مجلة المقتبس/العدد 5/صدور المشارقة والمغاربة
مجلة المقتبس/العدد 5/صدور المشارقة والمغاربة
القاضي الفاضل
ولد سنة 529 وتوفي سنة 596
هذا هو الرجل الذي قال فيه عبد اللطيف البغدادي أحد فلاسفة الإسلام: دخلنا عليه فرأيت شيخاً ضئيلاً كله رأس وقلب وهو يكتب ويملي على اثنين ووجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقوة حرصه في إخراج الكلام وكأنه يكتب بجملة أعضائه. . . وسألني مسائل كثيرة ومع هذا فلا يقطع الكتابة والإملاء.
هو عبد الرحيم بن علي البيساني نسبة لبيسان إحدى بلاد فلسطين الملقب بالقاضي الفاضل. قيل أن سبب تعلمه الإنشاء ما روي له من أنه قال: كان فن الكتابة بقصر في زمن الدولة العلوية غضاً طرياً وكان لا يخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس مكاناً وبياناً، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطاناً، وكان من العادة أن كلاً من أرباب الدواوين إذا نشأ له ولد وشدا شيئاً من علم الأدب أحضره إلى ديوان المكاتبات ليتعلم فن الكتابة ويتدرب ويرى ويسمع أشياء من علم الأدب. قال: فأرسلني والدي وكان ذا ذاك قاضياً بثغر عسقلان إلى الديار المصرية في أيام الحافظ وهو أحد خلفائها وأمرني بالمصير إلى ديوان المكاتبات وكان الذي ترأس به في تلك الأيام رجل يقال له ابن الخلال. فلما حضرت إلى الديوان ومثلت بين يديه وعرفته من أنا وما طلبتي رحب بي وسهل. ثم قال لي: ما الذي أعددت لفن الكتابة من الآلات فقلت ليس عندي شيء سوى أني أحفظ القرآن الكريم وكتاب الحماسة. فقال: في هذا بلاغ. ثم أمرني بملازمته فلما ترددت إليه، وتدربت بين يديه أمرني: بعد ذلك أن أحل شعر الحماسة فحللته من أوله إلى آخره ثم أمرني أن أحله مرة ثانية فحللته.
وصف العماد الكاتب من كتاب الدولة الصلاحية المترجم به على طريقته في الكتابة فقال: رب القلم والبيان، واللسن واللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة، والبديعة المطرزة: والفضل الذي ما سمع في الأوائل، ممن لو عاش في زمانه لتعلق بغباره، أو جرى في مضماره، فهو كالشريعة المحمدية التي نسخت الشرائع، ورسخت بها الصنائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، ويطلع الأنوار، ويبدع الأزهار، وهو ضابط الملك بآرائه، رابط السلك بلألائه، إن شاء أنشأ في يوم واحد بل في ساعة واحدة ما لو دون لكان لأهل الصنعة، خير بضاعة، أين قس عند فصاحته، وابن قيس في مقام حصانته، ومن حاتم وعمرو في سماحته، وحماسته.
طريقة القاضي الفاضل هي كطريقة العماد الكاتب في الأسجاع المنمقة المحبرة ولقد استحكمت هذه الطريقة في القاضي حتى صار يكتب فيها كأنها فيه طبع لا مسحة عليها من التكلف والتعمل. وهي الطريقة التي نقلها العماد الكاتب الأصفهاني عن الفارسية في الغالب ولم تكن شائعة بالعربية في بلاد الشرق وقد برز فيها صاحب الترجمة حتى فاق المتقدمين. قال ابن خلكان: أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد وهو مجيد في أكثرها.
وكثيراً ما يقع للفاضل عبارات تكاد تكون من دلائل الإعجاز على بيانه، ومن أسرار البلاغة التي يسمو بها على أقرانه. مثل قوله في صفة قلعة شاهقة ويقال أنها قلعة كوكب: وهذه القلعة عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة لها الغمامة، عمامة، وانملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة.
ولقد نال القاضي الفاضل الحظوة من صلاح الدين يوسف بن أيوب بإنشائه حتى أنه لم يكن وزير الإنشاء عنده بل مدبر أمور مملكته وله من الدالة ما للولد على الوالد أو الوالد على الولد حتى استشاره السلطان يوماً في الحج فلم يسمح له وقال له أن رفع مظلمة عن أهل وادي الزبداني أفضل من الحج إلى بيت الحرام على ما جاء في كتاب الروضتين في تاريخ الدولتين النورية والصلاحية. وفي هذا التاريخ من أحواله وانموذجات من إنشائه تدل على ماله من المنزلة السامية في قلب السلطان صلاح الدين والمكانة من تدبير أمور مملكته ودولته.
وكان القاضي يعمل الخيرات ولم تشغله مصالح الدولة عن النظر فيها وإقامة معالمها وحبس الأوقاف على وجوهها النافعة وإكرام العلماء والأدباء قصاده من أقطار البلاد الإسلامية في عصره. كل هذا وكان في وقته متسع لطلب العلم ومذاكرة أهله وخطب ودهم وقربهم. وناهيك بأشغال تقتضيها أمور الدولة على ذاك العهد المحفوف بالمخاوف والفتن.
واستمرت حال القاضي على ما كانت عليه زمن الملك الناصر صلاح الدين عند ولده الملك العزيز وكان يميل إليه في حياة أبيه. ولما توفي العزيز قام ولده الملك المنصور بالملك بتدبير عمه الملك الأفضل نور الدين وتوفي أول دخول الملك العادل أبو بكر بن أيوب إلى الديار المصرية وقد نال بصناعة الإنشاء ما عز نيله على المحدثين والقدماء ولسان حاله ينشد لابن مكنسة الإسكندري وكثيراً ما كان يرددهما.
وإذا السعادتك لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان