مجلة المقتبس/العدد 46/كتاب العرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 46/كتاب العرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1909


أو الرد على الشعوبية

لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة من أهل القرن الخامس

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما (قال) أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة جعلنا الله وإياك على النعم شاكرين. وعند المحن والبلوى صابرين. وبالقسم من عطائه راضين. وأعاذنا من فتنة العصبية وحمية الجاهلية وتحامل الشعوبية فإنها بفرط الحسد ونغل الصدر تدفع العرب عن كل فضيلة وتلحق بها كل رذيلة وتغلو في القول وتسرف في الذم وتبهت بالكذب وتكابر العيان وتكاد تكفر ثم يمنعها خوف السيف وتعص من النبي إذا ذكر بالشجا. وتطرف منه على القذى. وتبعد من الله بقدر بعدها ممن قرب واصطفى. وفي الإفراط الهلكة وفي الغلو البوار والحسد هو الداء العياء. أول ذنب عصي الله به في الأرض والسماء. ومن تبين أمر الحسد بعدل النظر أوجب سخطه عَلَى واهب النعمة وعداوته لمؤتي الفضيلة لأن الله تعالى يقول (نحن قسمنا بينهم معيشتهم ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) فهو تبارك وتعالى باسط الرزق وقاسم الحظوظ والمبتدي بالعطا والمحسود آخذ ما أُعطي وجار إلى غاية ما أُجري.

وقال ابن مسعود: لا تعادوا نعم الله قيل ومن يعادي نعم الله قال: حاسد الناس وفي بعض الكتب يقول الله: الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي غير راضي بقسمي.

وقال ابن المقفع: الحاسد لا يبرح زارياً على نعمة الله لا يجد لها مزالاً ويكدر عَلَى نفسه ما به فلا يجد لها طعماً ولا يزال ساخطاً عَلَى من لا يتراضاه ومتسخطاً لما لا ينال فوقه فهو مكظوم هلعٌ جزوع ظالم أشبه شيء بمظلوم محروم الطلبة منغص المعيشة دائم السخطة لا بما قسم له يقنع ولا على ما لم يقسم له يغلب والمحسود يتقلب في فضل الله مباشراً للسرور ممهلاً فيه إلى مدة لا يقدر الناس لها عَلَى قطع وانتقاض ولو صبر الحسود عَلَى ما به وضمر لجرته كان خيراً له لأنه كلما هرَّ خسأه الله وكلما لجج قذف بحجره وكلما أراد أن يطفئَ نور الله أعلاه الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

ولله در القائل: وإذا اراد الله نشر فضيلة ... يوماً أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ماكان يعرف طيب عرف العود

ولم أر في هذه الشعوبية أرسخ عداوة ولا أشد نصباً للعرب من السفلة والجشوة وأوباش النبط وأبناء اكرة القرى فأما أشراف العجم وذوو الاخطار منهم وأهل الديانة فيعرفون مالهم وما عليهم ويرون الشرف نسباً ثابتاً.

وقال رجل منهم لرجل من العرب: إن الشرف نسب والشريف من كل قوم نسيب الشريف من كل قوم: وإنما لهجت السفلة منهم بذم العرب لأن منهم قوماً تحلوا بحلية الأدب فجالسوا الأشراف وقوم اتسموا بميسم الكتابة فقربوا من السلطان فدخلتهم الأنفة لآدابهم والغضاضة لأقدارهم من لؤم مغارسهم وخبث عناصرهم فمنهم من الحق نفسه بأشراف العجم واعتزى إلى ملوكهم واساورتهم ودخل في باب فسيح لا حجاب عليه ونسب واسع لا مدافع عنه ومنهم من أقام عَلَى خساسة ينافح عن لؤمه ويدعي الشرف للعجم كلها ليكون من ذوي الشرف ويظهر بغض العرب يتنقصها ويستفرغ مجهوده في مشاتمها وإظهار مثالبها وتحريف الكلم في مناقبها وبلسانها نطق وبهممها انف وبآدابها تسلح عليها فإن هو عرف خيراً ستره وإن ظهر حقره وإن احتمل التأويلات صرفه إلى أقبحها وإن سمع سوءاً نشره وإن لم يسمعه نفر عنه وإن لم يجده تخرصه فهو كما قال القائل:

إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا ... شراً أذيع وإن لم يعلموا بهثوا

ومن ذا رحمك الله صفا فلم يكن له عيب وخلص فلم يكن فيه شوب.

وقيل لبعض الحكماء هل من أحد ليس فيه عيب فقال لا لأن الذي ليس فيه عيب هو الذي لا يموت وعائب الناس يعيبهم بفضل عيبه وينتقصهم بحسب نقصه ويذيع عوراتهم ليكونوا شركاءَه في عورته ولا شيء أحب للفاسق من زلة العالم ولا إلى الخامل من عثرة الشريف قال الشاعر:

ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه ... مراد لعمري إن أردت قريب

وقال آخر:

وأجرأُ من رأيت بظهر غيب ... عَلَى عيب الرجال ذوو العيوب

وقد كان زياد بن أبي سفيان حين كثر طعن الناس عليه وعَلَى معاوية في استلحاقه عمل كتاباً في المثالب لولده وقال من عيركم فقرعوه بمنقصته ومن ندد عليكم فابدهوه بمثلبه فإن الشر بالشر يتقى واحديد بالحديد يفلح.

وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى أغرى الناس بمشاتم الناس والهجهم بمثالب العرب وحاله في نسبه وأبيه الأقرب إليه حال نكره أن نذكرها فنكون كمن أمر ولم يأتمر وزجر عن القبيح ولم يزدجر وهي مشهورة ولكن كرهنا أن تدوَّن في الكتب وتخلد عَلَى الدهر ولا سيما وهو رجل يحمل عنه العلم ويحتج بقوله في القرآن. ومن أتعب قلباً وأنصب فكراً ممن أراد أن يجعل الحسنة سيئة والمنقبة مثلبه ويحتال لإخراج الباطل في صورة الحق فيقصد من المناقب لمثل فوس حاجب يضحك منها ويزرى بها ويذهب في ذلك إلى خساسة العود وقلة ثمنه وهذا لو كان على مذاهب التجار والسوق في الرهون والمعاملات لرجع بالعيب على الآخذ لا عَلَى الدافع لا يألون بدفع أحقر ما يجد في أكثر ما يأخذ والمغبون من غرَّ بالصغير عن الكبير وإنما رهن عن العرب بما ضمنه عنها من كف الأذى عن مملكته حتى يحيوا وتنكشف عنهم السنة ولو كان مكان القوس مائة ألف رأس من الغنم عن هذا السبب ما كان القوس إلا أحسن بالدافع والقابل لأن سلاح الرجل هي عزه وشرفه وإسلام المال أحسن من إسلام العز والشرف. وقد يدفع الرجل خاتمه وبرده أو رداءَه عن الأمر العظيم فلا يسلمه خوفاً من السبة وأنفة من العار.

قال أبو عبيدة لما قتل وكيع بن أبي سود التميمي قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان بلغ ذلك سليمان وهو بمكة وهو حاج خطب الناس بمسجد عرفات وذكر غدر بني تميم وإسراعهم في الفتن وتوثبهم عَلَى السلطان وخلافهم له فقام الفرزدق ففتح رداءَه وقال يا أمير المؤمنين هذا رداي رهناً بوفاءِ تميم ومقامها على طاعتك فلما جاءَت بيعة وكيع قال الفرزدق:

فدى لسيوف من تميم وفى بها ... رداي وحلت عن وجوه الاهاتم

يريد الأهتم بن سمي التميمي ورهطه وهذا سيار بن عمرو بن جابر الفزاري ضمن لبعض الملوك ألف بعير دبة أبيه ورهنه قوسه فقبلها منه عَلَى ذلك وساقها إليه وفيه يقول القائل:

ونحن رهنا القوس ثم تخلصت ... بألف عَلَى ظهر الفزاري اقرعا

وسيار هذا هو جد هرم الذي تنافر إليه عامر وعلقمة. ومن هذا الباب قول جران وذكر اجتماعه مع نساء كان يألفهن: ذهبن بمسواكي وقد قلت أنه ... سيوجد هذا عندكن فيعرف

يظن من لا يعرف هذا الخبر أنهن سلبنه المسواك فاعتد عليهن واخبرهن أنه سيوجد عندهن ويعرف لقدر المسواك عندهن وعنده ولأن الأعراب أنظر قوم في التافه الحقير الذي لا خطر له وكيف يظن به وبهن وهذا وبلد نجد مستحلس بضروب من شجر المساويك لا تحصى فكيف يبخل عَلَى نساء يهواهن بعود هو يصطلي به ويختبز ويطبخ بشجره ومتى احتاج إلى مسواك منه لم يتكلفه بثمن ولم يبعد في طلبه والمعنى أن نجداً تختلف منابته فمنه ما ينبت الاسحل ومنه ما ينبت الارك ومنه ما ينبت البشام فاهل كل ناحية منهم يشاكون بشجر بلدهم وكان جران العود معروفاً بهؤلاء النساء يزورهن عَلَى حذر من مزار بعيد وهو يستن من الشجر ما ينبت في بلده ولا ينبت في بلدهن فلما أخذن سواكه ليتذكرنه ويسترحن إليه كما يفعل المتحابون قال إن هذا سيوجد عندكن وإذا وجد علم أنه مما ينبته البلد الذي اسكنه فاستدل به عَلَى زيارتي إياكن ويقصد لقول القائل:

أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الوردا

فيتضاحك بالشعر ويستهزيء بالبردين والفرس الورد ويعارض ذلك بملوك فارس واسرتها وتيجانها وبأن ابرويز ارتبط تسعمائة وخمسين فيلاً على مرابطه وبلغت مخدته التي كان يشرف بها على الداخل عليه ألف إناء من الذهب وخدمته ألف جارية وقد جهل هذا معنى الشعر واخطأ في المعارضة وفخر بما ليس له فيه حظ ولا نصيب.

أما معنى الشعر فإن أبا عبيدة ذكر أن وفود العرب اجتمعت عند النعمان بن المنذر فأخرج بردي محرق وهو عمرو بن هند وقال ليقم أعز العرب قبيلة فيأخذهما فقام عامر بن احيمر بن بهدلة فأخذهما فاتزر بواحد وارتدى بآخر فقال له بما أنت أعز العرب فقال العز والعدد من العرب في معد ثم نزار في مضر في خندق ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بهدلة فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني فسكت الناس فقال النعمان هذه عشيرتك كما تزعم فكيف أنت في أهل بيتك وفي بدنك فقال أنا أبو عشرة وعم عشرة وخال عشرة يغنيني الأكابر عن الأصاغر والأصاغر عن الأكابر فأما أنا في بدني فهذا شاهدي ثم وضع قدمه عَلَى الأرض وقال من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل فلم يقم إليه أحد من الناس فذهب بالبردين فسمي ذا البردين قال الفرزدق: فما تم في سعد ولا آل مالك ... غلام إذا ما قيل لم يتبهدا

لهم وهب النعمان ثوبي محرق ... بمجد معد العديد والمحصل

وأما الفرس الورد فإن الخيل حصون العرب ومنبت العز وسلم المجد وثمال العيال وبها تدرك الثار وعليها تصيد الوحش وكانوا يؤثرونها على الأولاد باللبن ويشدونها بالأفنية للطلب والهرب وقد كنى الله عنها في كتابه بالخير لما فيها من الخير فقال حكاية عن نبيه سليمان (إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب) يعني الخيل وبها كان شغل سليمان عن الصلاة حتى غربت الشمس وقال طفيل:

وللخيل أيام فمن يصطبر لها ... ويعرف لها أيامها الخير يعقب

وقال آخر:

ولقد علمت عَلَى توقي الردى ... إن الحصون الخيل لا مدر القرى

اني وجدت الخيل عزاً ظاهراً ... تنجي من العمى ويكشفن الدجى

ويبتن بالثغر المخوف طلائعاً ... وتبين للصعلوك جمة ذي الغنا

باتوا بصائرهم عَلَى أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتدٌ وأَى

والبصيرة الدم يريد أنهم لم يدركوا الثار فثقل الدماءُ عَلَى أكتافهم وأنه قد أدرك ثأره على فرسه وحدثني محمد بن عبيد قال حدثني سفيان بن عيينة عن شيب بن غرقدة عن عروة البارقي قال سمعت النبي يقول: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).

قال أبو محمد وليس لأحد مثل عتاق العرب ولا عند أحد من الناس من العلم بها ما عندهم وسأذكر من ذلك شيئاً فيما بعد إن شاء الله. وإذا كان للرجل منها جواد مبر كريم شهر به وعرف فقيل العسجدي ولاحق وداحس والورد. وليس أعجب من سرير كسرى وفخر العجم به وتصويرهم إياه في الصخور الصم وفي رعان الجبال. وإذا رأيت العرب تنسب إلى شيء خسيس في نفسه فليس ذلك إلا لمعنى شريف فيه كقولهم لهنيدة بنت صعصعة عمة الفرزدق ذات الخمار لذلك قال أبو عبيدة كانت هنيدة بنت صعصعة تقول من جاء من نساء العرب بأربعة مثل أربعتي يحل لها أن تضع عندهم خمارها فصرمتي لها أبي صعصعة وأخي غالب وخالي الأقرع بن حابس وزوجي الزبرقان بن بدر فسميت ذات الخمار لذلك.

وقال كان هند بن أبي هالة ربيب النبي يقول: أنا أكرم الناس أربعة أبي رسول الله وأمي خديجة وأختي فاطمة وأخي القاسم فهؤلاء الأربعة لا أربعتها وأما خطأه في المعارضة فإن صاحب البردين لم يكن ملك العرب فيعارضنا عنه بملك العجم ولم يدّع أحد أنه كان للعرب في دولة العجم مثل ملكها وأموالها وعددها وسلاحها وحريرها وديباجها فيحتاج أن يذكر فيلة ابرويز وجواريه وفرشه وقد كان هذا لأولئك كما ذكرتم جعله الله لهؤلاء فابتزوه واستلبوه والتحوهم كما يلتحى القضيب والناسخ أفضل من المنسوخ. وأما فخره بما ليس له حظ ولا نصيب فإنما يفخر بملك فارس أبناء ملوكها وأبناء عمالهم وكتابهم وحجابهم واساورتهم. فأما رجل من عرض العجم وعوامهم لا يعرف له نسب ولا يشهر له أب فما حظه في سرير كسرى وتاجه وحريره وديباجه وليس هو من ذلك في مراح ولا مغدى ولا مظل ولا مأوى. فإن قال لأني من العجم وكسرى من العجم فمرحباً بالمثل المبتذل ابن جار النجار ولو قال أيضاً لأني من الناس وكسرى من الناس كان وهذا سواء وما هو بأولى بهذا السبب من العرب لأن العرب أيضاً من الناس.

قال أبو عبيدة: اجريت الخيل فطلع منها فرس سابق فجعل رجل من النظارة يكبر وثب من الفرح فقال رجل إلى جانبه يا فتى أهذا السابق فرسك فقال لا ولكن اللجام لي.

وقال المسعودي: قدم علينا أعراب وكانوا يأتون ببضائعهم فأبيعها وأقوم بحوائجهم وكانوا يقولون رحم الله أباك ديناراً فكنت لا آلوهم عناية فقلت لهم اخبروني عن السبب بينكم بين أبي قالوا كان يساومنا مرة باتان فقلت لهم هل كان اشتراها منكم قالوا لا قلت الله أكبر قالوا وما ذاك قلت لو اشتراها صارت رحماً ونسباً.

وقد كانت العجم رحمك الله في ذلك الزمان طبق الأرض شرقاً وغرباً وبراً وبحراً إلا محال معد واليمن افكل هؤلاء أشراف فأين الوضعاء والأدنياء والكساحون والحجامون والدباغون والخمارون والرعاع والمهان وهل كان ذوو الشرف في جملة الناس إلا كاللمعة في جلد البعير وأين ذراريهم وأعقابهم أدرجوا جميعاً فلم يبق منهم أحد وبقي أبناء الملوك والأشراف.

وأعجب من هذا ادعاؤهم إلى اسحق بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم وفخرهم عَلَى العرب بأنه لسارة الحرة وأن إسماعيل أبا العرب لهاجر وهي أمة وقال شاعرهم:

في بلدة لم تصل عكل بها طنبا ... ولا خباءً ولا عكٌّ وهمدان

ولا لجرم ولا بهراء من وطن ... لكنها لبني الأحرار أوطان

أرض تبنى بها كسرى مناسكه ... فما بها من بني اللخناءِ إنسان

فبنو الأحرار عندهم العجم من ولد اسحق واسحق لسارة وهي حرة وبنو اللخناء عندهم العرب لأنهم من ولد إسماعيل وإسماعيل لهاجر وهي أمة قالوا واللخناء عند العرب الأمة فالويل الطويل لهؤلاء والبعد والثبور من هذه العداوة لأولياء الله والأنبار القبيحة لصفوة الله وقد غلطوا في التأويل عَلَى اللغة وليس كل أمة عند العرب لخناء إنما اللخناء من الإماء الممتهنة في رعي الإبل وسقيها وجمع الحطب وحمله واستقاء الماء والحلب وأشباه ذلك من الخدمة كما يقال الأمة الوكعاء وليس كل أمة وكعاء وإنما قيل لها لخناء لنتن ريحها ويقال لخن السقاء بلخن لخناً إذا تغير ريحه وانتن.

وأما مثل هاجر التي طهرها الله من كل دنس وطيبها من كل دفر وارتضاها للخليل فراشاً وللطيبين إسماعيل ومحمد عليهما الصلاة والسلام أما وجعلهما لها سلالة فهل يجوز لملحد فضلاً عن مسلم أن يطلق عليها اللخن ولو لم يكن إلا أن ملك القبط متع بها سارة وكانت أنفس أمائه عندهم واحظاهن لديه لقد كان في ذلك دليل عَلَى أنها لم تكن من الاماء اللخن ولو جاز أن يطلق على كل أمة لخناً لجاز أن يقال لكل شريف ولدته أمه هذا ابن اللخناء كما يقال هذا ابن الأمة وقد ولدت الاماء الخلفاء والخيار والأبرار مثل علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسالم ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب.

حثني سهل بن محمد قال حدثنا الأصمعي قال كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم هؤلاء الثلاثة ففاتوا أهل المدينة فقهاً وورعاً فرغب الناس في السراري والنساب لا يعرفون لأهل فارس ولا للنبيط في اسحق بن إبراهيم حظاً لأن اسحق تزوج رفقا بنت ناحور بن تارح وتارح هو آزر ورفقا بنت عمه فولدت له عيصو ويعقوب توأمين في بطن واحد فيعقوب هو إسرائيل الذي ولد الأسباط كلهم وكانوا اثني عشر رجلاً وأولادهم جميعاً يدعون بنو إسرائيل وهم أهل الكتاب وليس لهؤلاء فيهم سبب ولا نسب وعيصو هو أبو الروم وكان الروم رجلاً أصفر شديد الصفرة في بياض ومن أجل ذلك سميت الروم بني الأصفر. قالوا وكانت أم الروم بنت إسماعيل ابن إبراهيم وولد من الروم خمسة نفر فكل من بأرض الروم من نسل هؤلاء الرهط قالوا ولما سبقه يعقوب إلى دعوة اسحق فصارت النبوة في ولده دعا لعيصو بالنماءِ والكثرة فالروم كلها من ولده وبعض الناس يزعم أيضاً أن الاشبان من ولده وقالوا النبط بن ساروح بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح ويقال انه ابن ماش بن سام ابن نوح قالوا وأهل فارس من ولد لاوذ بن ارم بن سام بن نوح وكان كثير الولد فنزل أرض فارس فأجناس الفرس كلهم من ولده فليس بين هؤلاء وبين اسحق بن إبراهيم على ما ذكر النسابون نسب يجمعهم إلا سام بن نوح والناس يجتمعون في ولادة شيث بن آدم ثم في ولادة نوح ثم يتشعبون فولد نوح أربعة نفر سام وحام ويافث ويام فأما يام فهلك بالطوفان فلا عقب له وهو الذي قال له أبوه (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) وأما حام فإن أباه لعنه ودعا عليه بأن يكون عبداً لأخويه فخملت ذريته وسقطت فيه فهم النوبة وفزَّان والزغاوة وأجناس السودان والسند والقبط وأما يافث فإن أباه دعا له بالنماء والكثرة فولد الصقالب والترك ويأجوج ومأجوج وأممّا عدد الرمل والحصا في مشارق الأرض. فأما سام فبارك عليه فأشراف الناس من ولده منهم العماليق ومنهم الجبابرة وفراعنة مصر وملوك فارس ومن ولد سام الأنبياء جميعاً بعد نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ومن بعده إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. فالعرب وفارس يتساوون في هذه الجملة وتفضلها العرب بعدها بأنها من ولد إسماعيل ابن إبراهيم فهي أدنى من خليل الله دناوةَ وأمس به رحما.

ثم تتساوى العرب وفارس في أن الفريقين ملكوا وتفضلها العرب بأن قواعد ملكها نبوة وقواعد ملك فارس استلاب وغلبة. وتفضلها العرب بأن ملكها ناسخ وملك فارس منسوخ وتفضلها بأن ملكها متصل بالساعة وملك فارس محدود وتفضلها العرب بأن ملكها واغل في أقاصي البلاد داخل في آفاق الأرض وملك فارس شظية منه ليس فيه الشام ولا الجزيرة ولا خراسان في أكثر مددهم ولا اليمن إلا في أيام وهزر وسيف ابن ذي يزن.

ومن عجب امرهم أيضاً فخرهم عَلَى العرب بآدم بقول النبي لا تفضلوني عليه فإنما أنا حسنة من حسناته ثم بالأنبياء وأنهم من العجم إلا أربعة نفر هود وصالح وشعيب ومحمد وفي هذا القول وضع الفخر عَلَى غير أساس ومن أسس بنيانه عَلَى الباطل والغرور أوشك أن يتداعى وأن يخر وظلم للعرب فاحش ومنه ادعاؤهم آدم كأن العرب ليسوا من ولده ومنه انتحالهم موسى وعيسى وزكريا ويحيى وأشباههم من بني إسرائيل وليس بين فارس وبين بني إسرائيل نسب عَلَى ما بينت لك ومنه دفعهم العرب عن قربهم بهؤلاء الأنبياء وهم بنو عمومهم وعصبتهم لأن العرب بنو إسماعيل بن إبراهيم بإجماع الناس فهم بنو أخي اسحق بن إبراهيم وأولى به وأحق بشرفه وأولى بموسى وعيسى وداوود وسليمان وجميع الأنبياء من ولده وقال الله تعالى (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران عَلَى العالمين) فآل إبراهيم هم ولد اسحق وولد إسماعيل ثم قال (ذرية بعضها من بعض) فأعلمنا أن العرب وبني إسرائيل شيءٌ واحد في النسب وفيما أوحى الله إلى موسى: إني سأقيم لبني إسرائيل من إخوتهم مثلك أجعل كلامي على فيه: يريد أنه يقيم لهم من العرب نبياً مثل موسى يعني محمد وهذا علم من أعلامه وحجة من حججنا على أهل الكتاب من كتبهم فإن قالوا في ذلك أنه يقيم لهم من بني إسرائيل نبياً مثل موسى وقالوا أن بني إسرائيل بعضهم أخوة بعض أكلبهم النظر لأنه لو أراد ذلك لقال لهم من أنفسهم ومنهم كما أن رجلاً لو أراد أن يبعث رسولاً من خندف لم يقل سأبعث رسولاً من أخوة خندف فإن كان دفعهم ولد إسماعيل عن تشابك نسبهم بولد اسحق لنزول إسماعيل الحرم ونكاحه في جرهم فإن الديار قد تتناءى والمحال قد تتباين والرجل قد ينكح في البعيد وقد يولد له من الاماءِ ولا تنقطع الأرحام والأنساب وإن كان إسماعيل نطق بالعربية فليس اختلاف الناس في الألسنة يخرجهم عن نسب آبائهم وإخوانهم وعشائرهم فهؤلاء أهل السريانية قد خالفوا في اللسان أهل العبرانية وهذه الروم كفرت بالله ولا شيء أقطع للعصمة من الكفر وتكلمت بالرومية ورغبت عن لسان آبائها وليس ذلك بمخرجها عن ولادة اسحق بن إبراهيم عَلَى أن إسماعيل لم يكن أول من نطق بالعربية وإنما تعلمها وإنما أصل العربية لليمن لأنهم من ولد يعرب بن قحطان وكان يعرب أول من تكلم بالعربية حين تبلبلت الألسن ببابل وسار حتى نزل اليمن في ولده ومن أتبعه من أهل بيته ثم نطق بعده ثمود بلسانه وشخص حتى نزل الحجر.

حدثني أبو حاتم قال حدثني الأصمعي قال اخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال تسع قبائل قديمة طسم وجديس وعهينة وضجم (بالجيم وبالحاء) وجعم والعماليق وقحطان وجرهم وثمود.

وحدثني أبو حاتم قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا ابن أبي الزناد عن رجل من جرهم قال: نحن بدءٌ من الخلق لا يشاركنا أحد في أنسابنا بقول من قدمنا فهؤلاء قدماء العرب الذين فتق الله ألسنتهم بهذا اللسان وكانت أنبياؤهم عرباً هود وصالح وشعيب.

حدثني عبد الرحمن عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبهٍ أنه سأل عن هود أكان ابا اليمن الذي ولدهم قال لا ولكنه أخو اليمن في التوراة فلما وقعت العصبية بين العرب وفخرت مضر بأبيها إسماعيل ادعت اليمن هودا ليكون لهم والد من الأنبياء.

(قال) وأما شعيب من ولد رهط من المؤمنين تبعوا إبراهيم لما هاجر إلى الشام ولم يكن يثبت لهم نسب في بني إسرائيل ولم تكن مدين قبيلة ولكنها أمة بعث إليها فلما بوَّأ الله إسماعيل الحرم وهو طفل وانبط له زمزم مرت به من جرهم رفقة فرأوا ما لم يكونوا عهدونه وأخبرتهم هاجر بنسب الصبي وحاله وما أمر الله أباه فيه وفيها فتبركوا بالمكان ونزلوه وضموا إليهم إسماعيل فنشأ معهم ومع ولدانهم ثم أنكحوه فتكلم بلسانهم فقيل نطق باليعربية إلا أن الياء زيدت في الاسم فحذفت في النسب كما تحذف أشياء من الزوائد وغير كما تغير أشياء عن أصولها والدليل على أن أصل اللسان لليمن أنهم يقال لهم (العرب العاربة) ويقال لغيرهم (العرب المتعربة) يراد الداخلة في العرب المتعلمة منهم وكذلك معنى التفعل في اللغة يقال تنزر الرجل إذا دخل في نزار وتمضر إذا دخل في مضر وتقيس إذا دخل في قيس وقال الشاعر:

وقيس عيلان ومن تقيسا

ولو كان كل من تعلم لساناً غير لسان قومه ونطق به خارجاً من نسبهم لوجب أن يكون كل من نطق بالعربية من العجم عربياً (وسأقول في الشرف باعدل القول وأبين أسبابه ولا أبخس أحداً حقه ولا أتجاوز به حده) فلا يمنعني نسبي في العجم أن أدفعها عما تدعيه لها جهلتها واثني أعنتها عما تقدم إليها سفلتها واختصر القول واقتصر على العيون والنكت ولا اعرض للأحاديث الطوال في خطب العرب وتعداد أيامها ووفدات أشرافها عَلَى ملوك العجم ومقاماتها فإن هذا وما أشبهه قد كثر في كتب الناس حتى اخلق ودرس حتى مل لا سيما وأكثر هذه الأخبار لا طريق لها ولا نقلت من الثقات والمعروفين أيضاً تخبر عن التكلف وتدل عَلَى الصنعة وأرجو أن لا يطلع ذوو العقول وأهل النظر مني عَلَى إيثار هوى ولا تعمدٍ لتمويه وما أتبرأ بعده من العترة والزلة إلا أن يوفقني الله وما التوفيق إلا به.

وعدل القول في الشرف أن الناس لأب وأم خلقوا من تراب وأعيدوا إلى التراب وجروا في مجرى البول وطووا على الأقذار فهذا نسبهم الأعلى الذي يردع أهل العقول عن التعظم والكبرياء ثم إلى الله مرجهم فتنقطع الأنساب وتبطل الأحساب إلا من كان حسبه تقوى الله وكانت ماتته طاعة الله.

وأما النسب الأدنى الذي يقع فيه التفاضل بين الناس في حكم الدنيا فإن الله خلق آدم من قبضة جميع الأرض وفي الأرض السهل والحزن والأحمر والأسود والخبيث والطيب يقول الله عز وجل (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) فجرت طبائع الأرض في ولده فكان ذلك لاختلاف غرائزهم فمنهم الشجاع والجبان والبخيل والجواد والحي والوقاح والحليم والعجول والدمث والعبوس والشكور والكفور وسبباً لاختلاف ألوانهم وهيآتهم فمنهم الأبيض والأسود والأسمر والأحمر والأقشر والوسيم والخفيف على القلوب والثقيل والمحبب إلى الناس من غير إحسان والمبغض إليهم من غير ذنوب وسبباً لاختلاف الشهوات والإيرادات فمنهم من يميل به الطبع إلى العلم ومن يميل به إلى المال ومن يميل به إلى اللهو ومن يميل به إلى النساء ومن يميل به إلى الفروسية. ثم يختلفون أيضاً في ذلك فمنهم من يسرع إلى فهمه الفقه ويبطئ عنه الحساب ومنهم من يعلق بفهمه الطب وينبو عنه النجوم ومنهم من يتيسر له الدقيق الخفي ويعتاص عليه الواضح الجلي ومنهم من يتعلم فناً من العلم فيرسخ في قلبه رسوخ النقر في الحجر ويتعلم ما هو أخف منه فيدرس دروس الرقم عَلَى الماء ومن طلبة المال من يطلبه بالتجارة ومن يطلبه بالجراية ومن يطلبه بالسلطان ومن يطلبه بالكيمياء فيتلف بالطمع الكاذب والتماس المحال اثلة المال ومن طلبة النساء من يريد المهفهفة ومن يريد الضناك ومن يريد الغرة الصغيرة ومن يريد النصف الوثيرة وأعجب من هذا من ربما حبب إليه العجوز قال الشاعر: عجوز عليها كبرة وملاحة ... اقاتلتي يا للرجال عجوز

عجوز لو أن الماَء ملك يمينها ... لما تركتنا بالمياه نجور

ومن لؤم الغرائز أن من الناس من يحب الذم كما يحب غيره المدح ويرتاح للهجاء كما يرتاح غيره للثناء ومنهم من يغري بذم قومه وسب نفسه وآبائه وشتم عشيرته منهم عميرة بن جعيل التغلبي وهو القائل:

كسا الله حي تغلب ابنة وائل ... من اللؤم اصغاراً بطيئاً نصولها

ومنهم الحرمازي وهو القائل:

إن بني الحرماز قوم فيهم ... عجز وتسليط عَلَى أخيهم

فابعث عليهم شاعراً يخزيهم ... يعلم منهم مثل علمي فيهم

ومنهم القحيف وهو القائل في أمه:

ياليتما أمنا شالت نعامتها ... أيما إلى جنة أيما إلى نار

ليست بشبعى ولو أسكنتها هجراً ... ولا بربا ولو حلت بذي قار

تلهم الوسق مشدوداً اشظته ... كأنما وجهها قد طلي بالقار

خرقاء في الخير لا تهدى لوجهته ... وهي صناع الأذى في الأهل والجار

(لها بقية)