مجلة المقتبس/العدد 49/نشوء اللغات الإسلامية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 49/نشوءُ اللغات الإسلامية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1910



تتمة ما ورد في الجزء الماضي

دعت ضرورة إيجاد ألفاظ جديدة للتعبير عن أفكار حديثة أن تأخذ اللغة العربية من اللغات الأجنبية أو أن تعمد إلى معجمها بأن تصيغ ألفاظاً جديدة أو بأن تضع معاني جديدة للألفاظ التي تجدها في متن اللغة. ولم يكن في العربية سهولة اللغات الرومانية بأن تعمد إلى اللاتينية أو اليونانية لتصيغ التعابير الجديدة وبهذا تألف حزبان حزب يقول بأخذ الألفاظ الإفرنجية والآخر لا يرضى إلا بالرجوع إلى الاشتقاق من متن اللغة. والظاهر أن الحزب الأول قد كتبت له الغلبة أولاً ولاسيما في بلاد الجزائر وذلك لجهل المترجمين أو لغلبة الكسل عليهم فبدلاً من أن يبحثوا في إيجاد لفظ يقابل اللفظ الفرنسوي اكتفوا بنقله عَلَى ما هو بدون أن يحدثوا فيه تغييراً ثم إن عدم وجود صحافة وطنية مما ساعد عَلَى ذلك أيضاً فإن جريدة المبشر الرسمية ما برحت إلى عهد قريب هي الجريدة الوحيدة في الجزائر أما جرائد البلاد الخارجية فلم يكن دخولها إليها إلا من المتعذرات. وقد ذكر المسيو واشنطون سويرس من جملة الألفاظ الأعجمية التي دخلت عَلَى اللغة الجزائرية لفظة شامبيت ويجمعونها عَلَى شامابيت أي حارس الحقل بدلاً من عسس الفحص وفي الوراق الرسمية السيد الكوفرنور جنرال أي سيدي الحاكم العام في حين كان من السهل جداً أن يقال سعادة والي مملكة الجزائر وقد أنحى برسنيه في كتابه الملح العربية عَلَى هذا النقل الرديء وحق له أن ينحي عليه قال لأنه لا يفهم له معنى حتى عند الفرنسيس أنفسهم.

ويا ليته يرى ما سرى إلى لسان العامة من الجزائريين وفي مكاتباتهم من الألفاظ الفرنسوية المحرفة تحريفاً تتعذر أحياناً معرفته. وفقد جاء في كتاب الرسائل العربية المخطوطة الذي نشره المسيو دلفين لفظة لانتوراليزه فرانسه بمعنى المتجنس بالجنسية الفرنسوية ولفظة كاتارفاويتبدلاً من لفظة ثمانية وثمانين. ونحن لا نورد ألفاظاً كثيرة من هذا القبيل من الألفاظ الإفرنجية التي يقل فيها التحريف ولا تتأذى منها النفس في العبارة العربية مثل لفظة كونسيون دو امتياز ماءٍ التي وردت في رسالة لأحدهم فنقلها كما هي.

ولقد وقع رجوع إلى الأصل في مكافحة الألفاظ الأعجمية التي أوشكت أن تغير نضرة اللغة. فأكد المسيو باربيه دي مينار سنة 1896 مع السرور أن الصحافة العربية في مصر وسورية أخذت تستعيض عن الألفاظ الأجنبية التي كثرت فيها بألفاظ عربية صرفة وذلك أن اللغة يمكنها بما لها الاستغناء عن الألفاظ الأعجمية وكان منها أن عربت سنة 1897 لفظة كونغره بلفظة مؤتمر للدلالة عَلَى مؤتمر المستشرقين الذي عقد تلك السنة في مدينة باريز ووضعت كلمة مستشرق للفظة أوريانتاليست الفرنسوية وهي اسم الفاعل من شرق والمصدر استشراق أي طلب الشرق أو انتحاء نحو الشرق وهي تنطبق عَلَى الأصل الإفرنجي كل الانطباق. وأخذ اللسان العثماني هذه الألفاظ الثلاث عن العربية وانشأ يستعملها وكان من قبل ينقل اللفظ الفرنسوي برمته واحتذى اللغة العربية مطالب الحياة الحديثة هو من العادات المتبعة في الصحافة التونسية ويرجى أن تجري سائر الجرائد العربية في البلاد الأخرى والجرائد السورية والمصرية وهي نموذجها ومصدرها الوحيد عَلَى مثال الجرائد التونسية في تعريب الألفاظ.

وإليك الآن عدة أمثلة في استعمال المولد من الألفاظ العربية الصرفة اقتبسناها من كتاب المسيو واشنطون سويرس ومن هذه الألفاظ لفظة منطاد للبالون ودراجة للبيسيكليت ومطفأة لمضخة الحريق ومستوصف. ومن جملة الألفاظ التي كانت موجودة في اللغة واستعملت لمعنى جديد لفظة امتياز وإنهاء ودشن افتتح وتحقيق ومذهب (سياسي) وصبغة (سياسية). وأنت ترى أن لفظة صبغة بالمعنى الخاص معناها اللون والصباغ أما الذين يصوغون الكلمات المولدة عندما يعمدون إلى ألفاظ موجودة في متن اللغة فإنهم يستندون عَلَى المعنى الأصلي للفظ الذي يريدون أن يعربوه. ومن هذه الألفاظ التي كان عَلَى المسيو واشنطون سويرس أن يضيفها إلى قائمة الألفاظ المعربة لفظة كلية فقد كان المترجمون يستطيعون أن يطلقوا عليها لفظة دار العلوم أو دار الفنون ولكن كثيراً من الكتاب لاحظوا أن لفظة أونيفرستيهتعطي معنى الاجتماع والمجموع فصاغوا من كل كلية وهي ترجمة حرفية للفظة الفرنسوية. ولفظ كلية شائع اليوم في مصر كثيراً.

وبعد فإنا إذا بحثنا عن الألفاظ في كل قطر عربي وعن علاقة ألفاظه بالألفاظ الفرنسوية نستنتج ما يأتي: ففي سورية ومصر وتونس كمية كبيرة من الألفاظ الفرنسوية مختلفة الأساليب وفيها أيضاً كثير من الألفاظ التركية أو الفارسية انتقلت إلى العربية بواسطة التركية وهي في الأكثر تعابير عسكرية وإدارية أو ألفاظ تشريف مثل باشا وبك وأفندي وخانم. وألفاظ طليانية مثل سيغورطه (ضمان من الحريق أو ضمان الحياة) المستعملة في التركية. وندر استعمال هذه الألفاظ في البلاد الأخرى وهي شائعة بالاستعمال عَلَى الألسن في طرابلس الغرب كما تجد بعض الألفاظ الرومية وهناك ألفاظ أعجمية أخرى ولكنها قليلة وهي مستعملة في مصر خاصة مثل لفظة جنيه الإنكليزية لليرة المصرية. وهذا جماع الألفاظ الأعجمية وقد سبق لنا الكلام عَلَى المالطية وهي بين اللغة التونسية والمصرية وفيها أثر كبير من الإيطالية.

ثم أن في تونس لغة مكتوبة منقحة للغاية ليس فيها شيءٌ من الألفاظ الأجنبية ولغة محكية دخلت إليها الألفاظ الإفرنسية والإيطالية بكثرة. أما لهج الجزائر فتكثر فيها الألفاظ الفرنسوية وفيها كما في لهجة تونس بعض الألفاظ التركية وقليل من الإسبانية والإيطالية. أما لغة مراكش فتجد فيها تعابير فرنسوية وإيطالية واقتبست قليلاً من لغة البربر وكثيراً من اللغة الإسبانية وربما بعض الألفاظ البرتقالية. وقد أكد المسيو مرسيه في بحثه عن هذه الألفاظ المشتركة أن الألفاظ البربرية (التي قد تكون أحياناً ألفاظاً من أصل عربي متبربرة ثم أعيدت إلى اللغة العربية) قلما توجد إلا في البلاد الكبرى التي تكثر فيها اللغة البربرية ثم أن تأثير اللغة الإسبانية في المدن الساحلية محسوس جداً فتراهم يستعملون في الكلام لفظة كوشطا للساحل مأخوذة من كوستا الإسبانية وفالسو أي رديء الصفة وفافور نعمة وخلينالد محتذاة من جنرال وموندا من موني أي المعاملة. ولم يثبت بأن الأدوات أو الحروف دي وديال الكثيرة الاستعمال قد أتت من دي ودل ولكن اللغة العربية المراكشية أخذت عن الإسبانية حرف ب. وقد لاحظ المسيو مرسيه وحقت له هذه الملاحظة بأن قلة التناسب في هذه اللغة وتأثيرها باللغة البربرية والإسبانية ناشئة من أسباب كثيرة والحقيقة أن اللغة البربرية ليست لغة مكتوبة هو من أهم الأسباب عَلَى أن العربية كانت في كل زمن محو اللغة البربرية وعاملة عَلَى تمدنها وتحضيرها.

من الصعب تعيين اللغات الدخيلة عَلَى لغات فارس الوطنية قبل الفتح العربي فللغة البهلوية كتابة آرامية وأكثر ألفاظها آرامية ولكن أي تأثير كان في اللغة من هذه الألفاظ السامية المشتركة؟ والواقع أن هذه الألفاظ الدخيلة لم تكن أسماء مجردة بل أسماء كثيرة الاستعمال وضعت لما يقابلها من الألفاظ الإيرانية التي كانت ولا تزال موجودة وهذا يقرب من الحقيقة من يدعون أن البهلوية لا تختلف إلا في الخط.

وقد تبدل كل شيء في الفتح الإسلامي فدخ لت عَلَى اللغة الفارسية ألفاظ سامية جديدة ومنها العربي التي هي تعابير دينية وألفاظ مجردة وأخذوا يكتبونها بألف باء العرب وهذا هو أصل الفارسي الحديث. ولكن هذا التحول طال أمره حتى أن الفردوسي كتب في القرن العاشر كتابه الشاهنامة وهي قصة أبطال فارس بدون أن يستعمل الألفاظ العربية وهذا يدل عَلَى مقدرة يصعب تقليدها اليوم وإن كان بعض العلماء يقدرون عَلَى كتابة مكاتيب مطولة ومقالات جرائد مقتصرين فقط عَلَى الألفاظ الإيرانية ولكن من إدغام اللغة الفارسية بالألفاظ العربية نشأت اللهجة الفارسية الحالية.

ولقد كان الفرس والأتراك أو التتار في القرون الوسطى الكثير من العلائق التي أبقت أثراً منها في اللغة وسرت بعض الألفاظ التركية إلى الفارسية منذ قرون ومن جملها ما ذكر أرمينوس فمبرى من الألفاظ المستعملة في الفارسية وهي من أصل تركي مثل سالار قائد وخواجه معلم أو أستاذ. وسرى إليها بعض الألقاب وأسماء الوظائف مثل آغا وبك وخان وباشي (زعيم) التي كثيراً ما نراها متصلة بألفاظ فارسية مثل متولي باشي وهو اسم لقب ديني وده باشي زعيم عشرة (أون باشي) أما سائر اللهجات المحكية في فارس كالآرامية ولغات الشعوب القافقاسية الخاضعة للحكم الفارسي فلم تتأثر حتى أوائل القرن التاسع عشر بالمؤثرات الفارسية وهكذا في اللغة الهندستانية عَلَى كثرة الصلات الموجودة بين فارس والهند فالواجب مع هذا أن لا نغفل عن لفظة لك مئة ألف وكورور خمسمائة ألف وتشاب طبع أو مطبوعات وتنوب هذه عن لفظة طبع العربية وهي لفظة حديثة العهد.

هذا ما يقال في الدور الذي سبق الدور الذي صار لفارس صلات مع أوربا في أوائل القرن الماضي. وبعد ذاك الدور هاجمت الألفاظ الأجنبية اللغة ولم تكن هذه الألفاظ مأخوذة عن أقرب الأمم من فارس كما كان المنتظر ولا من أكثرهن نفوذاً فيها من حيث السياسة والاقتصاد بل إن اللغة الفرنسوية هي التي دخلت عَلَى أهل الجيل الحاضر بأفكارها ومصطلحاتها اللازمة للتعبير عن الألفاظ الحديثة في الشرق.

بحث في هذا الموضوع أحد كبار رجال فارس المرزا علي خان ذكاء الملك مدير مدرسة السياسة في طهران في محاضرة له ألقاها في مدرسة الاتحاد الإسرائيلي في عاصمة إيران يوم 13 نيسان 1907 ونشرت محاضراته في المجلة الزرقاء تكلم فيها بعد أن أورد بعض الملاحظات عَلَى الألفاظ العربية والتركية والهندية التي أخذتها الفارسية عَلَى نشوء لغته الحديث فقال أن اللغة الروسية واللغة الإنكليزية لم يسر منهما إلى الفارسية إلا ألفاظ قليلة جداً.

وربما وجد الناظر في لغة أهل طوريس ورشت بعض ألفاظ روسية في اللغة الدارجة ولكنها قليلة للغاية وهذا مما يدل عَلَى أن الروس قد أخذوا ألفاظاً كثيرة من لغتهم عن الأجانب مثل الفرنسويين والألمان والإنكليز والطليان فلم تستعر الفارسية من الروسية إلا لفظ سماور واستكان طاس ودروخكا عربة وكاليسكه كاليش (وهي عربة ذات أربعة دواليب) وتارنتاس وباراخود للسفينة البخارية وأسكنات معاملة الورق وهي من أصل فرنسوي أسنيا.

والألفاظ الإنكليزية عبارة عن عشر وهي فاغون وترمواي ونوت من بانكنوت وشيك وجيلاس (قدح للشرب) وجلاس وسار لا سهم الشركات الخ. أما الألفاظ الفرنسوية في الفارسية فكثيرة جداً وهي تنقسم عَلَى الوجه الآتي: الألفاظ العلمية وأسماء العقاقير وأسماء الأطعمة مثل سوب حساءٌ وجيكو فخذ وكوتلت ضلع وأسماء الألبسة مثل كلوش حذاء الرجل وبلوز مشلح وبالتو معطف وباردسو شعار وأسماء للتعبير عن المخترعات الحديثة: مثل تلغراف وتلفون وأتوموبيل وبالون وغاز للاستصباح وألفاظ للجندية مثل أسكادرون كتيبة وباتري (بطارية) عدة مدافع ومارش سير هالت وقوف ودفليه مضيق وموسيك موسيقى وإن وجود معلمين من الفرنسيس في الجيش الفارسي في أزمان مختلفة قد انتهي باستعمالهم الألفاظ الإفرنجية وأسماء الأثاث مثل بيانو ولانترن مصباح وأسماء مدرسية مثل كلاس صف وبروغرام خطة وديكته إملاء ونمرة واستعمالهم لفظتي برلمان وكونستيتوسيون اللتين نقلوهما بألفاظ شوالي مري ومشروطيت أو سياسية فيقولون عنها سياست وتعابير دولية مثل قنصل وتمبر طابع وبودجه ميزانية وهنور شرف التي تقابل لفظة هنر الموجودة في الأصل الفارسي وقد استخرجها مونتسكيو وقبلت بين الفارسيين كما قبلت لفظتا مرسي الشكر وباردون العفو.

واستنتج ذكاء الملك أنه لا فائدة من اختراع ألفاظ جديدة متى أريد التعبير عن أفكار حديثة فإن اللفظ الجديد عَلَى ما يرى هو غريب كاللفظة الأجنبية التي يراد اتقاؤها. ومن رأيه ألا يؤخذ من اللغات الأجنبية لفظ ما دام في أصل اللغة الفارسية ما يقوم مقامه. ولذا عبروا عن السكة الحديدة بلفظ راه آهينومتولي الأشغال بلفظ مه لمحتكذار ولفظ مرسل فوق العادة بلفظ مأمور فوق العادة وغرفة التجارة بلفظ أنجمن تجارتي ومهندس بلفظ فني مأمور.

ويغلب عَلَى الظن أن عدد الألفاظ الأجنبية سيقل بعد حين فإنا نرى الجدال قائماً منذ بضع سنين في الصحافة لإعادة اللغة الفارسية إلى نضرتها الأولى والقوم يريدون الرجوع بلغتهم إلى لغة الفردوسي بحذف الألفاظ العربية التي كثرت سرايتها إلى الفارسية وألفنا استعمالها عَلَى ما تراه من الأمثلة التي أوردناها. ويدعي القائلون بهذا الرأي أن حذف الألفاظ العربية لا يفهم منه مخالفة للدين فما من شيء في القرآن يقضي علينا بأن تستعمل في لغتنا ألفاظ عربية. وإن تناغي الفرس بوطنيتهم ما فطر عليه القائمون بهذا الرأي من الغيرة والاقتدار ومن جملتهم اللغوي العالم مؤلف الدولة ليدعوا إلى عقد الرجاءِ بنجاح هذا المشروع.

كان الأتراك قبل أن يدينوا بالإسلام يستعملون ألف باء من أصل سامي أما الألف باء اليونانية أو الرومانية القديمة والويغور فالظاهر أنها لم تكن تقتبس شيئاً من اللغات السامية. واقتبسوا عدداً قليلاً من الألفاظ الفارسية والصينية وعدداً غير قليل من الألفاظ المغولية التي كان الاشتراك في الأصول بينها وبين التركية يسهل احتذاء مثالها بالنظر لكثرة الصلات بين الشعبين. ومن هذه جملة ما أخذه الأتراك قبل الإسلام من جيرانهم حتى إذا انتحلوا الدين الإسلامي تغير كل ذلك. فكانت العربية هي لغة الدين والعلم مصدراً للأتراك يتناولون منها الألفاظ الدينية والعلمية التي تمس حاجتهم إليها وكانت اللغة الفارسية عَلَى أتم نشوؤها ولها آداب رائقة هي لغة الأتراك الأدبية في عامة الأقطار وما الشعر التركي إلا عَلَى مثال الشعر الفارسي وانتشر التهذيب الفارسي من آسيا الوسطى إلى البحر الرومي وكانت له المكانة العليا في كل مكان يتكلم به باللغة التركية التي كانت مفرداتها كثيرة في القديم بفضل طرق الاشتقاق الكثيرة الهينة ولكنها لم تلبث أن افتقرت بما دهمها من الألفاظ العربية الفارسية.

وإنك لترى في النصوص القديمة من لغة الويغور ألفاظاً مثل كوتادغو بيليك وهي من القرن الحادي عشر وهي تكثر في لغة الجغتاي نحو القرن السادس عشر وقد تركت لغة الويغور بالمرة واستقر أمر التركية بأنها لغة إسلامية. أما اللهجات الشرقية التي هي أكثر عراقة في تراكيبها القديمة فقد احتفظت بتراثها الوطني من المفردات أما في اللغة العثمانية ولاسيما في اللغة العثمانية الأدبية فإنك لا تكاد تجد لفظة تركية مقابل ثلاثة ألفاظ عربية أو فارسية الأصل ففي آذربيجان والقافقاس تجد تأثيرات اللغة الفارسية ظاهرة في لهجة القوم كل الظهور وفي آسيا الصغرى ترى اللغة العربية مؤثرة في لغة السكان ولاسيما في اللفظ.

وليست هذه الألفاظ المشتركة الإسلامية هي الوحيدة في بابها فإنك تجد في لغة سكان التركستان الصينية ألفاظاً سرت غليها من اللغات الصينية ولكن ما أُخذ من اللغات الأوربية كثير للغاية.

في أي عصر دخلت إلى التركية الألفاظ الأولى التي هي من أصل غربي؟ إنه من الصعب أن يحكم بذلك حكماً صريحاً عَلَى أن الأخذ عن الرومية نشاهده قد حدث منذ القرن الثالث عشر. وفي المعجم اللغوي الذي نشره المسيو هوتسما وكتاب نحو التركية لأبي حيان بعض ألفاظ من هذا القبيل مثل لفظة (أوغور) سعادة (أرغات) صانع وهذه الألفاظ عَلَى ندرتها في اللهجات الشرقية تكثر بسرعة عجيبة في اللغة التركية العثمانية بعد فتح الآستانة حتى أن لفظة (أفندي) الذي كتب المسيو بسيشاري تاريخها الغريب والتي تنقلت بها الحالات صورة ومعنى كانت مستعملة منذ القرن الخامس عشر.

وإذا كانت الإيطالية هي اللغة البحرية والتجارية في البحر المتوسط فقد اكتسبت في كل زمان كمية عظيمة من الألفاظ للغة العثمانية فإننا نجد فيها تعابير بحرية وتجارية وهي من لهجة البندقية خاصة.

وقد اقتبس اللسان العثماني عدة تعابير بحرية ورياضية من اللغة الإنكليزية كما اقتبس قديماً من اللغة المجرية واللغات السلافية في البلقان عدة ألفاظ عسكرية أما سائر اللغات المحكية في المملكة العثمانية فاللغة التركية العثمانية تكاد لم تأخذ عنها شيئاً وقد سرت إليها بعض الألفاظ الألمانية وبعض الألفاظ من اللغات الأخرى ولكن الألفاظ الإفرنسية كانت ولا تزال أكثر وجوداً في اللسان العثماني من جميع اللغات الأجنبية. بدأ دخولها عَلَى يد السلطان محمد مبيد الجيش الإنكشارية ويجب اعتبار هذا التأثير عَلَى الأقل نتيجة لازمة للإصلاحات التي جعلت المملكة العثمانية تشابه اليوم بعد اليوم سائر ممالك أوربا بحكومتها وعاداتها وقوانينها فقضت الحال للتعبير عن أفكار جديدة لإيجاد ألفاظ جديدة وكان معجم اللغة التركية الفارسية العربية يكفي في أحوال كثيرة لسد هذه الثلمة ولكن الأتراك رأوا من النسب قبول التعابير الأجنبية ولاسيما الإفرنسية منها عَلَى ما هي عليه. وإذا غيروها أحياناً فإنما يغيرونها لتكون موافقة للفظ التركي. وزاد هذا الاقتباس من الإفرنسية إنشاءُ صحافة تركية وطنية نسجوا فيها عَلَى مثال الصحافة الوربية وكثر شعف أدباء العثمانيين بتلاوة مصنفات الفرنسويين حتى حلت محل مصنفات الفرس نحو سنة 1850 فأصبحت المثال الذي يحتذيه كتاب الأتراك ولاسيما ترجمة القصص الفرنسوية التي هي في الأكثر من أسلوب الإنشاء الطبيعية.

ثم عاد القوم منذ خمسة عشر سنة يريدون وضع حاجز دون هجوم الدخيل عَلَى لغتهم وطرح ما دخلها منه وأرادوا أن يعبروا عما يريدون بالألفاظ التركية وإذا لم يكن فيها ما يقابل اللفظ الإفرنجي يعمدون إلى الفارسية أو العربية. وكاد هذا الإصلاح يأتي بالنتائج المنتظرة منه خصوصاً وأن له علاقة بالحركة لتوحيد اللغة العثمانية وهي الحركة التي أشير عليها وسنعود إلى الكلام عليها. وعلى أي حال فإنا نرى الآن في الصحافة التركية ألفاظاً مولدة مثل تحت البحر سفينة سي أي غواصة وآثار عتيقة أي العاديات أو الآثار العتيقة وبيطر فلك الحياد بين الملل دولي وغيرها. وقد نقلوا إلى التركية كما نقل كتاب العرب ألفاظاً إفرنجية وضعوا لها مسميات فترجموا دراعة بلفظ زرخلي ولكن الطراد أبقوه عَلَى أصله الفرنسوي فقالوا (كروازور) وقالوا عن النسافة (توربيدو) وهي من الإيطالية وبالإفرنسية (توربل) و (غانيوط) أي سفينة مدفعية وهي من الإنكليزية (كونبوت).

أما المصطلحات العلمية فتكاد تكون تقريباً بأجمعها تركية أو فارسية أو عربية ويعمد إلى الفرنسوية واللاتينية في النادر ولا تستعمل الإنكليزية ولا الألمانية.

أما سائر اللهجات الشرقية التي تأثرت من اللغات العثمانية باللغات الأوربية فإن اللغة الروسية تكاد تكون وحدها منفردة بهذا الامتياز ولا يشاهد ذلك إلا في اللغة التتارية خاصة والظاهر أن ذلك بدأ في النصف الأول من القرن التاسع عشر فإنك تجد في القصص الهزلية التي ألفها أليرزا فتح العلي آخوان زاده التي كتبت بين سنتي 1850 و1860 بعض الألفاظ لم تكن روسية فتكون قد سرت إلى التتارية من اللغة الروسية مثل (زاكون) قانون (بيلت) من (بيله) الفرنسوية أي تذكرة و (باشور) من (باسور) أي جواز و (مدال) من ميدال أي نوط ولا تكاد الآن تفتح جريدة مثل ترجمان التي تصدر في بعجه سراي وترقي التي تصدر في باكو وجريدة قازان مخبري إلا وتدهش مما تراه من كثرة الألفاظ الروسية أو المصبوغة بالصبغة الروسية لأن كثيراً منها من أصل فرنسوي أو ألماني أو إيطالي.

إذا عرفت من هذا فما هو مستقبل اللغة التركية؟ إنا نشهد الآن لجنة المعارف العمومية في مجلس النواب الروسي تعنى بالكتب المؤلفة باللغة المحلية للمدارس وقد رفضت الاستعاضة عن اللفظ التتري باللفظ التركي وذلك ليحولوا دون الجامعة التركيةز ولكن من أين نشأت هذه المخاوف؟

نشأت من كون جميع العناصر التركية مهما كانت لهجتهم من الآستانة حتى سمرقند يريدون أن يتعارفوا ويتفاهموا وإنا لنجد الصحف العثمانية تقرأ في روسيا كثيراً والصحافة التترية تتخذها نموذجاً تحتذيه حتى ولو كان ما يقتبسونه منها من المولد مأخوذاً من أصل أوربي ولا يجب أن يفوتنا أن كثيراً من الألفاظ الفرنسوية قد سرت إلى اللغة التترية بواسطة اللغة الروسية ولكن ما جاء منها من طريق اللغة العثمانية أوفر عدداً.

ولقد أصبح من الظرف في البلاد العثمانية منذ بضع سنين أن تحتقر اللهجات الشرقية وينظر إليها كما ينظر إلى ما يسمونه قبا ترك أي التركي الغليظ وشغف القوم بالرجوع إلى لغة النيفا وسلطان بابر القديمة الغنية التي افتقرت وتبدلت أوضاعها بما دهمها من الألفاظ العربية والفارسية أولاً والألفاظ الإفرنجية ثانياً فالقوم فيها يبحثون في حذف جميع هذه الألفاظ ليستعيضوا عنها بما يقابلها من الألفاظ التركية التي نسيت منذ عهد بعيد وهي أكثر التئاماً مع روح اللغة. وأصبح لهذه الحركة شأن عظيم بما توفر عليه القائمون بطرح الألفاظ الدخيلة عَلَى التركية من الأبحاث اللغوية المهم أكثرها كأبحاث العلماء أمثال القائم مقام نجيب عاصم بك والمقالات الكثيرة التي نشرت في جرائد وتأسيس الجمعيات لهذا الغرض مثل جمعية (ترك درنكي) أي المنتدى التركي وغرضه درس أصول اللغة التركية وإحياء ما عاث فيه البلى من الألفاظ ويقول المسيو هارتمان أحد علماء المشرقيات أنه يرجى أن تكون لهذه الحركة نتائج حسنة.

وهكذا يرجع العثمانيون الأتراك إلى التركية القديمة والتتر الروسيون يحاولون الجري عَلَى مثال اللغة التركية الشائعة في الآستانة ويطمعون في كل مكان ولاسيما في روسيا أن يوحدوا اللغة. وهذا العمل يلاقي صعوبات مهمة ولاسيما فيما تعلق منه باللغة العامية. فاللغة المحكية في القريم هي اللغة العثمانية إلا قليلاً ولا فرق بين هذه اللغة ولغة القافقاس إلا ببعض التعابير المتعلقة باللهجة وبعض الألفاظ الروسية التي يريد القوم طرحها وبعض الصيغ النحوية عَلَى أن هذا الفرق لا يحول دون العثماني وفيهم لهجة أوزري من أيسر وجه ومن المتعذر إرجاع لهجات بلاد قازان وآسيا الوسطى إلى هذا الأسلوب. ومهما تم في هذا الأمر فالأنظار متجهة لما يحدث من هذا القبيل في البلاد التركية اتجاهها لما يحدث في سائر العالم الإسلامي مما فيه تأييد روح الوطنية باللغة الوطنية.