مجلة المقتبس/العدد 51/اللاما وعابدوه
مجلة المقتبس/العدد 51/اللاما وعابدوه
عرف المطالعون من مواطنينا كثيراً عن غرائب ديانات البشر وعقائدهم ومعبوداتهم القديمة والحديثة ولكن نظن أنه لم يخطر لعاقل منهم ببال أنه يوجد حتى اليوم أمم عريقة في التمدن وهي تعد بالملايين تعبد إنساناً حياً مثلهم وتقدم له من أنواع التكرمة والتبجيل والإعظام ما لا ينبغي تقديمه إلا للإله الحي الأزلي القيوم فاللاما وما أدراك ما اللاما إن هو بشر كسائر الناس يأكل ويشرب ويضحك ويبكي ويخطئ ويصيب ومع ذلك فالملايين من الصينيين والهنود والمغول يؤلهونه تأليهاً ويبذلون له من ضروب العبادات ما يقضي بالحيرة والاستغراب والذهول هذا ولما كان الموضوع غريباً عجيباً وقد لا يخلو من الفائدة لمن تتبع تاريخ وأحوال وشؤون الأمم وما انطوت عليه من الشذوذ والمدهشات رأينا أن نطرفهم بهذه المقالة آخذة بناصيتي الإيجاز والوضوح فنقول:
إن الدين اللاماوي قديم جداً مر عليه زهاء ثلاثة آلاف سنة وهو زاه سائد منتشر في مساحة من المعمور تقرب من سبعمائة ألف ميل ممتدة من ينبوع نهر الأندوس إلى حدود الصين ومن تخوم الهند إلى قفر كوبي وتسمى هذه المملكة ثيبة أو تيبت وعدد سكانها يتجاوز الستة ملايين وهي مجاورة لجبال حملايا وترتفع عن سطح البحر نحو عشرة آلاف قدم بيد أن هذا الدين لم ينحصر في تلك المملكة فقط بل تسربت تعاليمه أيضاً منذ عصور متطاولة إلى قبائل وفصائل كثيرة من أمة التتر المتجولة بين ضفاف نهر الولكا وكوريا بجوار بحر اليابان وإلى كثير من جزائر الهند ومقاطعات الصين حتى يقول الباحثون أن الذين يدينون بهذا الدين لا ينقصون عن مئة مليون أكثرهم ممن لهم أقدام راسخة في المدنية الشرقية وعراقة تامة في الحضارة بين أصحاب اللون الأصفر والقوقاسيين من شعوب آسيا الكبرى.
ومقر عرش هذا المعبود استغفر الله إنما هو قصر يسمى باتولي مبنيٌ في ذروة جبل على مقربة من شاطئ بارمبوتر بينه وبين لاسا عاصمة البلاد سبعة أميال وفي حضيض ذلك الجبل يقيم نحو عشرين ألفاً من الكهنة تتفاوت رتبهم الدينية بحسب بعد منازلهم وقربها من عرش اللاما معبودهم الأكبر.
وهم يعتقدون أنه أزلي لا يموت محيط بكل الأمور جامع لأنواع الفضائل ويسمونه أب السماوات وهو لا يرى إلا في مكان سري في قصره يجلس فيه الأربعاء بين مئات من المصابيح الذهبية وعليه من الحلي وأنواع الجواهر النفيسة ما يقصر عنه الوصف فيتقاطرون إلى زيارته من كل صوب وأوبٍ وحدب في موسم معلوم وقليل منهم من يفوز بالدنو منه على قيد ذراع وعلى الذين ينالون شرف الدخول إلى مقدسه أن يطرحوا أنفسهم إلى الأرض ركعاً سجداً وهم بعيدون عنه مرمى النظر إجلالاً وتكريماً ولا يخصُّ بهذه المنحة السامية إلا الملوك وعظماء الأمم وزعماء القبائل فيرونه عن بعد من طرف خفي دون أن يخاطبوه أو ينبس لهم ببنت شفة.
وهذه الزيارة تكفي عندهم لمغفرة كل ما اجترحوه ويجترحونه من الآثام والكبائر مدى الحيوة ومن العجب أنهم يأخذون من رجيعه ما يذخرونه في أوعية صغيرة ذهبية ثم يعلقونه كالتمائم والتعاويذ في أعناقهم وأعضادهم يستشفون بها من الأمراض ويدفعون بها من كيد الأبالسة ونزعات الشياطين وهم يشترون تلك الذخائر الرجسة بألوف مؤلفة من المال ومن حصل على مثقال منها فقد نال بزعمهم سعادة الدارين وجمع بين الحسنيين وقد يدخلون إلى مطاعمهم ولو بعض نقاط من مفرزه المائي ولكن هيهات أن ينال ذلك منهم إلا كل رفيع القدر نافذ الكلمة واسع العطاء فمن خدمه الحظ وخازمه التوفيق بحيث يتهيأ له أن يجمع بين المفرزتين معاص فهو بين الأقطاب الأعلام أمجد من الإسكندر في عصره أو فرعون في مصره فيا لله مما تنحط إليه مدارك البشر.
وللاما سلطان سياسي فضلاً عن سلطانه الديني ومع أن بلاده تحسب منذ القدم تابعة للإمبراطورية الصينية وتؤديها بعض الجزية فهو يدير حكومة بلاده مستقلاً بواسطة عمال يسمونهم خانات وما من مدافع وله في باكين وغيرها من العواصم في الشرق الأقصى سفراء وإمبراطور الصين ذاته يؤدي له الطاعة والاحترام كعبود ولأعوانه الكثيرين الذين يسمونهم اللاماويين الصغار أنفذ سلطة وأسمى مكانة بين عامة الناس وخاصتهم وهم يجبون الهدايا ويجمعون النذور ومن جميع بلاد المغول وثيبة والهند الغربية وغيرها وغيرها باسم اللاما العظيم ومع كونهم فاسدي الأخلاق قبيحي السيرة منغمسين باللذات البهيمية يحترمهم الناس أعظم احترام ولهم جميعاً من الثروات الطائلة ما أصارهم في المقام الأول بين متمولي تلكم الأصقاع وموسريها.
وعندهم أن اللاما متى أدركه اليوم أو مات بسبب آخر من أسباب الموت تفارق روحه ذلك المنزل المتهدم القديم لتحل في مسكن أقوى وأمتن فتنتقل تلك الروح إلى جسد طفل له عندهم علامات وفروق خاصة كالعجل آبيس عند قدماء المصريين فيبحثون عنها بواسطة اللامويين الصغار حتى إذا تحققوا وجودها في أي طفل كان قالوا_هذا هو اللاما_فاتخذوه خلف لسلف قبله وأقاموا عنه نواباً حتى يبلغ أشده وعلى هذا لا يكون في زعمهم موتاً طبيعياً بل هو من قبيل الانتقال العادي من موئل إلى آخر.
وهم يؤمنون بإله واحد يثلثون أقانيمه كما يثلث الهنود برهما ويزعمون أنه ظهر أول مرة (سنة 1026 قبل الميلاد) وكان يملك في بلاد الهند وهو متجسد يموت في الظاهر ولكن في الحقيقة يتنقل كما ذكرنا سابقاً من مسكن إلى آخر مع أنه أزليٌ حيٌّ سرمديٌّ لا يموت ويريدون به نفس اللاما العظيم الذين يسميه الصينيون هوفو أي الإله الحي.
ثم هم يؤمنون بخلود النفس والثواب والعقاب ولهم صلوات وأصوام وذبائح وقرابين وكهانة ذات فروض ونذور ومناسك وصوامع وأديار وعدد كهنتهم يتجاوز الثلاثين ألفاً وكلهم يلبس ألبسة خاصة ذات مناطق صفراء وقبعات تختلف أشكالها وأوضاعها باختلاف رتبهم الدينية ولهؤلاء الكهنة مدارس تلقنهم فروض الدين ونواميسه وتعاليمه وشيئاً من الطب وعلم الهيئة وضروباً من الشعوذة والتدجيل يمخرقون بها على العامة المخدوعة بأساليبهم السحرية غير أن دهاء الإنكليز الذي يستسهل أمرهم بعض متهوسي الكتبة ذوي الأماني والأحلام لم يدع هذه الزمرة المضللة وإلهها الدجال يتمتعون بما توارثوه عن آبائهم منذ آلاف أعوام من المجد السامي والمكانة العليا بل لم برحوا منذ بعض قرون فآتياً يبثون دعاتهم ورسلهم وينصبون شباكهم وأحاييلهم بين اللامويين متعذرين بكل وسيلة من وسائلهم الفعالة لبسط نفوذهم وتمتين دعائمهم في تلك الأقطار حتى ألجأوا اللاما وأتباعه بعد حملات سالت فيها الدماء سيل الماء إلى موالاتهم والدخول في حمايتهم وتحت سيطرتهم وغير ذلك مما كشف القناع عن بصائر الصينيين وأمات ثقتهم وصدق يقينهم بذلك المعبود الكاذب فنهضوا عليه نهضة رجل واحد وأجلوه عن مقدسه فمضى هارباً صاغراً مدحوراً لا يلوي على شيءٍ يلتمس من مواليه الإنكليز حماية روحه وماله إلى غير ما هنالك مما فاضت ببيانه صحف الأخبار وجاء منطبقاً على ما يريد الإنكليز خلافاً لما يتوهمه البعض ممن ينظرون إلى المرامي السياسية بعين الأحوال فسبحان مصرف الأمور بحكمته ومقلب الأحوال بقدرته إن له لآيات ترى تبدو من خلال تعاقب الليل والنهار.
ومن غرائب هذه البلاد أن الهواء فيها مع ارتفاعها المتناهي عن سطح البحر وجاورتها لأعظم جبال آسيا هو باردٌ جافٌ لا مطر فيه أصلاً حتى أن الثلج قلما يرونه في تلك الأصقاع والخشب هنالك لا يبلى بل يصير صلباً حتى يضارع الصوان ويبقى مع الدهر.
كذلك اللحم إذا عرضته للهواء يجف حتى يمكن سحقه بسهولةٍ فيصير ناعماً كالكحل وهكذا يفعلون.
ومع هذا لا ينبت فيها شجر برّي قط تجد في أوديتها المحجوبة عن الزعازع والأعاصير أشجاراً مثمرة كثيرةً كالتفاح والتين والكروم والرمان والجوز وهناك يزرع الأرز والحنطة والشعير وما يماثله من أنواع الحبوب فتكون غارته جيدة بخلاف نجادها المرتفعة المعرضة للرياح فإنها لا تصلح للزراعة إلا شذوذاً.
وهي غنية بمعادنها الثمينة فإن الذهب والحجارة الكريمة كالزبرجد والماس توجد هناك بكثرةٍ كما يوجد أيضاً الرصاص والزئبق والحديد والبورق والملح.
وأهلها على غرابة دينهم وخشونة شعائره لينو العريكة دمثوا الخلق خفيفو الروح أولو شجاعة وكرم وأمانة ومروءة ينزعون إلى الحرية والاستقامة والصدق في معاشراتهم ومعاملاتهم ولهم كأهالي فينيقية الأقدمين أشد الولوع بالتجارة على اختلاف مناحيها وأكثرهم زاهد في الزراعة لعقم أراضيهم وقحلها ولكنهم يستغلون باستخراج المناجم والتعدين ولهم حذق عجيب بتثقيف الحجارة الكريمة وإصلاحها وإظهار رونقها ولمعانها.
ولغتهم وإن كانت من ذوات المقطع الواحد إلا أنها واسعة يعبر بها عن المعاني الفلسفية والدينية مهما كانت دقيقة غامضة بسهولةٍ وجلاء وهم يكتبون بها من الشمال إلى اليمين كما يكتب الهنود باللغة السانسكريتية ومكتبتهم غنية في آدابها وأكثرها أناشيد وتراجم وشروح مستمدة من كتب البوذيين المقدسة.
ويذهب أكثر علماءِ (البيولوجيا) أن أصل هذه الأمة مغوليٌّ ويقيم بين ظهرانيها قليل من المسلمين ومعظمهم من أهالي كشمير ويوجد هناك أيضاً بضعة آلاف من الكاثوليك.
ويكثر عند اللامويين تزويج جملة رجال بامرأة واحدة كأهالي جزيرة سيلان وهي عادة مستفيضة في كل أمة أو بلاد تقل نساؤها ويكثر رجالها.
ولقد اختلف الكتبة والمؤرخون كثيراً في اسم هذه المملكة فمنهم من يدعوها (ثيبة) ومنهم من يسميها (تيبت) وبعضهم من قال أنها (تبت) ولقد ضبطها ياقوت الحموي بالباء المشدودة أما الأوربيون فيرسمونها هكذا وأول سائح استقرأ تلك البلاد هو (توماس ماتني) وذلك سنة 1812 للميلاد ثم وليه القس (هوك) سنة 1845 و1846 وإنما اسقراؤهما إياها لم يتجاوز القسم الغربي منها ولكن دعاة اليسوعيين قد عرفوا قبلها العاصمة (لاسا) وما حولها منذ القرن السابع عشر أما سائر أقسام المملكة ولاسيما الشرقية والشمالية فما برحت حتى اليوم مستغمدة أحوالها في سحاب كثيف وتعد عند الجغرافيين من مجاهل الأرض.
وهذا مجمل ما أمكن الوقوف عليه بعد التدقيق والتنقيب عن أحوال تلك المملكة الغريبة في ديانتها وعباداتها في إقليمها وبيئاتها في طبائع أهلها وعاداتهم أخذناه محصلاً عن عدة مصادر هي محل الثقة ثم أطرفنا به المقتبس تفكهةً لقارئيه وتبصرةً وذكرى.
دمشق.
سليم عنحوري