مجلة المقتبس/العدد 51/التعليم الوطني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 51/التعليم الوطني

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 5 - 1910



من أهم المسائل الاجتماعية في العالم مسألة التعليم فهو الذي تحرص عليه الأمم حرصها على حياتها. والتعليم الوطني هو أرقى أنواع التعليم به تحفظ الجنسيات واللغات ويبقي على العادات والقوميات ولذلك تجد العراك في هذا الشأن على اشد ما يكون بين الأمم الغالبة والأمم المغلوبة فالبولونيون لا يشمئزون من الألمان والنمسويين والروسيين إلا لأن كلاً من ألمانيا والنمسا وروسيا تحاول أن تصبغ البولونيين بصبغتها. والجزائريون لا يتأففون من فرنسا إلا لأنها تنوي القضاء على جنسيتهم ولغتهم ودينهم بتلقينهم المبادئ الإفرنسية واللغة الفرنسية. والكوريون لا يغضبون على اليابانيين إلا لأن هؤلاء يحبون أن يصبغوا أهل كوريا بصبغتهم ويطبعونهم على مناحيهم. وأهل الإلزاس واللورين لا يبكون من الألمان إلا لأنهم يرمون إلى تربيتهم على الأسلوب الألماني وتلقينهم اللسان الألماني لينسوا مع الزمن لسانهم وقوميتهم كما نسي أهل شلزويك هولستاين الدانيمركيون لغتهم بانضمامهم إلى بروسيا. والجاويون لا يتأوهون من هولاندة إلا لسعيها في تنشئتهم على مناحيها. والهنديون أعظم ما يسقمونه على الإنكليز تلقين الناس حب إنكلترا وعظمتها ولغتها وإن كان الإنكليز أكثر الأمم مراعاة لعواطف المغلوبين على أمرهم.

وهكذا لو استقرينا تاريخ الإنسان إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم نجده عبارة عن سلسلة ظلامات منشؤها سوء التفاهم بين الناس يريد القوي أن يسخر الضعيف ويطبعه على منازعه لاعتقاده بأنه أعلى منه كعباً وأكثر علماً وأدباً وأرجح عقلاً وأنجح سعياً شأن العالم مع الجاهل لا يود أن تمر به ساعة إلا يعلمه به شيئاً ليقربه منه ويحسن الانتفاع به ولكن ما كل قوي يكون أعلم من ضعيف ولا غالب أعقل من مغلوب وندر بين الناس والأمم من يقرر بأرجحية غيره عليه ولو كان الحق في ذلك أوضح من فلق الصبح.

نقول هذا ونحن نرى التعليم الوطني في مصر والشام وهما من أعرق البلاد في الحضارة والتعلم على أضعف ما يكون وإن كانت مصر سيدة البقاع في هذا لأن انتباه الناس منذ سنين لجعل طبقات التعليم بالعربية بعد أن كاد يصبح كله بالإنكليزية لا بد أن يحفظ على المصريين لغتهم وأخلاقهم وتقاليدهم أكثر مما يحفظها على السوريين مثلاً. فقد عبثت في السوريين دواعي التفريق في الوطنية وضعفت ملكتهم فيهم بقوة المدارس الغير وطنية في ديارهم. فإذا كانت هذه المدارس قد نفعت سورية بما أدخلته إليها من النور القليل فقد أضرتها بانحلال عقدة الوطنية فمدارس الأميركان والروس واليونان والفرنسيس والإنكليز والألمان قد أصلحت وأفسدت. أصلحت بتلقين من تخرجوا فيها شيئاً من معارف الغرب وأضعفت في نفوسهم حب الوطن بتحبيبها إليهم أوطاناً غير أوطانهم وتعريفهم إلى رجال غير رجالهم ومساواتها فيس أعينهم الأمم. والعاقل منة حرص على نفع أمته قبل كل نفع وانتفع بما عنده قبل أن يتطال إلى ما عند غيره.

رأينا أفاضل الطبقة التي نشأت في مدراس الفرنسيس والأميركان والروس في أدوار مختلفة فلم نشهد فيهم إلا النادر من يغار على وطنه كما يغار على حرمه فكنا إذا حدثناهم بما تصير إليهم حالة لغتهم ووطنيتهم بتخليهم عنها قالوا وأي نفع يرتجى لمن يتعلم اللغة العربية وهل هي إلا لغة قومٍ بادوا وانقضت أيام سعدهم ومن يضمن لنا أن نعيش إذا تعلمنا اللغة العربية ولذلك كانت أقل لغة من لغات العالم المتمدن أكثر فائدة. أما حالتهم في انحلال عقدة الوطنية فأدهى وأمرُّ. ومن زهد في لغة آبائه وجدوده كان حرياً بالزهد في وطنه ووطنيته. واللغة والوطن يصح أن يكونان اسمين لمسمى واحد.

شهدنا ناساً قيل عنهم أنهم حملة للشهادات العالية من مدارس الأجانب فكنا نسألهم بعض الأسئلة البسيطة في تاريخ أمتهم وبلادهم فما كانت أجوبتهم إلا استهزاء بما يترتب على معرفتهم ذلك من الفوائد وكان أيسر ما يحجنا به أحدهم أنه يعرف تاريخ روسيا وأميركا وإنكلترا أو فرنسا جيدة ويوردون لنا أيام تلك الأمم وأسماء رجال الحرب والسياسة والعلم فيهم ويعجزون عن ذكر شيء من تاريخ بلادهم إلا القليل الذي تلقفوه بالسماع من العامة. هذا في ناشئة المدارس الأجنبية الذين هان عليهم أن يغادروا بلادهم وأكثرهم نزحوا إلى مصر وأميركا وغيرهم اختاروها موطناً لهم وربما حدثتهم أنفسهم أن يتجنسوا بالجنسية الأجنبية لأنه لا ترجى عودة لهم إلى بلادهم وقد ملئت نفوسهم بحب من تخرجوا بهم.

وهناك طبقة ومعظمها من المسلمين تخرجت من مدارس الحكومة فخرجت أقرب إلى المجمعة منها إلى العربية لأن المدارس الأميرية ما برحت إلى اليوم وقبل اليوم تعلم اللغة العربية تعليماً صورياً وتوفر عنايتها بالتركية لغة البلاد الرسمية وإنا لنخجل أن نقول أن سورية قد نشأ منها زهاء خمسمائة ضابط ونحوهم أو أكثر من الموظفين لا يعرفوا من اللغة العربية إلا أن يتكلموا الكلام العادي البسيط وأكثرهم يمزجونه بألفاظ تركية لا يفهمها ابن العرب ويعتذرون عن قصورهم بأنهم لم يتعلموا في المدارس لغة آبائهم وأجدادهم ومن يقدرون منهم على الكتابة الصحيحة بلغتهم فأفراد يعدون على الأصابع تعلموها في الغالب بعد أن أنجزوا دروسهم. والمتخرجون في مدارس الحكومة لا يحسنون في الأكثر تاريخ الدولة العثمانية فضلاً عن تاريخ العرب وأمجاد أسلافهم.

جنت مدارس الأجانب والحكومة على هذه البلاد أعظم جباية لأن المتخرجين فيها ومعظمهم من الذكاء على جانب عظيم لم ينفعوا الدولة حق النفع ولم ينفعوا البلاد التي ولدوا فيها فتراهم ضعافاً في حبهم أوطانهم فإما أن يتنقلوا في الوظائف وإما أن ينتقلوا من البلاد جملة فتحرم منهم الأمة التي أولدتهم والسماء التي أظلتهم والأرض التي أقلتهم والبلاد لا تعمر إلا بأيدي أبنائها بعد أن قيل في الأمثال قتل أرضاً عالمها وهل أعلم بها من أبنائها.

ابحث عمن تخرج في هاتيك المدارس منذ ثلاثين سنة تجدهم إلا قليلاً وقفوا أنفسهم على نفع غيرهم واحتقروا جنسيتهم ولغتهم وربما كان عدد المحتقرين لهما في ناشئة المدارس الأميرية أكثر من متخرجي المدارس الأجنبية لأن هؤلاء يرون باحتكاكهم بالأجانب مبلغ تفاني هؤلاء في إنهاض أممهم وحبهم لغتها وتقاليدها ولمدارسهم عناية بالعربية أكثر من المدارس الأميرية فإذا كان الطالب حصيف الرأي لا ينطلي عليه محال من يعلمونه ولكن من أين له وطنية كوطنيتهم وغيرة كغيرتهم وهو لا يعرف من أسباب وطنيته حتى ولا لغتها ولا من مجد أجداده إلا قشوراً ولا من حاجات بلاده وقانونها إلا تافهاً. وهل غير القوي يدافع عن حوزته وغير العاقل يحتفظ بعاداته ولغته والقوة لا تنشأ إلا بالعلم والتربية الوطنية.

إن المدارس غير العربية في سورية أشبه بالسارق الذي يسرق الأعلاق ونفائس المتاع. استغفر الله بل من يسرق فلذات الأكباد ليخرجها على ما أراد أشق على النفس وطأة وأعظم في المغبة أثراً وهل يقاس سارق الأموال بسارق الأطفال والرجال أوليست الأرواح أثمن من كل بضاعة وهل أعز من الولد على قلب والديه.

وليس معنى هذه الدعوة إلى مقاطعة المدارس الغير العربية فإن أهل هذه البلاد لا غنى لأفراد منهم على تعلم اللغة التركية لغة السياسة الجامعة ولا عن تلقف بعض اللغات الأوربية الراقية كالإنكليزية والفرنساوية والألمانية والإيطالية ولكن الواجب أن يتعلموا ما شاؤا من اللغات والعلوم ولكن بعد أن يحكموا لغتهم كتابة وخطابة حتى لا يسرق أبناء سورية بتساهل آبائهم ويبيعونهم من أقوام أخر بالمجان على أمل التوظف في وظائف الحكومة أو الاحتكاك بالأجانب احتكاكاً يؤدي في الأكثر إلى ارتحال المتخرج بهم عن بلده وزهده في وطنه زهداً أبدياً.

إن المدارس التي تعلم غير الأسلوب الوطني هي التي تسلب من سورية اليوم بعد اليوم روحها وناهب الروح ماذا يدعى في الشرع والعقل؟ إن لأهل كل قطر منازع خاصة بهم وعادات وأخلاقاً ومميزات إذا فقدوها هلكوا وانحل أمرهم وآضوا عبئاً ثقيلاً على البلاد لا ينتفعون بها ولا هي تنتفع منهم. فالواجب إذاً إنشاء مدارس لإحياء التعلم الوطني لتحيا بحياته البلاد لأن مئة رجل يعرفون الزراعة باللغة الفرنسية أقل نفعاً من واحد يشرحها للعرب بالعربية وقد يكون تعلمها بالعمل لا بالنظر. وهكذا الحال في مئة كاتب متعلم قرأ العلوم والآداب بغير لغته لا يستفيد منه قوم إلا معشار كاتب واحد يعرف كيف يعلم عامة قومه قبل خاصتهم وجاهلهم قبل عالمهم أصول المعاش والمعاد بلغة أبيه وأمه.

إن ما عاق الأتراك عن فهم أسرار الشريعة قلة عنايتهم بالعربية التي يجب على كل مسلم أن يتعلمها والذي عاق العرب عن فهم قوانين البلاد جهلهم بالتركية لغة الجامعة العثمانية التي توجب السياسة تعلمها فظلت أكثر قوانيننا مكتوبة باللغة التركية ولم يستفد منها إلا قلائل من الأتراك وبعض من تعلموا ليتوظفوا من العرب والروم والأرمن والأرناوءد والأكراد واللاز والفلاخيين والبوشناقيين والبلغاريين. ولو تخرج في مدارس الحكومة أناس من العرب يحسنون الكتابة والخطابة كما يحسنونها باللغة الطارئة عليهم لتمكنوا على الأقل من نقل هذه القوانين إلى العربية وعرف العثمانيون ما لهم وما عليهم وأفادوا بلادهم وقوميتهم فائدة كبرى.

إن مما يبكي أن يسن ابن الآستانة قانوناً يحاول تطبيقه على ابن حوران وهلا كان الاختلاف في الحاجيات طبيعياً بين تركي وعربي وأوربي وآسياوي. ولذلك جاءت قوائم الدروس الجديدة في المدارس الابتدائية والثانوية في الولايات العربية مثل دروس الولايات التركية لا أثر فيها لتعليم العربية إلا أن يكون قراءة القرآن في الصفوف الابتدائية يتلى فيها بلا فهم ولا علم.

وأكبر دليل على أن نظارة المعارف العثمانية جاهلة بطبائع البلاد أنها أسست مدرسة لتخريج المعلمين في دمشق ولم تذكر اسماً فيه للعلوم العربية لغة الدين والبلاد وجعلت الجهد كله مصروفاً إلى تلقين التركية حتى لا يعلم الأساتذة الجدد إلا ما تعلموه ويكثر عدد العارفين بالتركية والمنحلين من لغتهم فلا يأتي زمن خصوصاً متى أصبح التعليم الابتدائي إجبارياً إلا وقد أهمل العرب لغتهم بتاتاً.

صرحنا بهذا وإن كان فيه غضاضة كبرى على العرب الذين لم يستفيدوا من حرية الدستور حتى الآن وينشئوا على الأقل كتاتيب منظمة لتلقين لغتهم من أيسر الطرق حتى ينتفعوا بعد الآن بأولادهم حق النفع ولا يفقدوا عدداً كبيراً ممن يدخلون مدارس الأجانب فتنحل وطنيتهم تضعف لغتهم. أما مؤسسو تلك المدارس أجنبية كانت أو أميرية فإنهم يعذرون للسبب الذي أوردناه آنفاً وهو أن القوي يريد أن يستغرق الضعيف سنة من سنن الكون. ولم يبلغ البشر درجة راقية من التمدن حتى تتساوى في عيونهم اللغات والعناصر كلها وتتجرد أمة فتفنى لإحياء غيرها وتقلل من جنسها لتزيد سواد الآخر ولا تهمها دارها وتريد هدمها لتعمر بأنقاضها دار جارها والسلام.