مجلة المقتبس/العدد 48/سعة التأليف
مجلة المقتبس/العدد 48/سعة التأليف
في الإسلام
من جملة مخطوطات دار الكتب الظاهرية بدمشق كتابان عظيمان تعددت مجلداتهما فدلا على اتساع نطاق التأليف في الإسلام أيام كان علماؤُه منصرفين إلى العلم والعمل يصرفون أثمن أوقاتهم في خدمة الأمة وهما كتاب الكواكب الدراري في تبويب مسند الإمام أحمد على أبواب البخاري لجامعه الإمام أبي الحسن علي بن عروة الحنبلي من أهل القرن التاسع وكتاب تاريخ دمشق الكبير لواضعه الحافظ أبي القاسم ابن عساكر من أهل القرن السادس.
هذان السفران الجليلان آيتان ناطقتان على طول نفس أجدادنا وشدة وثاقنا وجهالتنا فقد وجد من الأول مجلدات كثيرة ضخمة لا تقل عن ثمانين مجلداً متفرقة ومما وجد منها المجلد الثاني والعشرون بعد المئة بحيث لايظن أن الكتاب بلغ أقل من مئة وخمسين مجلداً في التفسير والحديث والأصول والفقه الحنبلي وتراجم الحنابلة ومباحث في الفلسفة والكلام والتاريخ والأدب فهو دائرة معارف إسلامية حقيقية ضمت بين جوانحها أشهر كتابات علماء الحنابلة وكبار مجتهدي الأمة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن رجب وغيرهم من الأعلام.
وأما تاريخ دمشق فمنه الآن نسختان نسخة في عشرين مجلداً ونسخة وقعت في عشرة مجلدات ضخمة وهي تامة وكان كتب في ثمانين مجلداً. ولقد جرى ذكره بين حافظ مصر في عهده زكي الدين المنذري وطال الحديث في أمره واستعظامه فقال حافظ مصر: ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه وشرع في الجمع من ذلك الوقت وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبه. قال ابن خلكان: ولقد قال الحق ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول ومتى يتسع للإنسان الوقت حتى يضيع مثله وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره وما صح له هذا إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها وله غيره تواليف حسنة.
وبعد فإن الخالق تعالى وضع في أفراد من كل أمة خاصيات وملكات قلما يشاركهم فيها كثيرون وآتاهم هبات يستخدمونها في نفع البشر ونفوساً لا تعرف الملل لدرك مقاصدهم الشريفة. وكلما ارتقت الحضارة في شعب ينبع فيه رجال يصرفون على الإفادة والاستفادة نقد أعمارهم ويتمحصون لإحسان الخدمة حتى لا يكادون يرون السعادة والملاذ والخير وكل ما تطمح إليه نفوس بني الإنسان من المعالي رإلا فيما هم بسبيله.
ومن أنعم النظر في تراجم نوابغ العلماء ودرس حياتهم حق دراستها لا يلبث أن يزول عجبه إذا شاهد كيف كانوا يستغرقون في أعمالهم ويتفانون فيما أخذوا به نفوسهم فيزهدون في المال والبنين ويفطمون أنفسهم عن حب المناصب والمراتب والزخارف والسفاسف.
كنا ذات يوم نذكر لأحد أصدقائنا من الأطباء الذين صرفوا شطراً من حياتهم في الغرب اتساع التأليف في هذه الأمة قديماً فقال أما ما يبلغكم عن أكثر المؤلفين في الغرب اليوم من كثرة المصنفات فليس لأكثرهم منه إلا النظر القليل يكتبه لهم أذكياء المتخرجين بهم بعد أن يكونوا ثقفوا عنهم بعض ماله علاقة في الموضوع الذي ألفوا فيه حتى إذا أتوا على آخره يدفعونه إلى أساتذتهم فيجيلون فيه أنظارهم ويمثلونه للطبع مفتتحاً بأسمائهم والمصنف منهم من يذكر أن تلميذه فلان أعانه في التأليف وبعضهم يضنون بمثل هذه الإشارة.
ولما أوردنا أسماء كثير ممن اشتهروا في الإسلام وألفوا التواليف الممتعة الضخمة وعنوا وحدهم في الأكثر بجمعها وتنسيقها وتصنيفها وتبييضها وتسويدها وإن ما أثر عنهم كان مردوداً لو لم يرد على لسان أهل العدل والصدق من المؤرخين وعلماء التراجم وبعضهم قد يكذبون من أضدادهم وحاسيدهم - عند ذلك اقتنع صاحبنا بصحة رأينا وقال أن حال الإفرنج اليوم يخالف حال سلفنا فإن الإفرنجي مهما بلغ من حبه الحكمة وتفانيه في خدمة المعارف يقتطع له أوقاتاً لراحته وإدخال الفرح على قلبه لينشط إلى متابعة السير في عمله أما الشرقي فإنه يفرط فيما تمحض له فحاله إما تعب ليس وراءه غاية أو راحة ما بعد ورائها وراءٌ.
افتح أي كتاب من كتب التراجم ولاسيما تراجم أهل القرون الستة الأولى للإسلام تسقط على مبلغ عناية رجالنا بالتأليف وتوفرهم على النفع وقد يظن أن معظم ما خلفوه من كتبهم هو ديني محض ولا أثر لهم في العلوم الدنيوية ولكن هذا الظن لا يغني من الحق شيئاً لأن جماهير المؤلفين المجيدين لم يكونوا متمكنين من علوم الدين بإغفال علوم الدنيا بل إنهم كانوا يعتقدون بأن العلوم بأسرها نافعة في الدارين وما نفع في هذه الأولى كان خليقاً بأن ينفع في الأخرى.
هذا أبو محمد حزم الظاهري وأهل الظاهر نفاة القياس والتعليل وهو معدود في الطبقة الأولى بين علماء الدين ومع هذا تجد له تآليف ممتعة فيما نعتبره من علوم الدنيا فقد ذكر غير واحد من علماء الأندلس أن تصانيفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والرد على المخالفين نحو من أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة. وهذا شيءٌ ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر الطبري فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفاً فقد ذكر أبو محمد عبد الله بن محمد الفرغاني في كتابه المعروف بالصلة وهو الذي وصل به تاريخ أبي جعفر الطبري الكبير أن قوماً من تلاميذ أبي جعفر لخصوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي في سنة 310 وهو ابن ست وثمانين سنة ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته فصار لكل يوم أربع عشرة ورقة ومن جملة تآليفه التفسير الكبير والتاريخ الذي هو أصح التواريخ وأثبتها وكلاهما مطبوع متداول وهو الذي قال لتلاميذه: هل لكم إن أملي عليكم كتاباً في التاريخ قالوا وكم يكون حجمه فقال ثلاثون ألف ورقة فاستعظموا ذلك وأرادوه على الاختصار حتى أملاه عليهم في ثلاثة آلاف ورقة فجاء كما رأيناه اليوم أحد عشر مجلداً ضخماً أعلاه بهذا القدر وهو يحوقل ويقول ماتت الهمم لأن تلاميذه لم يوافقوه على جعل تاريخه في ثلاثين ألف ورقة فماذا كان يقول لو جاء في هذا العصر ورأى انحطاط علوم الدين وعلوم الدنيا بين قومه.
وابن جرير في إجادته في التأليف وإكثاره منه مشهور كسائر من تقدمه ومن تأخر عليه من المصنفين مثل ابن تيمية من أهل القرن الثامن فقد قال فيه أحد واصفيه أن له من المؤلفات والقواعد والفتاوى والأجوبة والرسائل والتعاليق مالا ينحصر ولا ينضبط ولا أعلم أحداً من المتقدمين ولا من المتأخرين جمع مثل ما جمع ولا صنف نحو ما صنف ولا قريباً من ذلك مع أن تصانيف كان يكتبها من حفظه وكتب كثيراً منها في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه ويراجعه من الكتب. وقال غيره كان الإمام يكتب في اليوم والليلة من التفسير أو من الفقه أو من الأصلين أو من الرد على الفلاسفة الأوائل نحواً من أربعة كراريس أو أزيد وما يبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد وله في غير مسألة مصنف مفرد في مجلد وجمع بعض الناس فتاويه بالديار المصرية مدة مقامه بها سبع سنين في علوم شتى فجاءت نحو ثلاثين مجلداً وقيل إن تآليفه تبلغ ثلاثمائة مجلد.
ومثله أبو الفرج ابن الجوزي الواعظ من علماء القرن السادس صنف في فنون عديدة وكتبه أكثر من أن تعد وكتب بخطه شيئاً كثيراً والناس يغالون في ذلك حتى يقولون أنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس وهذا شيءٌ عظيم لا يكاد يقبله العقل ويقال أنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث الرسول فحصل منها شيءٌ كثير وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ففعل ذلك فكفت وفضل منها.
ومن المكثرين من التأليف ابن الهيثم الرياضي الطبيعي فقد عدد ابن أبي أُصيبعة مصنفاته في زهاء أربع صفحات هذا عدا ما ضاعت دساتيره منه لما فارق البصرة والأهواز وانتقل إلى مصر قال: وما أظنها تنقص عن مئة مجلد. ومثله الفارابي أحد \ فلاسفة الإسلام كان مكثراً من التأليف وقد أضاع أكثرها لأنه كان يكتب في رقاع كيفما اتفق ويختار الفلاة ومجاري الأنهار للتأليف فتطير الأوراق التي يكتبها.
ومثلهما أبو الريحان البيروني قال ياقوت: كان لغوياً أديباً له في الرياضيات والنجوم اليد الطولى ولما صنف القانون المسعودي أجازه السلطان بحمل فيه فضة فرده للاستغناء عنه وكان مكباً على تحصيل العلوم منصباً على التصنيف لا يكاد يفارق يده القلم وعينه النظر وقلبه الفكر دخل عليه بعض أصحابه وهو يجود بنفسه فقال له في تلك الحال كيف قلت لي يوماً حساب الجدات الفاسدة فقال: أفي هذه الحال قال: يا هذا أودع الدنيا وأنا عالم بها أليس خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها قال: فذكرتها له وخرجت فسمعت الصريخ عليه وأنا في الطريق. قال ياقوت: وأما تصانيفه في النجوم والهيئة والمنطق والحكمة فإنها تفوت الحصر ورأيت فهرستها في وقف الجامع بمرو في ستين ورقة. وقال بعض مترجميه: إن كتبه زادت على حمل بعير.
والبيروني أحد كبار فلاسفة العرب يجيءُ في طبقة ابن سينا وابن رشد وابن زهر والفارابي ومثلهم الكندي فيلسوف العرب وكتبه في علوم مختلفة مثل المنطق والفلسفة والهندسة والحساب والأرثماطيقي والموسيقى والنجوم وغير ذلك وقد عدد أسماءَها ابن النديم في ست صفحات. ومثله أبو بكر بن زكريا الرازي صاحب المصنفات الممتعة في الطب والعلوم العقلية والأدب وهو الذي استنار الغربيون لأول نهضتهم بمصنفاته وأول ما طبع عندهم من تأليف العرب كتبه ذكر أسماءها ابن أبي أُصيبعة في نحو سبع صفحات وابن النديم في ثلاث. ومن المكثرين من التأليف في عهد الحضارة الإسلامية حنين بن اسحق وثابت بن قره ويعقوب بن اسحق الكندي وقد ساق ابن أبي أُصيبعة تآليف آخرهم في خمس صفحات وكلها كتآليف حنين وثابت فلسفية علمية وهم أئمة النقل من اليونانية إلى العربية.
ومن المكثرين من التأليف المجودين فيها حجة الإسلام الغزالي والماوردي وعمرو بن بحر الجاحظ وجار الله الزمخشري وهذان الأخيران من أئمة المعتزلة قيل في الأول أن تأليفه تعلم العقل وفي الثاني أن تآليفه يكتفى بها في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان والأدب. ومن المكثرين المجودين من أئمة المعتزلة القاضي عبد الجبار قيل أن تآليفه التي وضعها في كل فن أربعمائة ألف ورقة ومن أئمة المعتزلة كثيرون من جاوزت مؤلفاتهم المئة والخمسين ألف ورقة.
ومن المؤلفين الأول المكثرين من التأليف هشام الكلبي العالم بالنسب وأخبار العرب وأيامها ومثالبها ووقائعها المتوفى سنة 206 ذكر كتبه ابن النديم في نحو ثلاث صفحات وهي تزيد على مئة وخمسين ومنهم المدائني المتوفى سنة 215 في نحو أربع صفحات ومنهم المرزباني من أهل القرن الرابع قال إن تآليفه بلغة ألوفاً من الأوراق ومن الفقهاء والحفاظ المكثرين من التأليف محمد بن إدريس الشافعي وداود بن خلف الأصفهاني وأبو العباس بن سريح المعروف بالباز الأشهب من أئمة الشافعية كانت فهرست كتبه تشتمل على أربعمائة مصنف وقيل أن تصانيف الحافظ أبي بكر ابن البيهقي تبلغ ألف جزء ولأبي بكر ابن الخطيب صاحب تاريخ بغداد المتوفى سنة 463 قريب من مئة مصنف وللنسفي من كتب الأصول والفقه والحديث والأدب والتاريخ متا يقرب من مئة مصنف وكان ابن سبعين ممن صنف تصانيف كثيرة وللأشعري خمسة وخمسون تصنيفاً.
وكان أبو حاتم البستي من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ قال ياقوت وكانت الرحلة بخرسان إلى مصنفاته وروى عن ابن ثابت أن من الكتب التي تكثر منافعها إن كانت على قدر ما ترجمها واصفها مصنفات أبي حاتم محمد بن حيان البستي التي ذكرها لي مسعود بن ناصر الشجري ووقفني على تذكرة بأسمائها ولم يقدر لي الوصول إلى النظر فيها لأنها غير موجودة بيننا ولا معرفة عندنا وأنا أذكر منها ما استحسنت سوى ما عدلت عنه وأطرحته وهنا عدها فجاءت زهاء مائتين وخمسين جزءاً وبلغت مصنفات أبي بكر بن فورك المتكلم الأصولي النحوي الواعظ قريباً من مائة مصنف. ولفظة المتكلم تطلق على من يعرف علم الكلام وهو أصول الدين وإنما له علم الكلام لأن أول خلاف وقع في الدين كان في كلام الله عز وجل أمخلوق هو أم غير مخلوق فتكلم العباس فيه فسمي هذا النوع من العلم كلاماً اختص به وإن كانت العلوم جميعها تنشر بالكلام أهـ ولأبي الحسين الرواندي صاحب المقالة المشهورة في علم الكلام وهو الذي ينسب إليه اليوم ظلماً كل كلام فيه سفسطة ومغالطة وكفر من التآليف نحو مائة وأربعة عشر كتاباً مع أنه لم يتجاوز الأربعين من عمره.
ولرأس المتصوفة محيي الدين بن عربي تآليف كثيرة ومنها الممتع ذكر في إجازة كتبها للملك المعظم أنه أجازه أن يروي عدد مصنفاته ومن جملتها كذا وكذا حتى عد نيفاً وأربعمائة مصنف وألف رسالة عدد فيها كتبه كما جرت عادة بعض المؤلفين أن يترجموا أنفسهم ويذكروا مؤلفاتهم في رسائل خاصة مخافة أن يدس عليهم بعضهم ما لا يروقهم ويقول فيهم ما ليس فيهم.
وابن سعيد الأندلسي المؤرخ من المكثرين من التأليف منها المرقصات والمطربات والمقتطف من أزاهر الطرف والطالع السعيد في تاريخ بني سعيد والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار وهما المغرب في حلي المغرب والمشرق في حلي المشرق وغير ذلك قال لسان الدين حدثني الوزير أبو بكر بن الحكيم أنه خلف كتاباً يسمى المرزمة يشتمل على وقر بعير من رزع الكراريس لا يعلم ما فيه من الفوائد الأدبية والإخبارية إلا الله تعالى.
ومن المكثرين من التأليف لسان الدين بن الخطيب وأبو العلاء المعري ولهذا كتاب سماه الأيك والغصون وهو المعروف بالهمزة والردف يقارب المئة جزء في الأدب قال ابن خلكان: وحكى لي من وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتاب الهمزة والردف وقال إذا علم ما كان يعوزه بعد هذا المجلد. ومن المكثرين القاضي الفاضل قال ابن خلكان: أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد وكان الحاجب المنصور أبو بكر بن عبد الله بن مسلمة المدعو بالأفطس أديباً جليلاً ومن تآليفه الكتاب المظفري المسمى بالتذكرة في خمسين مجلداً. وكتب عبد اللطيف البغدادي الفيلسوف نحو مئة وخمسين كتاباً وذلك في سياحات له طويلة دامت نحو أربعين سنة ساحها بين العراق والشام ومصر والروم.
ومن المكثرين من التأليف والمتوسعين فيه أحمد بن أبان بن السيد اللغوي الأندلسي يعرف بصاحب الشرطة وهو مصنف كتاب العالم في اللغة نحو مئة مجلد مرتب على الأجناس بدأ بالفلك وختم بالذرة وله في ؤالعربية واللغة كتب أخرى. ومثله ابن سيدة الضرير صاحب المخصص والمحكم وغيره وهو من المكثرين من التأليف والحفظ ومن المكثرين أبو اسحق إبراهيم بن الأعلم البطليوسي له نحو خمسين تأليفاً. وبلغت تآليف محمد أبي طالب القرطبي المتوفى سنة 437 ـ 77 تأليفاً وألف عيسى بن عمر النحوي نيفاً وسبعين مصنفاً في النحو قال سيبويه جمعها بعض أهل اليسار وأتت عنده عليها آفة فذهبت ولم يبق في الوجود سوى كتابين ولو تنافس أهل العلم وغلاة الكتب بمثل هذه الكتب لتعاورتها الأيدي بالنسخ ولما فقدت.
ومن المكثرين من التأليف عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب السلمي المتوفى سنة 238 قال المقري رأيت في بعض التواريخ أن تواليفه بلغت ألفاً ومن أشهرها كتاب الواضحة في مذهب مالك. ولأبي عمرو الداني القرطبي من علماء القرآن مئة وعشرون مصنفاً وكان يقول ما رأيت شيئاً قط إلا كتبته ولا كتبته إلا حفظته ولا حفظته فنسيته وآخر من له التآليف الكثيرة من أئمة الأندلس أبو الحسن القلصادي المتوفى سنة 891 وأكثر تصانيفه في الحساب والفرائض.
وممن عرفوا بسعة التأليف أحمد بن أبي عبد الله على مذهب الإمامية فإن ما كتبه بلغ مائة تصنيف عددها ياقوت في معجم الأدباء ومن فقهاء الإمامية أبو النصر العياشي ذكر ابن النديم أسماء كتبه في نحو صفحتين.
ويقال أن تواليف أبي جعفر بن النحاس تزيد على خمسين منها شرح عشرة دواوين للعرب وذكروا أن محمد بن جماعة من أهل القرن الثامن كان أعجوبة زمانه في العلم وليس له في التأليف والتأليفين والثلاثة التي جاوزت الألف فإن له على كتاب أقرأه التأليف والتأليفين والثلاثة وأكثرها من شرح مطول ومتوسط ومختصر وحواش ونكت إلى غير ذلك وكان يعرف علوماً عديدة منها الفقه والتفسير والحديث والأصلان والجدل والخلاف والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق والهيئة والحكمة والزيج والطب والفروسية والرمح والنشاب والدبوس والثقاف والرمل وصناعة النفط والكيمياء وفنون أخر وعنه أنه قال: أعرف ثلاثين علماً لا يعرف أهل عصري أسماءها.
ومن الذين أكثروا من التأليف أحمد بن مكتوم من أهل القرن الثامن وعبد الرحمن الأنباري من أهل القرن السادس وعيسى الإسكندراني من أهل القرن السادس وتقي الدين السبكي من أهل القرن الثامن وله مئة وخمسون تصنيفاً والجلال السيوطي من أهل القرن العاشر أطلعنا على فهرست كتبه في سبع ورقات وربما لا تقل عن أربعمائة مجلد وفيها الجيد.
وأعجوبة المؤلفين أبو موسى جابر بن حيان قال: ألفت ثلاثمائة كتاب في الفلسفة وألفاً وثلاثمائة كتاب في الحيل على مثال كتاب تقاطر (؟) وألفاً وثلاثمائة رسالة في صنائع مجموعة وآلات الحرب ثم ألفت في الطب كتاباً عظيماً وألفت كتباً صغاراً وكباراً وألفت في الطب نحو خمسمائة كتاب إلى أن قال: ثم ألفت كتباً في الزهد والمواعظ وألفت كتباً في العزائم كثيرة حسنة وألفت كتباً في النيرنجيات وألفت في الأشياء التي يعمل بخواصها كتباً كثيرة ثم ألفت بعد ذلك خمسمائة كتاب نقداً على الفلاسفة ثم ألفت كتاباً في الصنعة (الكيمياء) يعرف بكتب الملك وكتاباً يعرف بالرياض.
وماذا عسانا أن ندون هنا ونقتبس من كلام المؤرخين في المكثرين من المؤلفين العارفين ولو أردنا أن نذكر فقط من لهم منهم إلى عشرة كتب لاستغرق الكلام مجلد هذه السنة برأسه. وإنا ليحزننا بوم نذكر أن كل واحد ممن ذكرنا خلف للأمة خزانة كتب من مصنفاته ونلتفت الآن عن إيماننا وعن شمائلنا فلا نرى المؤلفين في الأقطار العربية يعدون على الأصابع والمكثر منهم من لا تتجاوز مصنفاته العشرة.