مجلة المقتبس/العدد 45/القضاة والنواب
مجلة المقتبس/العدد 45/القضاة والنواب
1
صحيفة من تاريخ القضاء
ترى الناس على اختلاف مذاهبهم ونحلهم وأجناسهم مجمعين على انتقاد أعمال القضاة والنواب شاكين كل حين من ظلمهم وغدرهم على أن العدل والأمن والراحة العامة وتأمين الحقوق في أيديهم وحياة الأمة وعمران الوطن وسعادته تتوقف على إصلاحهم فهم على ما هم عليه من المكان من حيث الدين والدنيا نرى أكثرهم كانوا من أكبر المخربين في هذا المجتمع الإنساني وقد تيسر لي اختبار أعمالهم وأفعالهم فرأيت أن أكتب شيئاً عنهم غير أني لم أقدم عليه قبل الرجوع إلى أمهات الكتب الدينية والوقوف على حقائق هذا المنصب العظيم.
وقد أنشأت هذه المقالات بعد أنم طالعت مقدمة ابن خلدون وحاشية ابن عابدين وتكلمته والأشباه والأحكام السلطانية وتاريخ الطبري وتاريخ الكامل لابن الأثير ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة والميزان للشعراني وسراج الملوك وغيرهما ولذلك أرجو من وجد غرابة في بعض أقوالي أن يرجع إلى هذه الكتب المهمة.
القضاء
القضاء لغة: الحكم ويجيءُ بمعنى الفراغ والأداء وأما القضاء شرعاً فهو فصل الخصومات وقطع المنازعات غير أنه مظهر للأمر الشرعي لا مثبت.
كان النبي ﷺ وحياً يوحى لا ينطق عن الهوى ولذلك لم يكن قضاءٌ في زمانه وفي مقر نبوته لأنه كان يأتي بالحكم أو يحكم مثلما يوحى إليه غير أنه عليه السلام لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن أرسله إليها عاملاً وقاضياً وبعث علياً إلى جهة اليمن عاملاً وقاضياً فكان أمر القضاء ممتزجاً مع الإمارة في زمان النبوة ولما صار أبو بكر الصديق رضي الله عنه خليفة قال له أبو عبيدة أنا أكفيك المال يعني الجزاء وقال عمر أنا أكفيك القضاء فمكث سنة ولم يخاصم إليه أحد فكان عمر أول قاض في المسلمين.
ولما تولى الخلافة أدرك أن توسع أمر الفتح وكثرة الاشتغال بالسياسة يؤخره عن القيام بالقضاء ولى أبا الدرداء معه في المدينة وولى شريحاً في البصرة وولى أبا موسى الأشعري بالكوفة وكتب له كتابه المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة وفيه يقول:
أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له واسٍ بين الناس في وجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما بيس في كتاب ولا سنة ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعماءِ. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في نسب أو ولاء فإن الله سبحانه عفى عن الإيمان ودرأ بالبينات وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر والسلام.
القضاء في الدولة العثمانية
3
كان السلطان عثمان الغازي مؤسس هذه الدولة ورعاً ديناً يستخدم قضاةً وحكاماً للنظر في الأمور الشرعية والقيام بأحكامها ولما تولى الملك ابنه أورخان الغازي طلب من الشيخ علاء الدين الأسودي رجلاً يقوم بمصالح الناس الشرعية في أسفاره فأوصاه بقره خليل أفندي جنوره لي فاتخذه قاضياً لبروسة عاصمة ملكه ثم جعله قاضياً على العسكر وخصه بأمورهم ولما آنس منه اختباراً في السياسة استوزره وسماه خير الدين باشا ونصب رستم أفندي مكانه قاضياً للعسكر.
وفي زمان السلطان بايزيد الأول تولى العالم محمد شمس الدين أفندي منصب الفتيا في قاعدة السلطنة للنظر في الأمور الشرعية وجمعها في مركز واحد فأصبح المفتي ناظراً عاماً عَلَى جميع العلماءِ والقضاة والمدرسين وقد بدأَ تنظيم مراتب العلماء الحالية ونظامهم في زمان محمد الفاتح على أنه لم يكن حتى في آخر زمانه سوى قاضٍ واحد للعسكر ولما كثرت الأعمال قسم القضاةَ على قسمين فصار قاضي عسكر للروم ايلي وقاضي عسكر للأناضول وجعل الفاتح جلال زاده خضر بك قاضياً عَلَى استانبول ومفتياً في مركز السلطنة وذلك عقيب فتح الأستانة.
وبعد حين تولى العالمان الشهيران ابن كمال باشا وأبو السعود أفندي منصب الفتيا بعدما كانا قاضيين للعسكر ثم أخذ يطلق عَلَى منصب الإفتاء مقام المشيخة الإسلامية وأصبح منصب الإفتاء فوق منصب قاضي عسكر الروم ايلي وقاضي عسكر الأناضول وجعلت له رئاسة الطرق العلمية ونظارة المحاكم الشرعية وأصبح مقام شيخ الإسلام معادلاً لمقام الصدارة العظمى وصار يقال لشيخ الإسلام (ولي النعم) وعدامر المعارف والعدل من حقوق مقام المشيخة واخذ طلبة العلوم عندما ينجزون دروسهم عَلَى الطريقة القديمة يقيدون أسماءهم في جريدة الدولة فيغدون قضاة.
ولم تكن مناصب قاضي عسكر وقضاة استانبول وقضاة أدرنه توجه إلا عَلَى اكبر المدرسين ومنتهى رتب التدريس رتبة المولوية بيد أن هذه الوظائف كانت مقرونة بالعمل والقاعدة أن ينالها المرء بحسب قدمه ولكن قوة الوساطة والشفاعة والرشى صارت تؤَهل الجاهل لبلوغ تلك المناصب فدخل الفساد فيها حتى أصبح القضاء ألعوبة بأيدي البحارة وصعاليك الناس وانشأ من ينال شهادة الملازمة بوسائط غير مشروعة يصل بها إلى القضاءِ. وكان قاضي استانبول اكبر مأمور شرعي بعد قضاءِ العسكر وله النظر في أمور البلدية وشؤون أرباب التجارة والحرف.
قلنا أن أحكام العدل كانت من وظائف مقام المشيخة وأن الدعاوي تنظر في المحاكم الصغرى وأما الدعاوي الكبرى فينظر فيها أمام قاضي عسكر وكان الديوان الهمايوني بمنزلة محكمة كبرى فوق المحاكم ينظر في أمور الدولة والأمور الشرعية معاً ثم تغيرت صورة هذا الديوان وانفردت أمور الدولة عن مصالح الرعية فاخذ القاضيان يجتمعان في غرفة العرض مرتين من كل أسبوع وينظران في الدعوى التي تعذر حلها في المحاكم الصغيرة وكان يقال لهذا المجلس (حضور مرافعه سي)
وأصبح هذا المجلس في سنة 1254 يلتئم بحضور شيخ الإسلام وفي عهد المرحوم عبد المجيد لما كان عارف أفندي شيخ الإسلام غدا انتخاب تحت نظام وفتح مكتب النواب عام 1272 وشرط ان يكون النائب من متخرجي هذه المدرسة وفي سنة 1274 تأَلف مجلس التدقيقات الشرعية وأصلح في سنة 1289 وأصبح تدقيق الصكوك والاعلامات من وظائف باب الفتوى.
وبعد ذلك انقسم مستخدمو الشريعة إلى قسمين الأول للفتوى والثاني للقضاءِ وصارفي مركز كل ولاية ولواءٍ وقضاءٍ مفتٍ وغدا المفتي مرجعاً لحل الأمور الشرعية وعد شيخ الإسلام المفتي الحقيقي وشرط في الإفتاء أن لا تعطى الفتوى لأرباب المصالح قبل تصديق شيخ الإسلام عليها وأما أمر القضاءِ فأمره لشيخ الإسلام يتولاه من السلطنة او مقام الخلافة غير أن مجلس انتخاب الحكام ينتخب الحكام وشيخ الإسلام يصادق عليه عند تقبيلهم ذيله ثم تكتب المراسلة ويختمها قاضي عسكر الروم ايلي وقاضي عسكر الأناضول وقاضي الأستانة وقاضي غلطة وقاضي الخواص الرفيعة وقاضي مكة وقاضي المدينة وغدا قاضي عسكر الأناضول قاضياً عَلَى آسيا وافريقية وقاضي عسكر الروم ايلي قاضياً على الروم ايلي وأما بقية البلاد فيحكمها نواب هؤُلاءِ القضاة فلكل مركز ولاية نائب ولكل مركز لواء نائب ولكل مركز قضاء نائب ولبعض النواحي نواب فنواب آسيا وافريقية ونواب قاضي عسكر الأناضول وأما نواب الروم ايلي فهم نواب قاضي عسكر الروم ايلي ولمنصب النيابة رتب منها خامسة ورابعة وثالثة ومسبوق ومستخدم الخ.
وترك الخيار في مراجعة المحاكم لأرباب الدعاوي وتقرر استئناف الأحكام في مجلس التدقيقات الشرعية وتمييزها في مقر الفتوى والتمييز قبل الاستئناف خلافاً للأحكام النظامية فالحجج والاعلامات ينظر فيها بعد تدقيق توقيعها وختم خاتمها فان وافقت الأصول الشرعية ترسل إلى مجلس التدقيقات الشرعية.
ثم جعلت محكمة (التفتيش) في نظارة الأوقاف للنظر في دعاوي الأوقاف ومحكمة (القسمة العسكرية) للنظر في دعاوي الإرث وتحرير الشركة وتقسيمها وعين مفتش الأوقاف حاكماً في محكمة التفتيش ومدته سنة والقسام العسكري حاكماً لمحكمة القسمة العسكرية واختصت محكمة التفتيش بدعاوي توجيه الجهات والتولية والمحلولات واستئنافها بمجلس التدقيقات الشرعية وأما القسام العسكري وقسام بيت المال فملحقان بقاضي عسكر الروم ايلي وليس لقاضي الأستانة سوى النظر في دعاوي الطلاق والنكاح والنفقة والمنازعات المتعلقة بالكدكات. وأما سائر المحاكم الشرعية فلها أن تنظر في دعاوى النكاح والطلاق والنفقة والحضانة والحريق والرق والقصاص والدية والارش والوصية والإرث والإقراض بالدور الشرعي والدعاوى الوقفية المتعلقة برقبة المسقفات والمستغلات والكدكات من الأوقاف الصحيحة التي هي من ذات الإجارة الواحدة أو ذات الاجارتين هذه الدعاوي في الأمور الشرعية مشوشة من حيث المرجع تحتاج إلى إصلاح حقيقي.
أوصاف القضاة الشرعية
4
القضاءُ فرض كفاية وسنة مثبتة لا يجوز أن يقلد إلا من تكاملت فيه شروطه وذلك بان يكون رجلاً بالغاً عاقلاً صحيح التمييز جيد الفطنة بعيداً عن السهو والغفلة حراً مسلماً عادلاً صادق اللهجة ظاهر الأمانة عفيفاً عن المحارم متوقياً المآتم بعيداً عن الريب مأموناً في الرضى والغضب صاحب مروءة في دينه ودنياه سالم السمع والبصر ليصح بهما إثبات الحقوق وأن يكون عالماً بالأحكام الشرعية وعلمه بها يشمل علم أصولها والارتياض بفروعها.
وأما أصول الأحكام الشرعية فهي أربعة احدهما علمه بكتاب الله عز وجل حق معرفته والثانية علمه بسنة رسول الله ﷺ الثابتة من أقواله وأفعاله وطرق مجيئها والثالثة علمه بتأويل السلف فيما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه ليتبع الإجماع ويجتهد برأيه في الاختلاف والرابعة علمه بالقياس الموجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها حتى يجد طريقها إلى العلم بإحكام النوازل ويميز الحق من الباطل.
فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة للأحكام الشرعية عد فيها من أهل الاجتهاد في الدين وجاز له أن يفتي ويقضي وأن أخل بها أو بشيء منها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد فلم يجز أن يقضي ويفتي وجوز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد ليستفتي في أحكامه وقضاياه واختلف أصحابه فمنهم من وافقه ومنهم من خالفه والذي عليه جمهور الفقهاء أن ولايته باطلة وأحكامه مردودة.
ويقول ابن هبيرة في الإيضاح (إنما عني بالاجتهاد لما كان عليه الناس في الحال الأولى قبل استقرار مذاهب الأئمة الأربعة فالقاضي الآن وإن لم يكن من أهل الاجتهاد ولا تعب في طلب الأحاديث وانتقاد طريقها لكن عرف من لغة الناطق بالشريعة عليه الصلاة والسلام مالا يحتاج معه إلى شروط الاجتهاد وإنما عَلَى القاضي أن يقضي بما يأخذه من الأئمة أو عن واحد منهم فإنه في معنى من كان أداه اجتهاده إلى قوله قاله وعَلَى ذلك فإنه إذا خرج من خلافهم متوخياً مواطن الاتفاق ما أمكَنه كان آخذاً بالحزم عاملاً بالأولى ويجب عليه الأخذ بالأكثر والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد فإنه يأخذ بالحزم مع جواز عمله بقول الواحد إلا أنني أكره له أن يكون مقتصراً في حكمه عَلَى إتباع مذهب أبيه أو شيخه فلو عدل عما اجتمع عليه الأئمة الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة بمفرده من غير أن يثبت عنده بالدليل ما قال ولا أداه إليه اجتهاده فإني أخاف من الله عز وجل أن يكون اتبع في ذلك هواه ولم يكن من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ثم قال: لو أهملت هذا القول ولم اذكره ومشيت عَلَى ما عليه الفقهاء من أنه لا يصلح أن يكون قاضياً إلا من كان من أهل الاجتهاد لحصل بذلك ضيق وحرج عَلَى الناس فإن غالب شروط الاجتهاد الآن قد فقدت في أكثر القضاة ولذلك ان ولاية الحكام جائزة وأن حكوماتهم صحيحة نافذة وإن لم يكونوا مجتهدين والله أعلم أهـ).
وبهذا علمت أن قد جوز ابن هبيرة قضاء من لم يكن من أهل الاجتهاد وذلك في زمانه ولكنه لك يجوز قضاءَ الجهال ولو نظرنا إلى قوله لأدركنا أن القاضي إذا لم يكن من أهل الاجتهاد يجب عليه أن يكون قريباً من درجته ليتمكن من ترجيح القول الراجح والقول الموافق ولو عَلَى غير مذهبه فإن أئمة الدين والفقهاء المحققين أوصوا باختيار القول الراجح ولو كان عَلَى غير مذهبه (لأن التقليد الأعمى في أحكام الشرع محظور والاجتهاد فيها مستحق).
نهى الشارع عن طلب القضاء وقد ضرب السلف الصالح وحبسوا ليتولوا القضاء فلم يقبلوا وجوز بعضهم طلب القضاء في حالتين إحداهما أن يكون القضاء في غير مستحقه إما لنقص علمه وإما لظهور جوره والحالة الثانية أن لا يكون في القضاء ناظر وهو خال من وال. وطلبه لاحتياجه مباح وإن كان لإقامة الحق فهو مستحب وإن كان طلباً للجاه فهو مكروه.
واتفق الأئمة الأربعة والفقهاء المتقدمون والمتأخرون عَلَى أن القاضي إذا أخذ القضاء بالرشوة لا يصح قضاؤه وإذا حكم لا ينفذ حكمه ويجب نقضه واجمع الفقهاء عَلَى أن القاضي إذا ارتشى لا ينفذ قضاؤه فيما ارتشى فيه. وقال السرخسي لا ينفذ كلها.
ولا يجوز للقضاة أخذ العائدات والمحصول ولو احتجوا بإذن موليه لأن ابن عابدين أنكرها كل الإنكار وذكر في الخبرية أن من التزم القضاء عَلَى مبلغ معلوم فهو كافر والعياذ بالله ولا يصح الاحتيال لحصول القضاء. وأما القضاء بظلم أو رشوة فيوجب العزل والتعزير وقد منع القاضي من قبول الهدية والاستعارة والاستقراض وسائر ما يتبرع به ويمنح ويجب رد الهدية إلى صاحبها أو لبيت المال إذا لم يعلم صاحبها وعدم القبول هو المقبول. وإذا فسق القاضي عزل ولا يكون القاضي فظاً غليظاً جباراً عنيداً وكره تحريماً اخذ القضاء لمن خاف الظلم والعجز عن إقامة الحق والعدل.
ولاية القاضي مقيدة بالزمان والمكان والحوادث وتكون ولايته عامة أو خاصة في بعض المسائل أو عَلَى أحد المذاهب وله أن يستخلف نواباً إذا فوض إليه صريحاً كولِ من شئت أو دلالة كجعلتك قاضي القضاة ولا يصح للقاضي أو النائب أن يحكم بما خالف الدليل لأنه لا ينفذ ولو حكم به ألف قاضٍ وأما القضاة فهي عَلَى ثلاثة أقسام الأول حكمه بخلاف النص والإجماع فهو باطل ينقض والثاني حكمه فيما اختلف فيه فهذا ينفذ وليس لأحد نقضه والثالث حكمه بشيءٍ يتعين فيه الخلاف بعد الحكم فيه أي يكون الخلاف في نفس الحكم فقيل نفذ وقيل توقف عَلَى إمضاء قاض آخر فلو أبطله الثاني بطل وإن أمضاه فليس لقاض آخر نقضه.
وأما منزلة القضاة من حيث الآخرة فقد قال رسول الله ﷺ القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل عرف الحق فلم يقض وجار في الحكم فهو في النار ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس عَلَى جهل فهو في النار فانظر إلى ما كانت عليه أحوال القضاة وأحكامهم تعلم منازلهم.
ويسرنا أن نرى الحكومة الدستورية أخذت تعنى بانتخاب من توفرت فيهم الشروط الشرعية وفقها الله.
أحوالهم الأخيرة
5
في المقالة الثالثة أن مدرسة النواب أسست لتخريج نواب قادرين عَلَى القيام بما يعهد إليهم من الوظائف عارفين بأحكام الشريعة غير أنني حتى الآن لم أصادف بين من اجتمعت بهم من المتخرجين في المدرسة المذكورة عالماً بوظائفه وأحكام الشريعة كما يجب إلا القليل منهم وهذا مما يدل عَلَى أن ذلك المعهد العلمي غير كاف وفي حاجة عظيمة إلى الإصلاح ومع ذلك فإننا نرى كثيرين من النواب تخرجوا بكتابة المحاكم الشرعية وربما يتعلم هؤلاء الكتابة وتنظيم الاعلامات والصكوك والحجج الشرعية وضبط الدعوى وتصير معهم ملكة المعاملات غير أنهم يخبطون في أحكامهم خبط عشواء ويجمعون من مجلة الأحكام العدلية وكتب الفتاوى ما يجدون كحاطب ليل واغرب من ذلك ما صادفته في بر الأناضول وذلك أن النواب هناك يستخدمون نواباً لأنفسهم جوالين (سيار نائب) ثم يأخذونهم إلى باب المشيخة ويجعلونهم نواباً بالوسائط التي بلغوا المناصب بها وقد شاهدنا بأم العين نواباً لم يكونوا ممن انتسب إلى العلم.
فالنواب حينما يذهبون إلى الأستانة في طلب التعيين ينتظرون زماناً طويلاً ويتكبدون نفقات طائلة ويقاسون أنواع العذاب ولا يحصلون عَلَى نيابة إلا بعد أن يصرفوا ما جنوه من أموال العباد في خلال نيابتهم الأولى فيخسرون ما جمعوه وتبقى عليهم حقوق العباد وعذاب الواحد الديان وأغلبهم يصل إلى النيابة إما بطرق غير مشروعة وإما بشفاعة غير جائزة وندر من غدا نائباً بطرق سهلة.
وأما رواتبهم فهي قليلة في أكثر أنحاء المملكة وقلما تقوم بنفقاتهم ولذلك تراهم منصرفين إلى ادخار الأموال ليصرفوها في طرقهم وإقامتهم بالأستانة وأخذ النيابة ولهذا السبب أيضاً ترى همهم تزييد العائدات التي أنكرها الفقهاء عَلَى أن المشيخة الإسلامية تركت تلك العائدات للكتبة فالنواب يشاطرونهم إياها حتى عَلَى تزكية الشهود ونفقات الطريق وأجرة القيد وما يسمونه الدلالية والقرطاسية ولا يسع الكتاب إلا السكوت والرضى لأنهم إذا امتنعوا عن إعطاء القسم الأعظم من العائدات تهددوهم بالعزل وعدم إصدار الاعلامات وحل المخاصمات بلا ضبط فحينئذ إما أن ينعزل الكاتب وإما أن يحرم من العائدات وقد تزيد هذه العائدات عَلَى رواتب النواب في أغلب الأحيان وتشغلهم كثيراً وتدعوهم إلى إحالة الدعاوي الحقوقية إلى المحكمة الشرعية.
فهذه العائدات عَلَى قسمين قسم مقيد في دفتر الخزينة فما تجاوز الخمسمائة من هذا القسم يكون مشتركاً بين النواب والخزينة وما كان دون الخمسمائة يكون حق النائب والكاتب لذلك لو دققت دفاتر الخزينة في كل الجهات ترى هذه العائدات قلما تجاوزت الخمسمائة وأنا القسم الثاني فذلك ما دخل كيس النائب والكاتب من غير أن يقيد بصندوق الخزينة وهذه الأجور والعائدات مصرح بمقاديرها في نظام أموال الأيتام غير أن الشريعة المطهرة لم تأمر بها عَلَى أننا لو نظرنا إلى حقائق الشريعة وما يقتضيه الدين والصلاح نرى أن أمر القضاء فرض كفاية كحفظ القرآن لا يستحق الأجرة كما فعل أبو بكر بن المظفر الشامي وغيره ولقد أفتى الفقهاء المتقدمون بتخصيص رواتب معلومة من بيت المال لتفرغهم عن المكاسب واشتغالهم بمصالح الناس وأنكروا تناول العائدات وقالوا أن الراتب يجب أن يكون كافياً.
لو نظر المرء إلى (المراسلة) التي تنبئ بنيابتهم وتصرح بوظائفهم تحت توقيع القاضي عسكر وجد أن عمل النواب محصور بإنفاذ الأحكام الشرعية عامة وبشدة الاعتناء في تحرير التركة.
وأما التركة التي يجب تحريرها فهي تركة رجل مات عن صغير أو غائب أو مات عن غير وارث أو إذا كان الميت مستغرقاً بالديون أو إذا طلب أحد الورثة تحرير تركة أبيه والغرض من ذلك حفظ حقوق الورثة وأخص بالذكر منهم الأيتام وقد رأينا النواب مسارعين إلى تحرير التركات غير أن السبب الحقيقي الذي يدفعهم إلى هذه السرعة هي العائدات والنفقات التي يأخذونها فنواب الأناضول تستخدم النواب الجوالين في تحرير التركات فيطوف هؤلاء القرى ويفتشون القبور والمدافن ويستخبرون عن الأموات فعندما يعلمون بوفاة أحد يجب تحرير تركته يحررونها فيتألم الورثة وأهل القرية وتستولي عليهم الكآبة والأحزان فوق حزنهم غير أنهم لا ينطقون ببنت شفة لأن النائب المتجول جاء باسم الدين والحكومة وم أشهد هذه الحالة في البلاد السورية لأن تحرير التركة هنا يتولاه النائب بنفسه أو يرسل رئيس كتابه.
وأما تحرير التركات في مراكز الولايات فذلك من شأن نائب النائب وكتبة المحاكم فهؤلاء يستخدمون جواسيس وأعواناً يطوفون في البلدة ويستخبرون عن الأموات من المغسلين والحفارين ولما يعلمون بتركة تستحق التحرير يذهبون إليها مهرولين فهنالك الطامة الكبرى والمصيبة العظمى عَلَى الأيتام فتؤخذ الأشياء الثمينة والنادرة بثمن بخس واسم مستعار وترسل إلى بيوت النواب والكتبة ثم يحسبون أجرة الدلالة والقيد وأجرة اعلامات الديون واعلامات الصلح وأجرة دفتر القسام وأجرة إقدامهم لأنهم كلفوا أنفسهم وتعبوا في حفظ حقوق الأيتام والورثة. وبعد ذلك يضمنون الطوابع والأوراق الحجازية ويأخذون كل هذه النفقات من ثمن التركة فيصبحون بذلك شركاء الورثة وربما أخذوا أكثر من الورثة وهذا الأمر يكاد يكون عاماً وأما سوء الاستعمال في الإدانة والاستدانة وثبوت الرشد فحدث عنه ولا حرج وندر النواب الصالحون الذين لا يمسون أموال الأيتام.
ولا يخفى أن الله سبحانه وتعالى منع مس أموال الأيتام بتاتاً وصرح بمنعه في آيات عديدة واتفق الفقهاء والعلماء عَلَى تحريم أخذ أموال الأيتام حتى حرموا الجلوس عَلَى كراسيهم وأثاثهم واستعمال أوانيهم ولست أدري عَلَى أي كتاب وأي قول وأي نص يأخذون هذه العائدات والأجور فإن قيل أن في ذلك فتوى أقول ولا أبالي أن لا مساغ للاجتهاد في مورد النص وإجماع الأمة والفقهاء وعَلَى ما أظن أن تلك العائدات وضعها وجوزها القضاة والنواب الذين كانوا يأخذون مناصبهم بطريق المزايدة والالتزام.
وزد على ذلك كله أن النواب أعضاء في مجالس الإدارة ومجلس القرعة العسكرية ولجنة الفراغ ورؤساء للمحاكم البدائية الجزائية ومحاكم الحقوق ودائرة الإجراء ولهذا لا يفترون عن الاستفادة الغير المشروعة من كل مسألة لهم فيها علاقة فالناس والمستخدمون يتألمون مما يشاهدونه من سوء استعمالهم في قسم الجزاء فيحكمون عَلَى بريء ويبرؤن الجاني ويتركون الأشقياء والمجرمين ويحبسون المساكين وتسهيلاً لمقاصدهم يجعلون غرفة الاستقبال في بيوتهم محكمة شرعية عَلَى أن الفقهاء صرحوا بأن القضاء يقام في أكبر الجوامع أو في محل خاص في منتصف البلدة فلو نظرنا إلى التاريخ لعلمنا أن أهم المدارس بدمشق كانت مقراً للقضاة وأن المدرسة العادلية كانت مقراً لقاضي المذهب الشافعي نظرة في إصلاحهم
6
ذكرنا أن المشيخة الإسلامية عبارة عن الفتيا والفتيا والقضاء من حقوق الخلافة والإمامة الكبرى وأن المفتي يخبر عن الحكم الشرعي والقاضي يلزم به عَلَى أن كل عالم يستطيع أن يفتي بما يفتي به المفتي لأن الفتوى لا تتضمن الحكم والإلزام ولا يجوز لعالم ولا لمفتٍ أن يحكم بما حكم به القاضي مع أن للقاضي أن يفتي ويستخلف أمناء ونواباً ولم أر حتى الآن عبارة أو قولاً لفقيه يشاربه إلى استخلاف المفتي نواباً أو إلى تداخله في تعيين النواب لأنهم نواب القاضي لا نواب المفتي وأمر الاستخلاف يتوقف عَلَى إذن الخليفة.
ذكرنا أن مجلس انتخاب الحكام ينتخب النواب وشيخ الإسلام أو مفتي الأنام يأمر بتوظيفهم وقضاة العسكر يوقعون على مراسلاتهم ليكونوا نواباً لهم توفيقاً للأحكام الشرعية ومن ذلك يظهر أن القاضي هو الذي يستخلف النواب وقد عجبت لحصر القضاة في قضاة العسكر وإبقاء هذا التعبير لأن هؤلاء القضاة هم في الحقيقة قضاة عامة المسلمين والأمة ليست بأمة مسلحة عَلَى أننا لو نظرنا إلى التواريخ علمنا أنه كان في كل مركز ولاية قاض وفي أعظم مراكز الألوية قضاة وأنه كان في المدن الإسلامية الكبرى قضاة لكل مذهب ولذلك أرى أن يكون في مركز كل ولاية وفي مركز بعض الألوية المهمة قاضٍ وأن يكون شيخ الإسلام قاضي القضاة يرجع إليه جميع القضاة وأن يكون للقضاة حق استخلاف النواب بإذن من الخليفة فيصبح أمر تعيين النواب بيد قضاة الولايات فيتخلص هؤلاء من العناء والذهاب إلى الأستانة ولا مانع من جعل مدة النواب أربع سنوات لأن ذلك أمر اجتهادي ثم يجب أن يؤلف مجلس من فحول علماء المسلمين تحت رئاسة قاضي القضاة ينتخبون القضاة من بينهم فيصدق عَلَى انتخابهم قاضي القضاة ويعرضهم عَلَى الخليفة لتصدر إرادته بتعيينهم وينتخب لمنصب قاضي القضاة ثلاثة علماء من هذا المجلس أو من غيرهم بأكثرية الآراء والخليفة يختار واحداً منهم يجعله قاضي القضاة.
وأهم ما يجب إصلاحه مكتب النواب والرأي توحيده مع شعبة العلوم الدينية في دار الفنون العثمانية وإصلاح الدروس وتعيين أفاضل المعلمين ليخرج فيه نواب أفاضل ومفتون ومدرسون عالمون ويكون هذا المكتب أعلى قسم لمكتب استعدادي ينشأ في دمشق ويكون هذا مخرجاً لتلاميذ القسم العالي والغرض من الاستعداد في تعليم النواب اللغة العربية التي لا غنى للنواب عنها إذا كانوا يرغبون في تطبيق أعمالهم عَلَى أحكام الشريعة ثم تسهيل التحصيل عَلَى الفقراء لكثرة المدارس والأوقاف بدمشق وعندما يتم التلميذ التحصيل في المدرسة الإستعدادية يذهب إلى الأستانة ليدخل مدرسة النواب ويجوز قبول المتخرجين في المدارس الرسمية الإستعدادية وطلاب العلم بالامتحان وعندما ينال التلميذ شهادة القسم العالي يستخدم عَلَى حسب استعداده وعلمه ويكون له حق الترفيع.
ويجب أن يكون مقر الحكم في دائرة رسمية لا في بيوت النواب ولا يجوز انفراد النواب في الحكم لأنه غير معقول ولا يوافق مقتضيات زماننا وناهيك بما نشاهده من سوء أحوال النواب. وورد في الكتب الفقهية أن للقاضي أمناء يعينونه في الحكم فهؤلاء هم في الحقيقة أعضاء ولا فرق في المعنى كما أنه لا اعتبار للألفاظ فإن شئت سمهم أمناء وإن شئت سمهم أعضاء ومن ثم يجب أن يكون مع كل نائب في القضاء أمينان عالمان ومع كل نائب في الولاية واللواء أربعة أمناء أكفاء ويسأل هؤلاء الأمناء عن الحكم ويجعل النائب رئيساً لهم فإذا رأوا حكم الرئيس مخالفاً للأحكام الشرعية يكونون في حل أن يعترضوا ويصرحوا بأسباب الاعتراض تحت توقيعهم فالمفتي والمدرس الذين تقرر تعيينهم أخيراً يكونان أمناء نائب القضاء والمفتي والمدرس وعالمان في مراكز اللواء ومركز الولاية يكونون أمناء قاضي أو نائب اللواء وقاضي الولاية.
وإذا نظرنا إلى أنواع قضايا القضاة الثلاثة التي سبق ذكرها وأخص بالذكر منها القسم الثالث الذي يتوقف حكمه عَلَى إمضاء قاضٍ آخر فإن بطله بطل وإن صدق عليه نفذ ندرك أن حكم القاضي من أي قسم كان من هذه الأقسام الثلاثة يحتاج إلى تدقيق ولذلك يجب تمييز أعلام محكمة القضاء في محاكم اللواء أو الولاية بحسب البعد والقرب وإعلام الولاية يميز في مركز السلطنة إذا كانت الولاية قريبةً من العاصمة ويدقق الحكم فأما أن ينقض لمخالفته أحكام الشريعة وأما أن يصدق عليه إذا كان موافقاً فيصير حكماً مقضياً.
ولا بأس بتوحيد المحاكم الشرعية والمحاكم الحقوقية وجعل الأمناء أعضاءً في كلا المحكمتين.
ويجب حينئذ إصلاح أحكام المجلة بحسب الأحوال والزمان والمكان والحكم الذي لا يوجد في المذهب الحنفي قد يوجد في مذهب المالكي وقد سبق الذكر بأن القاضي لا يحصر حكمه في مذهبه واتباع هواه فحينئذ تتألف لجنة من أفاضل علماء المذاهب الأربعة فينقحون المجلة ويصححون أقوالها المرجوحة ويجعلونها جامعة للأحكام الدينية الصريحة ولا شك بأنهم يجدون الأحكام الموافقة للعقل والنقل والزمان.
ويكون الأمناء مسلمين بيد أنه حدثت قضية بين مسلم وغير مسلم أو بين غير المسلمين تجوز استنابة أعضاء المحاكم الجزائية والتجارية من غير المسلمين أثناء المحاكمة لأن الإمام الأعظم وغيره من الفقهاء صرحوا بجواز حكم النسيين بين أصحاب مذاهبهم
ومن لا يرضى بالحكم فله أن يميز دعواه في محكمة أخرى وإذا عرف الحكام بالعدل والإنصاف لا يمتنع أحد عن قبول أحكامهم لأن العدل يرضي كل إنسان أما المسائل المذهبية فتترك لرؤَسائهم الروحية بحسب الواعد الصلحية.
هذه نظرات أساسية لقواعد يجب وضعها في إصلاح النواب والقضاة فيجب بادئ بدء تأليف مجلس العلماء الذي أشرنا إليه ليبحثوا في الأحوال والزمان والمكان ثم ينظرون في أحكام القرآن والحديث وفي الكتب الفقهية والمدونات فيقررون قواعد تحفظ بيضة الدين وقواعد الإسلام وترفع شأن المسلمين.
شكري العسلي