النوري بدمشق جعل أمر الطب إليه إلى آخر ما قال:
هؤلاء الرجال الذين ذكرتهم لكم وهذا الفضل الكبير منهم وعدد كثير مثلهم من أهل الشهرة بالعلم والفضل ودرسوا في هذه المدارس أو تخرجوا على رؤسائها ومشايخها ثم ملأوا المكتبة العربية بالمؤلفات النافعة في كل فن ومن راجع منكم كتاب الكواكب لابن عروة الحنبلي في أكثر من مائة مجلد وتاريخ الحافظ ابن عساكر في أكثر من عشرين مجلداً وهما موجودان اليوم في المكتبة العمومية في مدرسة الملك الظاهر بدمشق وقاس عليهما ما ألفه علماء تلك القرون الأفاضل وما قبلها في علوم الشريعة والأدب واللغة والتاريخ والتراجم والفلك والطب والرياضيات كالهندسة والحساب وغير ذلك من العلوم علم مقدار ما لهذه المدارس ومؤسسيها من الفضل على الأمة وما للنابغين فيها من الأثر العظيم في الوجود بما سهروه من الليالي الطوال في الحرير والتحبير وما عانوه من النصب في وضع كتب العلم لإفادة الناس حتى ملأوا بها المكاتب ونشروا العلم: وما قولكم في أن عالماً واحداً من علماء الطب وهو موفق الدين بن المطران المتوفى سنة سبع وثمانين وخمسمائة ترك في مكتبته عشرة آلاف مجلد في الطب والعلوم الحكمية كما ذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمة الموما إليه.
وملا يظنن بعضكم أن هذه المدارس كانت مدارس دينية فقط وأن أكثر علمائها وطلبتها من طلبة العلوم الشرعية وآلاتها كلا فإن فيها مدارس لغير العلوم الشرعية كالطب مثلاً ومن هذه المدارس المدرسة الدخوازية والدنيسرية واللبودية كما سترون ذلك في ما يأتي من الكلام إن شاء الله.
ولقد أخبرنا التاريخ أن معاهد العلم كانت مشاعة بين طلابه من كل فن وأن الطبيب أو الفلكي مثلاً كان يلقي دروسه في أي مدرسة كانت من مدارس العلم له فيها وظيفة بل في الجوامع والمساجد أيضاً لأنها كانت قبل أن توجد المدارس على شكلها المعهود أي قبل القرن الرابع أشبه بمدارس العلم بل هي المدارس بعينها وما زالت كذلك معاهداً للعلم والعبادة معاً إلى اليوم كما تعلمون.
وأذكر لكم مثالاً واحداً على أن المدارس كانت مشاعة لطلاب كل علم ما نقله ابن أبي أصيبعة في ترجمة رفيع الدين الجيلي قال:
وكان مقيماً في دمشق وهو فقيه في المدرسة العذراوية داخل باب النصر وله مجلس للمشتغلين عليه في أنواع العلوم والطب وقرأت عليه شيئاً من العلوم الحكمية.
واعلموا أيها السادة أن كثيراً من علماء الشريعة مثل الجيلي جمعوا بين العلوم الشرعية والعقلية والطب والفلك والرياضيات وكلهم من خريجي هذه المدارس بالضرورة وممن جاء ذكرهم من هؤلاء في هذا التاريخ واذكره مثالاً للباقين أحمد بن الحسين الدمشقي وإليكم ما جاء في ترجمته من هذا الكتاب نقلاً عن ابن كثير:
(الجمال المحقق أحمد بن عبد الله بن الحسين الدمشقي) اشتغل على مذهب الشافعي وبرع فيه وأفتى وأعاد وكان فاضلاً في الطب وقد ولي مشيخة الدخوازية (مدرسة طبية) لتقدمه في صناعة الطب على غيره وعاد المرضي بالبيمارستان النوري على قاعدة الأطباء وكان مدرساً بالشافعية بالمدرسة الفروخشاهية ومعيداً بعدة مدارس إلى آخر ما قال:
هذا يدلكم على أن العلوم كانت مشاعة بين العلماء وأن العالم بالشرع قد يكون عالماً بعلوم أخرى من العلوم النظرية والعملية كالفلسفة والطب والموسيقى والرياضيات وغيرها من العلوم التي قامت على دعامتها المدنية الإسلامية وكانت الحلقة الوسطى بين المدنية القديمة والمدنية الحديثة حتى اعترف بفضلها على التمدن الغربي كثير من علماء التاريخ والاجتماع في أوربا كدربي ومونتسكيو لوبون وأفردوا للمدنية الإسلامية كتباً خاصةً أتوا فيها على ذكر ما تركته هذه الحضارة من آثار الترقي والعلم التي يجهلها أهله لهذا العهد بالأسف والعار.
نحن الآن أيها السادة بصدد علماء دمشق في القرون الوسطى وإنما هم حلقة من سلسلة تلك المدنية الإسلامية التي أخنى عليها الزمان وإذا سمحتم لي فأني أختم كلامي بنبذة من تاريخ تلك السلسة بعد استيفاء الكلام على كتاب الدارس هذا إن شاء الله.
علمنا مما سبق أن عدد المدارس ودور العجزة التي أنشئت في دمشق ولكن من الذي أنشأ هذه المدارس ورفع بنيانها وأدر الخيرات عليها وأنفق على طلابها من ماله أهي الحكومة أو الأفراد أو الجماعات؟
بلغ بنا الضعف أن صرنا كالأطفال نطلب كل شيء من الحكومة كما يطلب الطفل كل شيءٍ من والديه أما أسلافنا فلم يكونوا كذلك بل كانوا استقلاليين أكثر منهم اتكاليين يعرفون قيمة الاعتماد على النفس فكان الفرد الواحد يقوم بما تقوم به الجماعة أو يطلب من الحكومة اليوم.
ولهذا فإن كل ما جاء ذكره في هذا الكتاب من المساجد والتكايا والمدارس إنما أنشأه الأفراد وقام بمال أهل السخاء من أسلافكم الطيبين لمحض الخير وإرادة نشر العلم وخدمة الوطن والدين.
لم يختص بهذا العمل الجليل والشرف الرفيع الملوك والأمراء وذوو السلطة كما قد يتوهم بعضهم كلا بل كان الأفراد من كل الطبقات من أهل اليسار يتسابقون إلى إقامة المعاهد العلمية حسبة لله وحباً بعمل الخير واسبقاءً للذكر الصالح في الوجود.
فالتجار والعلماء والسيدات هم الذين أسسوا هذه المدارس كل مدرسة يؤسسها شخص بمفرده ويحبس عليها من ملكه ما يكفي ريعها بل أقول لكم والخجل يكاد يمنعني من التكلم والحزن يوشك أن يعقد لساني أن العبدان_عبدان أسلافكم أيها السادة_شيدوا بأموالهم بعض هذه المدارس أيها السادة ورفعوا منار العلم للفضيلة كم ترفع العبدان إلى منزلة السادة في حين تنحط السادة إلى منزلة العبدان.
إن العبدان كانوا أرفع نفوساً وأسخى كفوفاً منا الآن يا للخجل والخسران.
إن الكلام وحده لا يغني عن البرهان وإنكم تنتظرون مني الدليل بعد هذا البيان وإليكم أمثلة من عمل العلماء. التجار. والسيدات. والعبدان.
قال المؤرخ في فصل عقده لمدراس الطب:
(المدرسة الطبية الدخوازية الدخوارية) المدرسة الدخوازية بالصاغة العتيقة بقرب الخضراء قبلي الجامع الأموي أنشأها مهذب الدين عبد المنعم بن علي بن حامد المعروف بالداخوز في سنة إحدى وعشرين وستمائة بالصاغة العتيقة كما تقدم وأول من درس فيها واقفها ثم من بعده بدر الدين محمد بن قاضي بعلبك ثم عماد الدين الدنيسري وهو بها الآن.
(المدرسة الدنيسرية) غربي البيمارستان النوري والصلاحية بآخر الطريق من قبلة قال الذهبي في العبر في أخبار سنة ست وثمانين وستمائة:
عماد الدين أبو عبد الله محمد بن عباس الربعي الرئيس الطبيب ولبد بدنيسر سنة ست وسمع بمصر من علي بن مختار وجماعة وتفقه للشافعي وصحب البهاء الزهير وتأدب به وصنف إلى أن قال نقلاً عن الأسدي: العماد محمد بن عباس الحكيم البارع في الطب صاحب المدرسة للأطباء بالقرب من بيمارستان نور الدين الشهيد الخ.
(المدرسة اللبودية) اللبودية النجمية مدرسة خارج البلد ملاصقة لبستان الفلك المشيري أنشأها نجم الدين يحيى بن محمد بن اللبودي في سنة أربع وستين وستمائة: إلى أن قال نقلاً عن ابن أبي أصيبعة. كان علامة وقته وأفضل أهل زمانه في العلوم الحكمية الخ.
هذه أمثلة من عمل العلماء: واسمعوا مثالاً من عمل التجار في سبيل الخير والعلم والمنفعة العامة لم يعمل مثله أحد من أغنياء هذا الزمان:
(المدرسة المزلقية) بطريق مقابر باب الصغير الآخذ إلى الصابونية أنشأها تاجر الخاص الشريف شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي بكر المعروف بابن المزلق ميلاده سنة أربع وخمسين وسبعمائة وكان أبوه لباناً أدركه جماعة وهو يباشر ملبنة عند جامع يلبغا فنشأ ولده هذا ودخل في البحر وحكى عن نفسه أن أول سفرة سافرها كسب فيها مائة ألف دينار وثمانمائة ألف درهم وانفتحت عليه الدنيا وعمر أملاكاً كثيرة وأنشأ على درب الشام إلى مصر خانات عظيمة بالقنيطرة وجسر يعقوب والمنية وعيون التجار وأنفق على عمارها ما يزيد على مائة ألف دينار وكل هذه الخانات فيها الماء وجاءت في غاية الحسن لم يسبق أحد من الملوك والخلفاء إلى مثل ذلك وهو صاحب المآثر الحسنة بدرب الحجاز ووقف على سكان الحرمين الشريفين الأوقاف الكثيرة الحسنة وعين للحجرة الشريفة على الحال بها أفضل الصلاة وأتم السلام الشمع والزيت في كل عام إلى آخر ما قال:
وهذا مثال لتاجر غيره أيضاً: (المدرسة الرواحية) شرقي مسجد ابن عروة بالجامع الأموي ولصيقه شمالي جيرون وغربي الدويلعة وقبلي السيفية الحنبلية: قال ابن شداد بانيها زكي الدين أبو القاسم المعروف بابن رواحة وقال الذهبي في تاريخه العبر في من مات سنة اثنتين وعشرين وستمائة والزكي بن رواحة هبة الله بن محمد الأنصاري التاجر المعدل وأوقف المدرسة بدمشق وأخرى بحلب الخ.
ومن أمثلة عمل النساء: (المدرسة العالمية) العالمية شرقي الرباط الناصري غربي سفح قاسيون تحت جامع الأفرم واقفتها الشيخة الصالحة العالمة اللطيفة بنت الشيخ الناصح الحنبلي المتقدم ذكره في المدرسة التي قبل هذه (وهي المدرسة الشيخية بانيها أبو عمر الكبير) وكانت فاضلة لها تصانيف وهي التي أرشدت ربيعة خاتون بنت نجم الدين أيوب أخت الملك صلاح الدين إلى وقف المدرسة الصاحبية بقاسيون على الحنابلة الخ.
ومن أمثلة عمل العبدان والطواشية (المدرسة الصارمية) الصارمية داخل بأبي النصر والجانبية قبلي العذرواية بشرق قال القاضي عز الدين بانيها صارم الديك أزبك مملوك قايماز النجيبي ورأيت مرسوماً بعتبتها ما صورته: بسم الله الرحمن الرحيم
هذا المكان المبارك إنشاء الطوشي الأجل الصارم الدين جوهر بن عبد الله الحر عتيق الست الكبيرة الجليلة عصمة الدين عذرى ابنة شاهنشاه رحمها الله تعالى الخ.
أرأيتم أيها السادة بمإذا قامت هذه المدارس وبمن وكيف أن الأفراد من أسلافكم كانوا يعملون ما لا يعمله الجماعات منكم اليوم.
إن الأفراد هم الذين ينهضون بالأمم وأن المدنية الإسلامية التي تلوت عليكم حلقة من سلسلتها العظيمة كان للأفراد شأن عظيم في وضع دعامتها وتشييد بنيانها.
تعلمون أيها السادة ما كان لترجمة كتب أهل التمدن القديم كاليونان والفرس إلى العربية من الأثر الكبير في تأسيس المدنية الإسلامية في بغداد على عهد الخلفاء العباسيين وقد يتوهم بعضهم أن الذي عني بترجمة هذه الكتب إنما هم الخلفاء وحدهم وأخصهم أمير المؤمنين المأمون والحال أن لكثير من الأفراد ورجال الفضل والنبل من الأمة يداً لا تنكر في هذا السبيل.
وهذا يدلكم على أن عمل الأشخاص منفردين لا يقل تأثيراً في الهيئة الاجتماعية عن عملهم مجتمعين.
ولذا فلا أبالغ إذا قلت أن نوابغ الأمة الذين خدموا بذكائهم وعملهم المدنية وشيدوا أركانها الرفيعة إنما قاموا بهذه الخدمة وقامت تلك المدنية بفضل أهل السخاء والجود من محبي العلم والترقي وأنصار النجاح الذين كانوا ينفقون من مالهم على المترجمين للكتب العلمية إلى اللغة العربية.
ومن هؤلاء الأفاضل الأجواد الذين رصدوا جزءاً كبيراً من أموالهم على المترجمين لكتب العلم في تلك العصور: علي بن عيسى العباسي: ومحمد بن موسى بن شاكر الرياضي الشهير: وعلي بن يحيى الكاتب: وابن المدير الكاتب: وثاوري الأسقف: ومحمد بن عبد الملك الزيات الوزير: وبختيشوع الطبيب: ويوحنا بن ماسويه الطبيب: والعدد الكثير من أمثالهم المولعين بالترقي والعلم والذين كان ينفق كل واحد منهم أموالاً طائلة على نقله العلوم إلى اللغة العربية حتى لقد نقل ابن أبي أصيبعة عن محمد بن عبد الملك الزيات أنه كان ينفق في الشهر الواحد على المترجمين ألف دينار. قال هذا فضلاً عما كان ينفقه الخلفاء من بني العباس لهذا القصد.
إنا والله نتمنى أن تجمع هذه الألف دينار في كل شهر من كل غني من أغنيائنا اليوم لتنفق في سبيل نشر العلم وتربية الناشئة من أبناء الأوطان ولو فعلوا ذلك اليوم لعوضها أبناؤهم أضعافاً مضاعفة في الغد. بل لو فعل ذلك أهل كل ولاية عثمانية لأصبحت المملكة العثمانية بعد عشر سنين جنة قطوفها العلم وسياجها القوة والحياة. ولنعد إلى ما كنا بصدده فنقول:
بمثل هذا البذل على نقل كتب العلم ونشرها بين الكافة والاستفادة منها ظهر أركان النهضة في الشرق الذين ارتفع بهم شأن التمدن الإسلامي وذلك مثل بني موسى بن شاكر المهندسين الرياضيين في عصرهم وبختيشوع وبني سهل وبني ماسويه وبني حنين وبني ثابت بن قرة وبني زهرون وأبي عثمان الدمشقي وابن كرنيب ويحيى بن عدي المنطقي وأبي الفرج الطبيب وأبي الريحان البيروني والشيخ الرئيس ابن سينا وأبي النصر الفارابي والفخر الرازي وابن الشاطر وأضرابهم من العلماء الذين ظهروا في الشرق في عصور متفاوتة إبان الحضارة الإسلامية.
ومثل بني زهر ويحيى بن السمينة وأبي القاسم المرحيطي إمام الرياضيين والفلكيين في عصره وابن السمح الغرناطي المهندس وسعيد بن عبد ربه وأبي جعفر الترحالي وأبي الوليد ابن رشد وابنيه محمد وأضرابهم ممن ظهروا كذلك في الغرب.
ومثل ابن الهيثم البصري صاحب التآليف الغزيرة في الرياضيات والفلك والمبشر ابن فاتك وعلي بن رضوان وتلميذه أفرائيم بن الزفان والشيخ السديد رئيس الأطباء وشمس الرياسة بن جميع الإسرائيلي ورشيد الدين أبي حليقة وأمثالهم ممن ظهروا في مصر.
كل هؤلاء من علماء الفلسفة والرياضيات والحكمة الطبيعية وغيرها من العلوم ونسبتهم كنسبة واحد في المائة ممن ظهروا في عصرهم وبعده في الشام وبغداد ومصر وفارس والمغرب والروم أي آسيا الصغر وغيرها من الأمصار ونهضوا بالأمة وأعلو ذكر المدنية الإسلامية في الشرف والغرب وإنما وضع لهم الأساس أفراد من الأمة قدروا قدر العلم فشيدوا معاهده وترجموا كتبه وأكرموا أهله فتكون من عمل أولئك وهؤلاء وتعاونهم جيلاً بعد جيل بناء تلك المدنية العظيمة التي فقدناها بعد ولم نستطع اللحاق بأبناء التمدن الحديث لإعراضنا عن العلم وغفلتنا عن تحدي الأمم الراقية وقبض أكفنا عن إمداد معاهد العلوم وإنشاء دورها مع إنا قد يطلب منا الآن ونحن جماعات فلا نجيب ما كان يعمله الأفراد من أسلافنا من تلقاء أنفسهم وبمحض رغبتهم بالعلم والمعارف وحبهم للارتقاء فما هذا الفرق العظيم.
وبالجملة أيها السادة إنا أمة ذات ماضٍ مجيد وتاريخ جميل وقد ترك لنا أسلافنا درساً لا يمحوه الزمان ونقشاً في كل زاوية من المشرق ومكان فلن يبلغ بنا ضعف النظر أو ضعف القلوب والهمم أو فساد الأخلاق واستحالة الدم إلى أن نتناساه ولا نقرأ صحفه الزاهية التي يدعونا كل سطر منها إلى التذكر والتفكر والسعي الحثيث إلى الترقي الذي مناطه العلم والعلم يحتاج إلى المال. فالمالَ المالَ الكرمَ الكرم الانتباه الانتباه وإلا قضي علينا بالدمار وألحق بنا العار وتبرأ منا أسلافنا الطاهرون ولا يكون ذلك إنشاء الله ما دام فينا الكرام الغيورون والرجال المفكرون والسلام عليكم.