مجلة المقتبس/العدد 48/مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن
مجلة المقتبس/العدد 48/مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن
ليعلم أن من المسائل الجديرة بالعناية وبذل الجهد للوقوف على ما قيل فيها وكتب عنها (مسألة الجن) فقد تنوعت في شأنها المشارب وتعددت في مباحثها المذاهب وكان للأعراب معها في الجاهلية مخيل ولها في كل عصر نغمات جديدة وعجائب ولا غرو فهي من أقدم المسائل وأرسخها في الأذهان إذ دار اسمها على كل لسان وورد ذكرها في جماع النحل والأديان.
إن مسألة كمسألة الجن ليست مما تدرك بلفظة أو يشار إليها بلحظة حتى لا يرفع لها الحشوي رأساً ولا يقيم لها الجامد وزناً فلو صمت شواردها وقيدت أوابدها وانتظمت فرائدها لعثر على الجم من الطائف الفائقة والنوادر الرائعة مما يملك السمع والبصر إعجابه ويرتفع عن القلب للإصغاء حجابه.
كل مسألة لا يتناولها الفهم في بداية النظر ولا يصل إليها إلا بالاستعانة من درس أمرها وسبر فلا بد من بحث عنها وتنقيب واستقراء وتنقير لا سيما أن ثلث ذات شعوب وأطراف وفروع وأوصاف لا جرم ينبغي استقراؤها وتعرفها واستجلاؤها اكتشافاً لما خبأته كنوز الحقيقة ووقوفاً على كل جليلة دررها ودقيقة.
أكثر من ألف في العلم الإلهي أو ما وراء المادة تكلم في (الجن) فموجز ومسهب ومقارب ومغرب والواقف على ما كتبه فلاسفة الإسلام يراه قريباً مما نحاه علماء أهل الكتاب في شأنهم اللهم إلا في خيالات شط بها البحث فبعدت عن القصد شأن كل شيء جاوز حده.
من استقرأ ما كتب وبذل جهده في التنقيب يمر به من علوم الأوائل ما يغني عن زهر الرياض حسنه وعن فتيق المسك نشره فمن تأمله ازداد حرصاً على تأمله وتصفحه مستعيداً ما يستحليه من فوائده.
الطريقة المثلى والخطة الوسطى هي أخذ المهم وإيثار الأجود من كل شيء وهذا ما توخيناه في هذه المسألة مما طالعاناه وإلا فسعة علم السلف مما يدهش الخلف فليس لنا إلا المختار من آرائهم والمنتقى من أنبائهم ولله ابن المقفع إذ قول فمنتهى عالمنا علم في هذا الزمان ـ زمانه رحمه الله ـ أن يأخذ من علمهم وغاية إحسان محسننا أن يقتدي بسيرتهم وأحسن ما يصيب من الحديث محدثنا أن ينظر في كتبهم.
إن استقصاءَ ما للقدماء في (مسألة الجن) واستقراءه كله يعوز إلى عدة مجلدات أوقات والحاجيات كثيرة والمطالب وفيرة لذا آثرنا جمع شذرات تكشف عن وجهها نقابها وتجلي سدف عويصاتها لطلابها.
ينحصر ما نأْثره في هذه المسألة في مقدمة ومقصدين وخاتمة.
أما (المقدمة) فنحكي فيها ما قاله فلاسفة اللغة في شرح المراد من الجن واشتقاقه وعمومه وخصوصه وحقيقته ومجازه.
وأما (المقصد الأول) ففي مذاهب الأعراب ومزاعمهم في الجن وقد حوى أحد وعشرين مبحثاً:
(أ) من ادعى من الأعراب والشعراء أنهم يسمعون عزيف الجان ويرون الغيلان وما يشبهونه بالجن والشياطين وبأعضائهم وأعمالهم.
(ب) إضافتهم مباني تدمر وأمثالها إلى الجن.
(ج) تفرقتهم بين مواضع الجن.
(د) تنزيلهم الجن في مراتب.
(هـ) زعمهم أن الغول من أنثى الجن وكذلك السعلاة.
(و) زعمهم أنهم يظهرون لهم ويكلمونهم ويناكحونهم.
(ز) مزاعمهم في الهاتف والناقل والرئي.
(ح) ما روي من هتوفهم بالبعثة المحمدية.
(ط) مزاعمهم في أوصافهم ومن قتلوه.
(ي) من استهووه ومنهم خرافة.
(يا) توصيفهم رجل الغول وعين الشيطان.
(يب) نزاعمهم في أرض وبار وبلاد الحوش.
(يج) مزاعمهم في الصرع.
(يد) مزاعمهم في الطاعون.
(يه) ما يزعمونه في تمثلهم وتصورهم.
(يو) رأيهم في قرناء الشعراء الفحول.
(يز) خيالهم في جن الشام والهند.
(يح) توهمهم ملامح الجن في الأنس.
(يط) قولهم في جنون الجن وصرع الشيطان.
(ك) ما يحكونه من نيران السعالى والجن.
(كا) فلسفة ما تزعمه الأعراب من عزيف الجان وتغول الغيلان.
(وأما المقصد الثاني) ففي آراء فلاسفة الإسلام في الجن (أ) ابن سينا (ب) أبو طالب المكي (ج) الغزالي (د) ابن حزم (هـ) الفخر الرازي (و) القاشاني (ز) الماوردي (ح) القاضي أبو يعلى ابن الفراءِ (ط) ابن تيمية (ي) ابن القيم (يا) الأٍتاذ الإمام الشيخ محمد عبده. إنما تأثرت مذاهب الأعراب بما أُثر عن الأئمة في هذه المسألة انتقالاً إلى الجد في مباحثها إذ المقصد الأول أشبه بالجمام والمشراح لما شاب جده من مخاريق ومخايل وختمت البحث بمتفرقات من شوارد هذه المسألة تميماً لفوائده وتأييداً لمقاصده.
ليس لنا من مزية فيما أثرناه إلا انتقاء المهم مما طالعناه وترتيبه على هذا الأسلوب نسأله تعالى أن يمن علينا بتنوير القلوب ويدخلنا في عباده الذين يؤمنون بالغيوب.
المقدمة
فيما قاله فلاسفة اللغة في الجن
قال الراغب الأصبهاني في مفرداته في مادة جن: أصل الجن ستر الشيء عن الحاسة يقال جنه الليل وأجنه والجنان القلب لكونه مستوراً عن الحاسة والجنة كل بستان يستر بأشجاره الأرض (ثم قال): والجن يقال على الروحانيين المستترة عن الحواس كلها بازاء الأنس وسيأتي تتمة كلامه.
وقال الزمخشري في أساس البلاغة: جنه ستره فاجتن واستجن بجنة استتر بها واجتن الولد في البطن وأجنته الحامل وواراه جنان الليل أي ظلمته وفلان ضعيف الجنان وهو القلب وجنت الأرض بالنبات ولا جن بكذا أي لا خفاءَ به قال سويد:
(ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر).
ونقل الإمام ابن جرير في سورة البقرة في تفسير آية وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أن استثناءه من الملائكة يدل على أنه منهم وعن ابن اسحق أن العرب يقولون: ما الجن إلا كل من اجتن فلم يروا أن آية إلا إبليس كان من الجن أي كان من الملائكة وذلك أن الملائكة اجتنوا فلم يروا وإن آية وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً إشارة لقول قريش أن الملائكة بنات الله (قال) وقد قال الأعشبي ـ أعشى بني قيس بن ثعلبة البكري وهو يذكر سليمان بن داود وما أعطاه الله:
ولو كان شيءٌ خالداً ومعمرا ... لكان سليمان البري من الدهر
براه إلهي فاصطفاه عباده ... وملكه ما بين ثريا إلى مصر
وسخر من جن الملائك تسعة ... قياماً لديه يعملون بلا أجر
(قال) فأبت العرب في لغتها إلا أن الجن كل ما اجتن يقول: ما سمى الله الجن إلا أنهم اجتنوا فلم يروا وما سمى بني آدم أنساً إلا أنهم ظهروا فلم يجتناوا فما ظهر فهو أنس وما اجتن فلم ير فهو جن.
ثم قال ابن جرير: وأما خبر الله عنه أنه من الجن فغير مدفوع أن يسمى ما اجتن من الأشياء عن الأبصار كلها جناً كما ذكرنا قبل في شعر الأ شى فيكون إبليس والملائكة منهم لاجتنابهم عن أبصار بني آدم:
وقال الراغب الصبهاني في مفرداته: الجن يقال على وجهين (إحداهما) للروحانيين المستترة عن الحواس كلها بازاءِ الأنس فعلى هذا تدخل فيه الملائكة والشياطين فكل ملائكة جن وليس كل جن ملائكة وعلى هذا قال أبو صالح: الملائكة كلها جن وقيل بل الجن بعض الروحانيين وذلك أن الروحانيين ثلاثة (أخيار) وهم الملائكة (وأشرار) وهم الشياطين (وأواسط) فيهم أخيار وأشرار وهم الجن ويدل على ذلك قوله تعالى قل أوحي إليَّ إلى قوله عز وجل وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون.
من ادعى من الأعراب والشعراء أنهم يرون الغيلان ويسمعون عزيف
الجان وما يشبهونه بالجن والشياطين وبأعضائهم وأعمالهم
أنشد أعرابي:
كأنه لما تدانى مقربه ... وانقطعت أوذامه وكربه
وجاءت الخيل جميعاً تذنبه ... شيطان جن في هواء يرقبه
أذنب فانقض عليه كوكبه
وأنشد: إن العقيلي لا تلقى له شبها ... ولو صبرت لتلقاه على العيس
بينا تراه عليه الخز متكئاً ... إذ مر يهدج في حش الكرابيش
وقد تكنفه عرامه زمناً ... أشباه جن عكوف حول إبليس
إذ المفاليس يوماً حاربوا ملكاً ... ترى العقيلي منهم في كراديس
وقال أبو الخطفي:
يرفعن بالليل إذا ما أسدفا ... أعناق جنان وهاماً رجفا
وعنقا بعد الرسيم خيطفا
وأنشد ابن الأعرابي:
غناءُ كليبي يرى الجن يبتغي ... صداه إذا ما آت للجن أيب
وقال الأعشى:
فإني وما كلفتموني اتباعه ... ليعلم ربي من أعق وأحويا
كالثور والجني يضرب ظهره ... وما ذنبه إن عافت الماء مشربا
وقال الرقياني:
بين اللهى منه إذا ما مدا ... مثل عزيف الجن هدت هدا
وقال ذو الرمة:
قد أعسف النازح المجهول معسفه ... في ظل أخضر يدعو هامه اليوم
للجن بالليل في أرجائها زجل ... كما تناوح بين الريح عيشوم
دوية ودجى ليل كأنهما ... يم تراطن في حافاته الروم
وقال:
وكم عرست بعد السرى من معرسن ... بها من صداء الجن أصوات سامر
وقال:
كم جبت دونك من بهماء مظلمة ... تيه إذا ما مغنى جنه سمرا
وقال:
ورمل لعزف الجن في عقداءه ... هرير كتضراب المغنين بالطبل
وقال: وتيه خبطنا غولها وارتمى بنا ... أبو البعد من أرجائه المتطاوح
فلاة لصوت الجن في منكراتها ... هرير وللأبوام فيها نوائح
وطول اغتمامي في الدجى كلما رعت ... من الليل أصداء المثاني الصوائح
ويقولون لمن به لقوة أو شتر إذا شبَّ يالطيم الشيطان ويقولون للرجل المفرط الطول يا ظل النعامة وللتكبر الضخم يا ظل الشيطان.
وكان عمر بن عبد العزيز أول من نهى الناس عن حمل الصبيان على ظهور الخيل يوم الحلبة وقال: تحملون الصبيان على الجنان وأنشد في تشبيه ال، س بالجن لأبي الجويرية العبدي:
أنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا ... مُرَزَّؤُن بهاليل إذا حشدوا
وأنشدوا:
وقلت والله لترحلنا ... قلائصاً تحسبهن جنتا
وقال ابن الزوائد:
بحور خفض لمن ألم بهم ... آخيته عمري إذا خطروا
وأنشدوا:
إني امرؤ تابعتي شيطانيه ... آخيته عمري وقد آخانيه
يشرب في قعبي وقد سقانيه ... فالحمد لله الذي أعطانيه
وقال عبيد بن أوس الطائي:
هل جاء أوساً ليلتي ونعيمها ... ومقام أوس في الخياءِ المشرج
ما زلت أطوي الجن أسمع حسهم ... حتى دفعت إلي راق المروج
وأنشد آخر:
ذهبتم وعدتم بالأمير وقلتم ... تركنا أحاديثاً ولحماً موضَّعا
فما زادني إلا سناءً ورفعةً ... ولا زادكم في القوم إلا تخشعا
فما نفرت جني ولا فلَّ مبردي ... ولا أصبحت طيري من الخوف وقعا
وأشعارهم في هذا المعنى تفوت الحصر.
إضافتهم مباني تدمر وأمثالها إلى الجن قال النابغة الذبياني:
ألا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن أني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصُّفاح والعمد
قال الجاحظ: وأهل تدمر يزعمون أن ذلك البناء قبل زمن سليمان عليه السلام بأكثر مما بيننا اليوم وبين سليمان بن داود عليهما السلام قالوا ولكنكم إذا رأيتم بنياناً عجيباً وجهلتم موضع الحيلة فيه أضفتموه إلى الجن ولم تعانون بالفكر. وقال العرجي:
سدت مسامعها لقرع مراحل ... من نسج جن مثله لا ينسج
وقال الأصمعي السيوف المأثورة هي التي يقال أنها من عمل الجن لسليمان بن داود عليهما السلام فأما القوارير والحمامات فذلك ما لا شك فيه. وقال البعيث:
بني زياد لذكر الله مصنعة ... من الحجارة لم تعمل من الطين
كأنها غير أن الأنس ترفعها ... مما بنت لسليمان الشياطين
وقال الأعشى في بناء الشياطين لسليمان:
أرى عادياً لم يمنع الموت ربه ... وورد بتيماء اليهودي أبلق
بناه سليمان بن داود حقبة ... له جندل صم وطي موثق
تفرقهم بين مواضع الجن
قال الجاحظ: كما يقولون تنقذ برقة وضب سحا وأرنب الخلة وذئب خمر فيفرقون بينها وبين ما ينسب لذلك أما في السمن وأما في الخبث وأما في القوة كذلك أيضاً يفرقون بين مواضع الجن فإذا نسبوا الشكل منها إلى موضع معروف فقد خصوه من الخبث والقوة والعرامة بما ليس لجملتهم وجمهورهم قال لبيد:
غلب تشذر بالدحول كأنها ... جن البدي رواسيا أقدامها
وقال النابغة:
سهكين من صدأ الحديد كأنهم ... تحت النسور جنة البقار
وقال زهير:
عليهن فتيان كجنة عبقر ... جديرون يوماً أن ينيفوا فيسثعلوا
وقال حاتم: عليهن فتيان كجنة عبقر ... يهزون بالأيدي الوشيج المقوما
تنزيلهم الجن في مراتب
قال الجاحظ: ثم ينزلون في مراتب فإذا ذكروا الجني سالماً قالوا جنى. فإذا أرادوا أنه ممن سكن مع الناس قالوا عامر والجميع عمار. وإن كان ممن يعرض للصبيان فهم أرواح فإن خبث أحدهم وتعرم فهو شيطان. فإن زاد على ذلك في القوة فهو عفريت والجمع عفاريت. وهم في الجملة جن وخوافي قال الشاعر:
ولا يحس سوى الحافي بها أثر
فإذا ظهر الجني ونطق واتقى وصار خيراً كله فهو ملك في قول من تأول قوله كان من الجن ففسق عن أمر ربه على أن الجن في هذا الموضع الملائكة وقال آخرون: كان منهم على الإضافة إلى الدار والديانة لا على أنه كان من جنسهم وإنما ذلك على قولهم: سليمان بن يزيد العدوي وسليمان بن طوحان التيمي وأبو علي العبدري وعمرو بن قائد الأسواري: أضافوهم إلى المحال وتركوا أنسابهم في الحقيقة:
وقال آخرون: كل مستجن فهو جني وجان وجنين وكذلك الولد في البطن قبل له جنين لكون في البطن واستجنان وقيل للميت في القبر جنين وقال عمرو بن كلثوم:
ولا شمطاء لم تدع المنايا ... لها من تسعة إلا جنينا
يخبر أنها قد دفنتهم كلهم قالوا وكذلك الملائكة من الحفظة والحملة والكروبيين فلا بد من طبقات وربما فرق بينهم بالأعمال واشتق لهم الأسماء من السبب كما قالوا لواحد من الأنبياء خليل الله وقالوا لآخر كليم الله وقالوا لآخر روح الله. والعرب تنزل الشجعان في المراتب والاسم العام شجاع ثم بهمة أليس هذا قول أبي عبيدة.
فأما قولهم: شيطان الحماطة فإنهم يعنون الحية وأنشد الأصمعي:
تلاعب مثنى حضرمي كأنه ... تعمج شيطان بذوي خروع قفر
وقد يسمون الكبر والطغيان والخزوانية والغضب الشديد شيطاناً على التشبيه. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله لا نزعن نعرته ولا ضربنه حتى أنزع شيطانه من نحرته وقال حسان بن ثابت في معنى قوله والله لأضربنه حتى أنزع من رأسه شيطانه فقال:
وداوية سبسب سملق ... من اليد تعرف جنانها قطعت بعيرانة كالفنيق ... يمرح في الآل شيطانها
وأبين منه قول منظور بن رواحة:
أتاني وأهلي بالرماح وغمرة ... مسب عريف اللؤم حتى بني بدر
فلما أتاني ما تقول تقلصت ... شياطين رأسي وانتشين من الخمر
والأعراب تجعل الخوافي والمستجنات من قبل أن ترتب المراتب جنين تقول حن وجن بالجيم والحاءِ وأنشدوا:
أبيت أهوى في شياطين ترن ... مختلف بخارها حن وجن
ويجعلون الحن فوق الجن وقال أعشى سليم:
فما أنا من جن إذا كنت خافياً ... ولست من النسناس في عنصر البشر
ذهب إلى قول البشر ناس ونسناس والخوافي حن وجن ويقول أنا من أكرم الحيين حيث ما كانت.
وضعفة النساك وأغبياء العباد أن لهم خاصة شيطاناً قد وكل بهم يقال له المذهب يسرج لهم النيران ويضيء لهم الظلمة ليفتنهم ويريهم العجب إذا ظنوا أن ذلك من قبل الله تعالى.
(قال) وأما الخابل والخبل فإنما ذلك اسم للجن الذين يخبلون ويتعرضون ممن ليس عنده إلا العزيف والنوح وفصل أيضاً لبيد بينهم فقال:
أعاذل لو كان البداد لقوتلوا ... ولكن أتانا كل جن وخابل
زعمهم أن الغول من أنثى الجن وكذلك السعلاة
قال الجاحظ: قالوا إذا تعرضت الجنية وتلونت وعبثت فهي شيطانة ثم غول. وربما جعلوا الغول اسماً لكل شيء فمن الجن يعرض للسفار ويتلون في ضروب الصور والثياب ذكراً كان أو أنثى إلا أن الأكثر على أنه أنثى وقد قال أبو المضراب عبيد بن أيوب العنبري:
وحالفت الوحوش وحالفتني ... بقرب عهودهن وبالبعاد
وأمسى الذئب يرصدني محشا ... لخفة ضربتي ولضعف آدي
وغولاً قفرة ذكر وأنثى ... كأن عليهما قطع البجاد
فجعل في الغيلان الذكر والأنثى وقد قال الشاعر في تلونها:
وما تزال على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول فالغول ما كان كذلك. (والسعلاة) اسم لواحدة من نساء الجن تتغول لتفتن السفار قالوا وإنما هذا منها على العبث أو لعلها إن تفزع إنساناً فيتغير عقله من أجله عند ذلك لأنهم لم يسلطوا على الصحيح العقل ولو كان ذلك لبدؤا بعلي بن أبي طالب وحمزة ابن عبد المطلب وأبي بكر وعمر في زمانهما وبغيلان والحسن في دهرهما ويواصل وعمرو في أيامهما وقد فرق بين الغول والسعلاة عبيد بن أيوب حيث يقول:
وساخرة مني ولو أن عينها ... رأت ما أُلاقيه من الهول جنت
أزل وسعلاة وغول بقفرة ... إذا الليل وأرى الجن فيه أرنت
وهم إذا رأوا الفتاة حديدة الطرف والذهن سريعة الحركة ممشوقة قالوا سعلاة وقال الأعشى:
ورجال قتلى بجنبي أريك ... ونساءٌ كأنهن السعالى
ويقولون تزوج عمرو بن يربوع السعلاة وقال الراجز:
يا قاتل الله بني السعلاة
وفي تلون السعلاة يقول عباس بن مرداس السلمي:
أصابت القوم غول جل قومهم ... وسط البيوت ولون الغول ألوان
وقال عبيد بن أيوب وكان جوالاً في مجهول الأرض لما اشتد خوفه وطال تردده وأبعد في الهرب:
لقد خفت حتى لو تمر حمامة ... لقلت عدو أو طليعة معشر
فإن قيل أمن قلت هذي خديعة ... وإن قيل خوف قلت حقا فشمر
وخفت خليلي ذا الصفا ورأبني ... وقيل فلان أو فلانة فاحذر
فلله در الغول أي رفيقة ... لصاحب قفر خائف متنفر
أرنْت بلحن بعد لحن وأوقدت ... حوالي نيراناً تلوح وتزهر
وأصبحت كالوحشي يتبع ما خلا ... ويطلب مأْنوس البلاد المبعثر
ومما ذكر الغيلان قوله:
تقول وقد ألمت بالأنس لمة ... مخضبة الأطراف خرس الخلاخل
أهذا خليل الغول والذئب والذي ... بهيم بربات الححال الكواهل رأت خلق الأدراس أشعث شاحباً ... على الجدب بساماً كريم الشمائل
تعوّد من آبائه فتكاتهم ... وإطعامهم في كل غبراء شامل
ومما قال في هذا المعنى:
علام ترى ليلى تعذب بالمنى ... أخا قفرات كان بالذئب يأنس
وصار خليل الغول بعد عداوة ... صفياً وربته القفار البسابس
وقال في هذا المعنى:
فلولا رجال يا منيع رأيتهم ... لهم خلق عند الجوار حميد
أنالكم مني نكال وغارةٌ ... لها ذنب لم تدركوه بعيد
لكل بنو الإحسان حتى أغرتم ... على من يثير الجن وهي هجود
وتزعمن الأعراب أن الغول إذا ضربت ضربة ماتت إلا أن يعيد عليه الضارب قبل أن تقضي ضربة أخرى فإنه إن فعل ذلك لم تمت وقد قال شاعرهم:
فثنيت والمقدار يحرس أهله ... فليت يميني قبل ذلك شلت
وأنشدوا لأبي البلاد الطهوي:
لهان على جهينة ما ألاقي ... من الروعات يوم رحا بطان
لفيت الغول تسري في ظلام ... بسهم كالعيابة صحصحان
فقلت لها كلانا نضو أرض ... أخو سفر فصدي عن مكاني
فصدت وانتحيت لها بعضب ... حسام غير مؤتشب يماني
فقد سراتها والبرد منها ... فخرت لليدين وللجران
فقالت زد فقلت رويد إني ... على أمثالها ثبت الجنان
شددت عقالها وحططت عنها ... لا نظر غدوة ماذا دهاني
إذا عينان في وجه قبيح ... كوجه الهر مشقوق اللسان
ورجلاً مخدج ولسان كلب ... وجلد من قراب أو شنان
قال الجاحظ: وأبو البلاد الطهوي هذا كان من شياطين الأعراب وهو كما ترى يكذب وهو يعلم ويطيل الكذب ويجيزه وقد قال كما ترى:
فقالت زد فقلت إني ... على أمثالها ثبت الجنان لأنهم هكذا يقولون يزعمون أن الغول تستزيد بعد الضربة الأولى لأنها تموت من ضربة وتعيش من ألف ضربة.
زعمهم أنهم يظهرون لهم ويكلمونهم ويناكحونهم
قال الجاحظ: ومن قول الأعراب أنهم يظهرون لهم ويكلمونهم ويناكحونهم ولذلك قال شمر بن الحارث الضبي:
ونار قد حضأت بعيد وهن ... بدار لا أريد بها مقاما
سوى تجليل راحة وعين ... أكالئها مخافة أن تناما
أتوا نار فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
فقلت إلى الطعام فقال منهم زعيم نحسد الأنس الطعاما
وذكر أبو زيد عنهم أن رجلاً منهم تزوج السعلاة وأنها كانت عنده زماناً وولدت منه حتى رأت ذات ليلة برقاً على بلاد السعالى فطارت إليهن فقال:
رأى برقاً فأوضع فوق بكر ... فلأياً ما أسأل وما أعاما
فمن هذا النتاج المشترك وهذا الخلق المركب عندهم بنو السعلاة من بني عمرو ابن يربوع وبلقيس ملكة سباء.
وتأولوا قول الشاعر:
لاهم إن جرهما عبادكا ... الناس طرف وهم تلادكا
فزعموا أن أباجرهم من الملائكة الذين كانوا إذا عصوا في السماء أُنزلوا إلى الأرض كما قيل في هاروت وماروت فجعلوا سهيلاً عشاراً مسنج نجماً وجعلوا الزهرة امرأة بغياً مسخت نجماً وكان اسمها أناهيد. وتقول الهند في الكوكب الذي يسمى عطارد شبيهاً بهذا.
ويقول الناس فلان مخدوم يذهبون إلى أنه إذا عزم على الشياطين والأرواح والعمار أجابوه وأطاعوه. فمنهم عبد الله بن هلال الحميري. الذي كان يقال له صديق إبليس. ومنهم كدياس الهندي وصالح الموسوي. وقد كان عبيد يقول أن العامري حريص على إجابة العزيمة ولكن البدن إذا لم يصلح أن يكون هيكلاً لم يستطع دخوله والحيلة في ذلك أن يتبخر باللبان الذكر ويراعي سير المشتري ويغتسل بالماء القراح ويدع الجماع وأكل الزهومات ويتوحش في الفيافي ويكثر دخول الخرابات حتى يرق ويلطف ويصير فيه مشابهة من الجن فإن عزم عند ذلك فلم يجب فلا يعودن لمثلها فإنه ممن يكون بدنه هيكلاً لها ومتى عاد خبطه فربما جن وربما مات قال فلو كنت ممن يصلح أن يكون لهم هيكلاً لكنت فوق عبد الله بن هلال.
قالت الأعراب وربما نزلنا بجمع كثير ورأينا خياماً وقباباً وناساً ثم فقدناهم من ساعتنا والعوام تروي أن ابن مسعود رضي الله عنه رأى رجلاً من الزط فقال: هؤلاء أشبه من رأيت من الجن ليلة الجن. وقد روي عنه خلاف ذلك.
وقال أبو النجم * بحيث تستن مع الجن الغول * فأخرج الجن من الغول الذي باتت به الجن. وهذا من عادتهم أن يخرجوا الشيء من الجملة بعد أن دخل ذلك الشيء في الجملة فيظهر لأمر خاص.
وفي بعض الرواية أنهم كانوا يسمعون في الجاهلية من أجواف الأوثان همهمة وأن خالد بن الوليد حين هدم العزى رمثه بالشرر حتى احترق عامة فخذه حتى عوذه النبي ﷺ قال الإمام الجاحظ رحمه الله تعالى وهذه فتنة لم يكن الله تعالى ليمتحن بها الأعراب من العوام قال وما أشك أنه كان للسدنة حيل وألطاف لمكان التكسب. ولو سمعت أو رأيت بعض ما قد أعدّ الهند من هذه المخاريق في بيوت عباداتهم لعلمت أن الله تعالى قد من على جهلة الناس بالمتكلمين الذين قد نشؤا فيهم: يعني علماء الكلام وفلاسفة الدين عليهم رضوان الله.
يتبع