مجلة المقتبس/العدد 46/الألبان
مجلة المقتبس/العدد 46/الألبان
امتلأت الجرائد في هذه الأيام باسم هذا القوم المحارب ويجدر بنا أن نذكر شيئاً من تاريخه ولو مختصراً لنعرف ما كان عليه في الأيام الخالية وما صار إليه الآن. وقد اتخذت قاموس الأعلام، لشمس الدين سامي بك إماماً وكتاب التاريخ لمؤلفه دوروي معاوناً.
إن اسم هذا القوم فيما بينهم (اربانيا) في قبيلة كيفه و) اربريا) في قبيلة طوسقه لأن هذه كثيراً ما تبدل النون راء وكلاهما مشتق من اللغة الآرية القديمة من كلمة (آر) الحقل و (بان) من يعمل فيه أو يحرثه أو يزرعه فكأنه قيل لهذا القوم (الحارث) أو (الزارع) لأنه هو أول من أدخل هذه الصنعة من آسيا إلى أوربا ولما كان اليونانيون يبدلون الباء بالواو لفقدان الأولى عندهم دعوا هذا القوم (اروانيتيس) بزيادة (يشيس) وهي أداة النسبة عندهم أي منسوب إلى أربان (ظناً منهم أن أربان اسم للأرض التي يسكنوها) والسين زائدة تظهر في أكثر كلماتهم حالة الرفع وتسقط في حالة النصب والجر وفي التثنية والجمع ولما دخلت الأتراك إلى تلك البلاد أخذوا الأمم اليوناني فدعوهم ارناويت بحذف السين الزائدة وتقديم النون على الواو تحريفاً (كما حرفنا نحن كلمة عربون وقدمنا الراء فقلنا رعبون) وثقل أول الكلمة اقتضى أن يكون آخرها كذلك فبدلت التاءُ طاءً وكسرت الواو ضمة لغير سبب فصارت ارناؤط وأوربا اليوم تدعوهم (الباني) بتبديل الراء لاما وهما قريبا المخرج وكثيراً ما يتبادلان وفي العربية البرت والبت بمعنى واحد وهو القطع.
تبين لدى علماء الألسنة المحققين أن لسان الألبان يشابهُ اليوناني القديم واللاتيني والصقلبي والغوطي والفارسي والسنسكريتي وإن هذا اللسان من أقدم شعب اللسان الآري. ومن يقدر أن يحكم أن الكلمات المشتركة بين هذا اللسان وبين اليوناني القديم هي يونانية أخذها الألبان أو البانية أخذها اليونان؟
لا يقدر عَلَى ذلك إلا العالم بكلتا اللغتين المتوغل فيهما. وقد ادعى شمس الدين سامي بك بأن كثيراً من الكلمات تدل صورتها الألبانية عَلَى أنها أصل وصورتها اليونانية أو اللاتينية عَلَى أنها فرع. (كما نعلم نحن العرب مثلاً أن يئس وجذب أصل وأن ايس وجبذ فرع) ومن هنا يتبين أن هذا اللسان أقدم من اليوناني واللاتيني ثم إن مشابهته للسان الفارسي والزند والسنسكريتي أكثر من غيره من الألسنة الآرية الأوربية تدل على أنه لم يتشعب من هذه الألسنة التي هي شعبة من غيرها بل أنه جاء رأساً من آسيا الوسطى إبان الهجرة العمومية.
وقد انتخب هذا القوم لنفسه شرق أوربا وطناً له كما أن انسباءه السلتييت اختاروا غرب أوربا. ثم تفرق فرقاً فمنهم من أقام في ايليريا وهي بلاد الألبان الآن وبوسنه وهرسك ودالماسيا ومنهم من سكن في مكدونيا القديمة وهي عبارة عن سيروز وولاية سلانيك ومناستر واسكوب ومنهم من انتشر في ثراكيا وهي اليوم ولاية أدرنة وقسم من بلغاريا ومنهم من بقي في آسيا ولم يدخل أوربا وهم الفرنجيون ومكنهم من سواحل الأناضول في البحر الأبيض إلى سيواس وانقرة.
وقد ثبت بالأدلة التاريخية أن هذه الفرق الأربع من أصل واحد إلا أن أهل ايليريا أقرب إلى أهل مكدونيا وأهل ثراكيا أقرب إلى أهل فريجيا لغة وخلقا. وكان يجمعهم اسم (بلاسج أو بلاسغ) في قديم الزمان ويظن بعض علماء اللغة أن كلمة بلاسج مأخوذة من كلمة (بلاق) الألبانية ومعناها الشيخ سموا باسم حكمهم أي مجلس الشيوخ حتى أن أهل الجبل منهم الآن يحكمون مجلس الشيوخ فيما يختلفون فيه ويسمونه (بلاقونيا). ومن هنا يعلم إن هذا القوم العظيم انتشر قبل ألفي سنة من تريتا في بلاد المجر إلى سيواس في الأناضول. أما من كان في الأناضول فقد استولى عليهم الفرس ثم اليونان ثم الرومان فاختلطوا بهم فضاعوا وانقرضوا. وأما من كان في مكدونيا وايليريا فقد زاحمهم البلغار والصقالبة حتى اجتمعوا كلهم واكتفوا بالقسم الجنوبي من ايليريا. وكان هؤلاء لا يختلطون بغيرهم من الأمم ولا يؤَلفون جامعة لهم ولا يخطر ذلك في بالهم بل كانوا يعيشون متفرقين كما هو حال أهل الجبل منهم الآن في جوار دبره واشقودرة ولذلك حافظوا عَلَى لسانهم وعاداتهم وأخلاقهم. ولكن لم يحصلوا من الأدبيات القومية على شيء لفقدان الجامعة بينهم.
اتى عليهم زمن اسس فيه بعضهم دولة فكان منهم حكومة في اشقودرة وأخرى في يانية وثالثة في مكدونيا ومركز هذه بلدة (بلا) على نهر (قره آزمق) قرب بلدة (يكيجه واردار) من توابع سلانيك ومن ملوكها اسكندر المشهور ابن فيليب وهو الباني الأصل والنسب تعلم اليونانية لآدابها في ذلك الوقت فظنه الناس أنه يوناني وأكبر دليل عَلَى أنه ليس بيوناني خطب ذلك الخطيب اليوناني الشهير (ذيموستن) وتحريضه لأهل آتينة وتسميته له في تلك الخطب باسم (بارباروس) أي اعجمي وكانوا يسمون كل من لم يكن يونانياً (بارباروساً) كما أن العرب تسمي كل من لم يكن عربياً (أعجمياً) ومن أشهر ملوك يانيه (ببروس) فقد غلب الرومان مرتين واستولى عَلَى كثير من البلاد حتى توسع ملكه إلى اليونان ومصر ولم يكن همه إلا الظفر فقط ولذلك لم يترك لبنيه الذين ورثوه إلا ما ورثه عن أبيه.
إن الألبان الذين استولوا على العالم بأسره في عهد اسكندر ابوا أن يكونوا في أسر الرومانيين ولقد كانت لهم وقائع عظيمة معهم دلت على شجاعتهم وبسالتهم إلى أن أتى (بول اميل 168 ق. م) بعسكر جرار فغلبهم وخرب لهم سبعين قصبة (قرية وأكبر منها) وأسر منهم مائة وخمسين ألفاً وساقهم إلى رومية وباعهم هناك عبيداً.
أتظنون أنهم بعد هذا أطاعوا الرومانيين كلا فإنهم التجأوا إلى الجبال وتحصنوا فيها وتركوا الأراضي الخصبة وآثروا الفقر مع الحرية عَلَى الثروة مع الأسر.
وهكذا كانت حالهم لما دخل ملوك بني عثمان إلى الروم ايلي وفي سنة 1420 من الميلاد ظهر من بين رؤسائهم أمير يقال له اسكندر بك وكان رجلاً شجاعاً مدبراً فجمع القبائل كلها تحت رياسته وقاوم العساكر العثمانية أربعين سنة ولما هلك استولت الدولة العثمانية على جميع تلك البلاد فمنهم من رأى الغربة فهاجر إلى قلابريا وصقلية ومنهم من ذهب إلى البندقية وجنوه ومرسيليا ومنهم من أداه السير إلى اسبانيا. ومنهم من اختار الإقامة وهداه الله فأسلم ثم انتشر الإسلام بينهم ولم يبق عَلَى دينه القديم إلا مقدار الثلث ومذهب النصف منه اورثوذكس والنصف الآخر كاثوليك. وقد ظهر منهم رجال نبغوا في هذه الدولة حتى أحرز الصدارة منهم عشون وزيراً ومن أشهر قوادهم في الجيش العثماني سنان باشا وآثاره تدل عليه وهو أول من أدخل اليمن وعمان في حوزة الدولة وأوصل علمها إلى الأراضي المجهولة في ذلك الوقت مثل آجينة وصوماطره وكذلك الوزير المعروف بكوبريلي محمد باشا فإنه وصل إلى أسوار فينا مظفراً. يمتاز الألباني بأنه طويل القامة غليظ العظام عصبي المزاج كبير الدماغ واسع الناصية (وهذا مما يدل عَلَى ذكائه). يرعى العهد ولو كان فيه الموت الأحمر. يفدي روحه في حفظ قبيلته وعائلته بل لإنقاذ كلمة خرجت من فمه. يتبختر تبختر الأبطال في مشيته خفيف الحركة سريع الخطو. يغلب عَلَى نسائهم الجمال إلا أنهن غليظات الأبدان غليهن ملامح الرجال، لا يبالين بالحجاب ولكن الرجال يغارون أشد الغيرة عليهن فإذا أحسوا بأن فتاة أو امرأة خرجت ولو قليلاً عن دائرة العفة قولاً أو فعلاً فتكوا بها فتك ظالم غدار (لله درهم ودر العرب الذين لم تفسد أخلاقهم ودر هذه الغيرة التي نعدها نحن المدنيون توحشاً) نساؤهم صناع اليد كثيرات الجد والكد، هن ربات البيوت والرجال عندهن كأنهن ضيوف. لا يتزوجون إلا الأكفاء ولو بعدت المسافة بينهم. يحرمون بناتهم من الإرث (عادة ورثوها عن آبائهم) ولا يعطونهن شيئاً حتى إن ثياب العرس يشتريها الزوج. صلابتهم في دينهم شديدة إلا أنهم يتهاملون في العبادات ولهم بعض عادات انتقلت لهم من النصرانية أو من دين أجدادهم يحافظون عليها إلى الآن. يرون الاتفاق فيما بينهم فرضاً ولو اختلفت ديانتهم. فهذه ميزة الألبان باختصار.
وأما لسانهم فقد ذكرنا أنه شعبة مستقلة من اللسان الآري لكنه لم يحذو حذو أخواته كاليونانية واللاتينية فيرقى إلى أوج الفصاحة والبلاغة إلا أنه أقدم منهما لما يرى من أسماء الآلهة في أساطير اليونان واللاتين فإنها منه أخذت.
وقد اكتشف الذين ينقبون عن الآثار القديمة في (طوسقانه) من أعمال ايطاليا خطوطاً قديمة لم يمكن حلها باللسان اللاتيني واكتشفوا في فريجيا أيضاً خطوطاً تشبهها فجربوا فيها اللسان الألباني فوجدوها تشبهه غاية المشابهة ومن هنا يظهر ان لهذا اللسان خطوطاً تختص به. وعندهم بعض كتب تتعلق بمذهب الكاثوليك أُلفتت منذ خمسمائة سنة ولا أظنها مكتوبة إلا بالحروف اللاتينية وفيها المنظوم والمنثور.
ويحفظون بعض أغاني وطنية يرجع إنشاؤها إلى ثمانية او تسعة إعصار. ولا فرق بينها وبين لسان أهل هذا العصر إلا في التعبيرات الدينية لأن النصارى اتخذوها من اليونانية والمسلمين اتخذوها من العربية وكلاهما ترك اصطلاحات الدين القديم.
وأما حروفهم التي يتنازعون لأجلها الآن فلست أظن أنها تلك الحروف المكتشفة في طوسقانة وفي فريجيا عَلَى أنه لا يبعد أن تكون تلك إلا أنها أصلحت كالحروف العربية في بادئ الأمر وشكلها الآن. ولما زادت المجادلات بينهم وأخبرتنا الجرائد بذلك أحببت أن أرى هذه الحروف فأخذت كتاب ألف با وفيه دروس القراءة الألبانية. فوجدت كلمات هذا اللسان تتركب من أحد وثلاثين حرفاً وسبع حركات جعلوا لها (أي لهذه الثمانية والثلاثين) ستاً وثلاثين علامة أما الحركات فتلفظ همزة في أول الكلمات فقط ولذلك عدوها من الحروف. وأما الحروف فإنها تنقص عن العربية في أشياء وتزيد في أشياء. ينقص هذه اللغة من الحروف الخاء والصاد والضاد والطاء والعين وتزيد عن العربية بهذه الحروف:
1 ـ تس: حرف تمتزج فيه التاءُ بالسين فيحصل صوتاً مثل من فم ولد صغير أي بين (س) وَ ()
2 ـ: كما في التركية والفارسية.
3 ـ دز: صوت يحصل من امتزاجهما ولا سبيل لفهمه إلا بعد سماعه.
4 ـ ر: راءٌ مفخمة جعلوها مستقلة عن الرءِ المرفقة.
5 ـ: كما في التركية والفارسية.
6 ـ ك: حرف بين الغين والياء فلا هو غين ولا هو ياء لكنه أقرب إلى الياء منه إلى الغين.
7 ـ ل: لام مفخمة كالتي في لفظ الجلالة تقدمها فتح أو ضم.
8 ـ نى: نون ساكنة بعدها ياء وهي أسبه شيءٍ: الفرنساوية.
وأما العلامات فقد أخذوها من اللسان الفرنساوي عيناً إلا أن الفرنساوية وضعوها لحرف (تس) ووضعوها لحرف ووضعوها لحرف (دز) وما زاد عن الفرنساوية فقد اتخذوا له علامات لا تخرج عن وضع العلامات الفرنساوية إلا بزيادة خط معوج في رأسه أو أسفله.
سلانيك ـ
ر. ب