مجلة المقتبس/العدد 44/غرائب الغرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 44/غرائب الغرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1909


حالة مصر

هبطت مصر وعهدي بها ليس ببعيد غبت عنها أربعة عشر شهراً وكنت صرفت فيها أربع سنين أيام الحكم الاستبدادي في المملكة العثمانية فلم أرَ اليوم وأنا عابر سبيل أن أمكث فيها أقل من أربعة عشر يوماً قضيتها في مشاهدة من خلفتهم فيها من الأصدقاء الكثيرين. والقاهرة من البلاد العربية كباريز من البلاد الإفرنجية حوت ما في العواصم من ضروب الرقي والانحطاط مما تنفقه على غيرها طوعاً أو كرهاً ويأتي الناس من القاصية فيأخذونه عنها ويهتمون بتقليده وتأييده.

إن من ينظر إلى مصر نظراً سطحياً يأسف لها كثيراً ويعدها كنزاً ضائعاً ودماً ضيعه أهله. ومن يمعن النظر في مواردها ومصادرها ويدرس مساعيها ومقاصدها ويقيس النتائج بالمقدمات والماضي بما هو آت يدرك أن المستقبل المخبوء لمصر في حياتها الاجتماعية والسياسية لا يقل عما أحرزته في حاضرها من المنافع المادية والأدبية إذا ظلت عناية أهلها متوفرة على التعليم والتربية وهم يتفننون سنة عن أخرى في تلقف ما ينفعهم من أنواع المعارف لقيام بناء مجدهم الجديد على أحسن نظام.

ليس في أقطار الشرق ولا في أقطار الغرب بلد عرف تاريخه كما عرف تاريخ مصر ولا بلد مثله أبقى على آثاره الخالدة واحتفظ بتراثه القديم فنفع العلم والعالم بما ادخره.

فقد قال لنا التاريخ أن عهد بعض سلائل فراعنتها كان عهد ارتقاءٍ ومدنية وأن مدنيتهم لا تقل من وجوه عن المدنية الرومانية واليونانية والفارسية فكانت دولة فاتحة غازية مستعمرة كما كانت دولة فاضلة متحضرة وأنه جاءَ زمن طويل على مدينة الإسكندرية أيام الروم كانت تفيض العلم النافع على العالم أجمع بمدرستها كما كانت تفيض العلم مدرسة بغداد ومدرسة قرطبة أيام الخلفاء وكما تفيض كليات أوربا وأميركا على آسيا وافريقية اليوم.

أتى على مصر دور انحطاط بعد دولة الفاطميين اشتغلت فيه بنفسها وكان حظها من المعارف حظ سائر بلاد الشام وإن كانت لها الميزة أبداً في هذا الباب على الأقطار المجاورة فقد كانت على عهد الأيوبيين والجراكسة والمماليك على انحطاطها مورداً تستقي منه البلاد الأخرى وكانت العلوم الإسلامية والأدبية خاصة مما يحمل من أزهرها إلى شمالي افريقية وداخليتها وبلاد العرب والترك وسورية وغيرها. ولما جاء نابليون الأول ثم م علي الكبير دخلت فيها بواسطة علماء من الفرنسيس روح الحضارة الغربية وأسلوب التعاليم الأوربية وأخذت حكومتها ترسل بالبعثات العلمية بل بالبعوث السلمية إلى أوربا ليدرس النشء في كلياتها ثم يعودوا إلى مصرهم فينفعوها بما علمهم الله والبشر الراقي.

وما برحت هذه الإرساليات تكثر ومصر الحديثة تتكون على المناحي الغربية حتى جاء الخديوي إسماعيل وأسرف في مالها إسراف جنون وجهل فاضطرت إلى الاستدانة من الماليين الأوربيين وأكثرهم انكليز وفرنسيس ولما حدثت الفتنة العرابية وجدت انكلترا مدخلاً لها بحجة أن أرباب الأموال يوجسون خيفة على أموالهم ورأت من فرنسا غفلة أو تغافلاً فعملت وحدها على إطفاء الفتنة فصدقت عليها كلمة نابليون في قوله وقد أخرجته انكلترا من مصر بعد احتلاله لها بضع سنين في القرن الماضي أنها لم تخرجنا منها إلا لتأخذها لنفسها في المستقبل.

دخلت انكلترا مصر لإطفاء الفتنة أولاً ثم للمحافظة على ترعة السويس التي أصبحت أكثر أسهمها لجماعة من أبنائها. والترعة كما هو المعلوم طريق الهند الأقرب ومادة حياة دولة البحار. ومن حافظ على سلامته ومادة حياته يعذر.

ولقد كان ميدان الإصلاح فسيحاً أمام المحتلين لتوفر الأسباب الطبيعية لمصر وأن بلاداً لا ينقطع ماؤها ولا تغيب شمسها ولا تتعب تربتها ولا تتعاصى على الإنسان طبيعتها لأقرب البلاد إلى معالجة الإصلاح في مجاهلها ومعالمها.

ولما استتب الأمن في أنحاء القطر أقبل أرباب الأموال من الغربيين وغيرهم يتجرون ويزارعون ويؤسسون المشاريع العمرانية فكانت تلك الحركة نافعة في نهضة القطر الأخيرة نهضة اقتصادية كبرى حسدتها عليها بلاد كثيرة.

تهيأ لمصر والحق يقال من رجال الاحتلال أناس عملوا بإخلاص لتحسين زراعتها وريها وتنظيمها لينتفع من ذلك البريطانيون والمصريون معاً. وكان عميدهم الأكبر لورد كرومر الذي أدار دفة السياسة المصرية أربعاً وعشرين سنة أرخى في خلالها عنان الحرية الفكرية فهاجر إلى مصر كثيرون من المشارقة. عمل هذا وغيره من الأعمال النافعة ولكنه كان يحاول أن يقف بالمصريين عند حد الاشتغال بالزراعة ثم بالوظائف القليلة التي لا تسمح الحال إلا بإعطائها للمصريين وماعدا ذلك من الارتقاء العقلي والسياسي فقد كان اللورد يقول لهم كل سنة تصريحاً وتلويحاً في تقاريره السنوية أنكم لا استعداد لكم معاشر المصريين لغير ذلك من الأعمال فهل نسيتم ماضيكم أيام كنتم تساقون إلى السخرة سوقاً وتستعبدون استعباد العبيد والأرقاء أيام الحكومات الماضية المدمرة فاحمدوا الله على أن أنجاكم مما كنتم فيه فحالكم الآن أحسن من ماضيكم مئة مرة فعليكم أن تقنعوا بما حزتموه.

ولكن نبهاء مصر لم يفتهم معنى هذه السياسة وكان الفضل الأكبر للجرائد في تنبيه شعور الأمة المصرية إلى أن وراء ما هم متمتعون به الآن مطلباً أسمى وأنفع فقاموا يسعون إليه سعيهم وهم على اختلاف في الطرق الموصلة إليه لا يختلفون في كون بلوغه لا يتأتى إلا من طريق التعليم والتربية فبذل أهل الاقتدار ما سمحت به نفوسهم من إنشاء الكتاتيب في الأرياف والمدن حتى أسفرت النتيجة بعد بضعة سنين عن تكثير سواد القارئين والكاتبين ثم رأوا أن الأمة لا ترقى إلا إذا كان فيها أفراد يحسنون تعليم الأمة بلغتها ما يلزمها من المعارف المادية والاقتصادية والاجتماعية فسعوا إلى إقناع الحكومة بجعل التعليم في المدارس الابتدائية والثانوية باللغة العربية وكان أكثره بالانكليزية من قبل ثم رأوا أنه إذا لم يكن لهم من أبنائهم من يعلم العلم العالي سبب ارتقاء الأمم لا يكون العلم إلا عقيماً ناقصاً فأنشأوا لذلك المدرسة الجامعة المصرية وهم اليوم ينظمونها لتكون بعد سنين على مثال الجامعات الأوربية تدرس علوم الجامعات الإفرنجية باللغة العربية وهي أول جامعة من هذا النوع لأمة لا يقل الناطقون بها على ستين مليوناً من البشر.

نعم إن الجامعة المصرية اليوم وما دخل من الإصلاح على الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ومدرسة دار العلوم ومدرسة الحقوق ومدرسة الطب ومدرسة الهندسة والزراعة وسائر المدارس الأميرية والخصوصية هي التي تتألف منها اليوم طبقات رجال مصر الحديثة ولا بد لهذا الأمر من آخر ولمساعيهم الحسنة من نتيجة إذا سلك القوم سبيل التوءدة وطبقوا أعمالهم على قانون العقل الصحيح واستفادوا بتجارب الأمم السالفة وانصاع العامة للخاصة وحدهم ولم يبق المجال للغوغاء وبذلك تصبح أسباب القوة المادية والمعنوية في بلادهم على مستوى ما هي عليه عند الأمم الحية حقيقة لا مجازاً.

لا جرم أن المصريين بما فيهم من الذكاء وما ورثوه من حضارتهم القديمة وتيسر لهم من الرقي المادي هم بمجموعهم أرقى من مجموع الشرقيين خل عنك اليابانيين وفيهم اليوم من العقلاء المفكرين العالمين والباحثين من ليسوا دون أبناء طبقتهم في الغرب وربما فاق الأتراك المصريين في الأمور السياسية والحربية.

ولا يعاب على مصر إلا فتور همة أبنائها في منتصف الطريق في الأغلب وهذا الخلق يكاد يكون عاماً في القطر لا يقوى في التغلب عليه إلا التربية العملية. وحبذا يوم نرى فيه مصر تقبل على العلوم الطبيعية والكيمياء والميكانيك والمعادن مثلاً إقبالها على تعلم الحقوق مثلاً فقد ترى من ناشئتهم زهاء خمسمائة طالب في كليات أوربا وأميركا والقسم الأعظم منهم يدرسون الحقوق ليترشحوا منها إلى الوظائف لأنه وقر في النفوس أن فن المحاماة أكثر عائدة على صاحبه من غيره من الفنون خصوصاً وهو متوقف بعد العلم النظري على طلاقة لسان وفضل بيان والمصريون أكثر العرب حظاً من تينك المزيتين.

أصبحت مصر بمجموعها اليوم قطعة من أوربا كما قال الخديوي إسماعيل ولكن أحبابها يريدون لها أن تكون كأوربا في صفاتها العالية وحضارتها الراقية حتى لا تخرج أملاكها بطيش الطائشين من أبنائها إلى أيدي الغريب فيعود المصري بعد بضع سنين والعياذ بالله كالغريب في بلده وما أصعبها من حالة.

إن مسألة الراية التي تخفق على أمة لاتهم بقدر ما تهم في الحقيقة مسألة الأملاك إذ أنه مهما بلغ من حيف أمة فاتحة أو مستعمرة لا تحدثها نفسها أن تنزع من المالك ملكه إلا برضاه. ومصر التي تتأذى اليوم بوطأة الرومي والطلياني والانكليزي وغيره لا تنتقل بعض أملاكها منها إلا برضى أولئك الوارثين والمسرفين الذين لا يعرفون دخلهم من خرجهم ولا دينهم من دنياهم هذه هي الفئة الضالة المضلة في هذا القطر المحبوب ومنها يخشى على مستقبله.

فبقلة عقول المستهترين أصبحت نحو تسعة أعشار الأطيان والأملاك في مصر للغرباء وعليها مائتان وخمسون مليون جنيه من الديون منها نحو مئة مليون دين الحكومة ولا نعرف متى توفيه والباقي على عنق الفلاح الصغير والمزارع الكبير.

إن ما نخشاه على مصر هو الإسراف الزائد وتقليد الغربي على العمياء ولو كان لأهل وادي النيل شيء من الإمساك المحمود والاقتصاد المعقول إذا لكانت حال مصر السعيدة أرقى مما هي اليوم. ومن حاز الثروة وقانون الحكمة يدبرها والحنكة قائدها ورائدها وانتظر الفرص التي لا يزال الدهر يخبأوها للأفراد كما يبخل بها على الأمم لا بد أن يتمتع يوماً بالسعادة السياسية والاجتماعية التي هي منتهى آمال كل أمة حية في هذا الوجود.

7

مرسيليا

في الساعة الرابعة بعد الظهر أقلعت بنا من الإسكندرية الباخرة ايكواتور (خط الاستواء) إحدى بواخر شركة الميساجري مارتيم الفرنسوية فبلغنا ثغر مرسيليا أكبر مواني فرنسا على البحر المتوسط والمحيط والمانش في اليوم السادس الساعة الخامسة بعد الظهر ولم نر في طريقنا شيئاً يستحق الذكر سوى بعض سواحل إيطاليا وفرنسا وقد تجلت عن بعد وكان نظرنا يختلف إليها بقدر بعدنا أو قربنا منها ودام البحر رهواً حتى إذا خرجنا من مضيق مسينا أصبحنا وأصبحت سفينتنا على كبرها وطولها وعرضها ألعوبة العواصف والتيار يتقاذفنا من كل مكان حتى لم يبق راكب في درجات السفينة الأربع إلا وقد أخذه الدوار أو كاد ولم نملك حواسنا إلا عند بلوغنا ساحل السلامة.

وقوة هذه الباخرة 2987 حصاناً ومحمولها 3848 طناً وتقطع في الساعة أثني عشر ميلاً وهي إحدى بواخر الشركة التي تغدو وتروح بين مواني البحر الأبيض والبحر الأسود والبحر الأحمر وبحر الأدرياتيك ولهذه الشركة التي جعلت رأس مالها خمسة وأربعين مليون فرنك تسع عشرة باخرة من مثل هذه خصت سيرها بالبحرين الأولين في لأغلب. ومن موانينا التي تقف عليها بواخر الميساجري ماريتم خانيا وسلانيك والأستانة وجناق قلعة وأزمير ومدانيا وفاتي ولارنكا ومرسين والإسكندرونة واللاذقية وطرابلس الشام وبيروت ويافا وحيفا ورودس والإسكندرية وطرابلس الغرب وصمصون وطربزون وبور سعيد والسويس ولولا أمثال هذه البواخر الفرنسوية والنمسوية والروسية والإيطالية والانكليزية والألمانية والرومانية لما بقيت لنا تجارة تصدر من بلادنا وترد إليها ولتعذر التنقل إلا في السواحل على ظهور الجمال والبغال والحمير أو في المركبات وبعض القطارات القليلة التي تربط أجزاء مملكتنا بعضها ببعض.

ولشركة الميساجري أيضاً إثنان وعشرون باخرة تمخر العباب إلى الهند الصينية وتوابعها وخمس بواخر لخط الكوشنشين وست بواخر لخط اوستراليا وخلكيدونيا الجديدة وخمس بواخر في المحيط الأطلانطيكي (الظلمات) وسبع اختصت بالبحر المحيط الهندي وذلك ماعدا السفن الصغرى التي جعلتها في بعض المواني الكبرى. وأشغال الشركة متوسطة مع أن حكومة فرنسا تدفع إليها إعانة مالية كل سنة لقاء نقلها البريد بين الشرق والغرب وخدمة الجمهورية فيما يلزمها.

ويقول الذين سافروا مرات بين بلادنا وبلاد الغرب أن البواخر الألمانية والانكليزية والطليانية تفوق بانتظامها وحسن خدمتها البواخر الفرنسوية وأن الراكب يجد راحته في تلك أكثر من هذه مع أن الأجور واحدة ولذلك اضطرت هذه الشركة وغيرها إلى تخفيض الأجور في الصيف إلى نحو النصف لركاب الدرجة الأولى والثانية والثالثة وأخذت تحسم خمسين في المئة لكل شخص ثالث كان مع شخصين يدفعان القيمة المقررة فإذا كانوا أربعة فأكثر تحسم للرابع فما بعده خمسة وسبعين في المئة ولذلك يسهل السفر في الصيف لاعتدال أجوره.

ومن التسهيلات التي قامت بها هذه الشركة أن اتفقت مع شركات البواخر الانكليزية والأميركية وشركات السكك الحديدية على أن تنقل الركاب إلى المواني التي تختلف إليها بواخرها وتلك الشركات تنقلهم على بواخرها بحيث يطوفون العالم ويجتازون من نصف الكرة الغربية إلى النصف الشرقي والأجرة في ذلك معتدلة فيسلك الراكب إن أحب أحد الطرق التي يختارها في قطع البحور والبرور فالطريق الأولى عن مواني الصين واليابان وكندا ماراً بفانكوفر وهو يكلف في الدرجة الأولى 3288 فرنكاً والطريق الثانية اوستراليا وفانكوفر ويكلف في الدرجة الأولى أيضاً 3575 والطريق الثالثة إلى اوستراليا فمضيق توريس فاليابان ففانكوفر وأجرتها 4257 في الدرجة الأولى والطريق الرابعة عن طريق الصين واليابان وسان فرنسيسكو وتكلف 3288 فرنكاً والطريق الخامسة إلى اوستراليا ومضيق توريس واليابان وسان فرنسيسكو وتكلف 4257 فرنكاً في الأولى فيركب الراكب من مرسيليا إل هونغ كونغ على بواخر شركة الميساجري عن طريق السويس وجيبوتي أوعدن وكولومبو وسنغافورة وسايغون ومن هونغ كونغ إلى شنغاي إلى كوبي فيو كوهاما على بواخر الشركة أو على بواخر شركة الباسيفيك الكنادية بحسب ما يختار الراكب ومن يوكوهاما إلى فانكوفر على بواخر الشركة الكنادية ومن هنا يركب القطار إلى كيبك ومونتريال وهاليفاكس وسان جون أو نيويورك ومن نيويورك إلى ليفربول أو سومتون على إحدى البواخر الانكليزية أو الأميركية أو النمسوية أو من نيويورك إلى الهافر على بواخر الترسلانتيك ومن الهافر بالسكة الحديدية إلى باريز.

هذه هي المسافات التي يقطعها من يريد الطواف حول الأرض ولو قال قائل هذا لأحد أجدادنا الأقدمين وقال له أنني أريد السير نزهة على هذه الخطة لنسب إليه الجنون وقال إن ذلك لن يكون ولكن إذا عرف سر الأسفار في هذه الأعصار يقول سبحان من سخر لنا قطع البحار بالبخار يفعل ما يشاء ويختار.

وبعد فلم يتسع لي الوقت لأدرس جميع معالم المدنية في مرسيليا لأني لم أصرف فيها إلا ثلاثة أيام قضيت أكثرها في الراحة ومن عناء السفر الذي طال علينا إحدى عشرة ساعة زيادة على المعتاد لما صادفته الباخرة في طريقها من الأنواء ولطارئ طرأ على آلتها في عرض البحر فأصلحتها ولولا ذلك لقطعت باخرتنا المسافة بين الإسكندرية ومرسيليا في خمسة أيام بلياليها ولا تقف قرب اليابسة. ومن البواخر الانكليزية ما يقطع المسافة بين بور سعيد ومرسيليا في أربعة أيام وهذه البواخر خاصة بالبريد الانكليزي تنقله من اوستراليا والهند إلى الجزائر البريطانية في خمسة وثلاثين يوماً لا تكاد تستريح في طريقها إلا بقدر ما تحمل زاداً ووقوداً وركاباً والمسافة المعتادة بين اوستراليا وانكلترا لا تجتازها الشركات المعتادة في أقل من سبعين يوماً.

قامت مرسيليا في منقطع وادي الرون الجميل فكانت جملة الجمال الفرنسوي بما فيها من الجبال والسهول وما أحرزته من مجد قديم وغني حديث وأن محيطها الذي لا تقل مساحته عن مئة كيلومتر مربع لأحلى من العافية في بدن السقيم أو النضارة في خدود الجواري - كما يقول بديع الزمان_استغفر الله بل كاد يكون أجمل من الحور الذي تقرأوه في عيون المرسيليات الدعج. ولعل جمال العيون في النساء هنا التي فاقت عيون البدويات الرعابيب انتقلت إليهن من أجدادهن العرب فقد قال ميشله المؤرخ أن أصل سكان مضايق الرون مختلط كثيراً ففيه العنصر السلتي واليوناني والعربي وخليط من الطليان والغالب أن سكان جنوبي أوربا يوصف نساؤهم بدعج العون وسواد الشعور كما يوصف الشماليات بزرقة العيون وشقرة الشعور.

وإلى اليوم يكثر في مرسيليا الغرباء ولا سيما الطليان ففيها 550 ألفاً من السكان خمسهم من الطليان وبيدهم كثير من الصناعات والمعامل وهم عشر الأجانب في فرنسا وكان في مقاطعة مرسيليا سنة 1906: 766500 ساكن منهم 123500 أجانب وفيها وفيها 718 مدرسة وفي مقاطعتها 717 كيلومتراً من الخطوط الحديدية و163 كيلومتراً من الترم و284 من الطرق الأهلية و3683 كيلومتراً من طرق العجلات الموصلة بين أقاليمها.

وأهم صناعاتها عمل الأقمشة وتحضير الأطعمة والمأكولات وصنع القرميد خل عنك تجارتها الهائلة وزراعتها التي لا تختلف في الرقي عن زراعة عامة البلاد الفرنسوية وفيها دور صناعة للأساطيل والبواخر التجارية ولا سيما دار صناعة الميساجري ماريتيم.

قال من كتبوا عن مرسيليا من المؤرخين أن تاريخها من أقدم التواريخ وهي أول ميناء بحرية لفرنسا يرد عهد إنشائها إلى القرن السادس قبل المسيح وفي مقاطعتها اليوم 49 ألف منزل منقسمة بين ألفي شارع وطريق ومعظم آثارها ومصانعها حديثة النشأة من عهد السلالة الملكية الثانية ومن أحسن متنزهاتها الكورنيش الذي انتهى سنة 1863 وكان عدد السفن التي دخلت مرفأها البالغ سطحه 300 هكتار سنة 1907_16330 وعدد الركاب 550 ألفاً وقدروا ما يدخل إليها ويخرج منها في اليوم بسبعة وأربعين باخرة وبارجة وناهيك به من عدد.

ويطبع فيها وينشر 146 جريدة ومجلة. وجريدة البتي مارسيليه (المرسيلي الصغير) أوسعها انتشاراً تطبع 180 ألفاً كل يوم وهو حجم الماتين والايكودي باري كما يطبع البتي باريزيان (الباريزي الصغير) الذي يصدر في باريز مليوناً ومائتي ألف نسخة في اليوم والثاني أكثر جرائد فرنسا انتشاراً. فكأن لهذه الأسماء الصغيرة من حسن التوفيق ما لا يحالف الأعمال التي تبدأ بالألقاب الضخمة والأسماء الفخيمة.

زرت إدارة البتي مارسيليه فرأيت النظام مستحكماً في كل ما يتعلق بها وهي اليوم في السنة الثالثة والأربعين من عمرها وأقدم منها بل أقدم جرائد مرسيليا السيمافوردي مارسيل أنشئت سنة 1827 وهي من الجرائد الجدية المعتبرة إلا أنها أقل انتشاراً. وهذه الجريدة تباع في مقاطعة الرون وما إليها مثلاً فلو فرضنا أن ما يطبع من جرائد مرسيليا ومجلاتها يبلغ كل يوم مليوني نسخة لأصاب كل فرد في مقاطعتها جريدتان ونصف على أقل تعديل هذا عدا الجرائد الباريزية وغيرها التي ترد على مرسيليا وتباع في شوارعها بالألوف أيضاً.

ومن الأسف العظيم أننا لو أحصينا عدد ما يصدر من جميع الجرائد والمجلات العربية والتركية والفارسية في البلاد المصرية والعثمانية والإيرانية لا يبلغ بكميته قدر ما تطبع كل يوم جريدة البتي مارسيليه إحدى جرائد ولايات فرنسا. وعلى هذه النسبة قس ولا تخف درجة ارتقائنا وارتقاء الفرنسيس وسجل علينا بالفقر المدقع في كل شيء ولا سيما في الأمور العقلية.

ليون

8

ماذا يصف القلم من مدينة الفرنسيس وكل فرع من فروعها المدهشة لو تعاورته الأقلام الكثيرة وتوفرت على البحث فيه العقول الكبيرة لما كانت إلا إلى جانب القصور. نعم لو جاء في عصرنا الرحالة ابن حوقل وشاهد مدينة فرنسا فقط لحوقل واسترجع وقال هذه حضارة ليس لنا في وصفها مطمع ولو أتى المسعودي بقلمه وعلمه لعجز عن الوصف والتسطير ولو جيء بابن بطوطة لآب من رحلته الطويلة لا يحسن إملاء ما رأى وسمع ولو قام ابن جبير لاعترف بقصور ذرعه وعدم نفاذ طبعه وقال إن هذا إلا حلم وخيال ونحن لا نسجل في رحلتنا إلا ما تقع علينا أبصارنا ويترامى إلى آذاننا وتمسه أيدينا.

وبعد فماذا يصف القلم في ليون أجمالها الطبيعي أم الصناعي. معاملها الحريرية أم مدارسها وكليتها أم انتظام شوارعها ودورها وقصورها وحدائقها أم غناها ومتاحفها وعادياتها وكنائسها ومصانعها ومعارفها ومكاتبها ومخازنها وحوانيتها وتماثيلها وأنصابها وخطوطها الحديدية والكهربائية وجسورها الحديدية والحجرية وأرصفتها البديعة وساحاتها وحدائقها ونهريها العظيمين الرون والسون اللذين يقطعانها شطرين ويزيدان في بهجتها ما تقر به العين.

ماذا نذكر من ليون ثاني مدينة في فرنسا وقد شبهوها بموسكو الروسية في كونها عاصمة دين كما هي عاصمة صناعة وعمل. وعلى جسر ليون مر الصليبيون في القرون الوسطى ذاهبين إلى المشرق لإنقاذ بيت المقدس من أيدي المسلمين. نعم ماذا نعدد من ليون وبدائع صنع الإنسان فيها وما ضمت من معاهد قديمة وحديثة ومشاهد بهيجة ويالله ما أعجب معرض نموذج الأنسجة الذي حوى أربعمائة ألف نموذج ليس لها نظير في العالم وعرضت على أنظار أهل البلاد والسائحين ينتفعون بالنظر إليها ويستدلون بها على تفنن يد الإنسان في كسوة الأبدان.

لئن حرمت ليون من ميناء بحرية لتصريف مصنوعاتها بسرعة فإن البخار البري عوض عليها هذا الحرمان فزاد في عظمتها التجارية ففي كل يوم يمر في محطات سككها الحديدية 140 قطاراً جائية ذاهبة من أنحاء شتى ولا سيما من الشمال إلى الجنوب. والمسافة بين باريز ومرسيليا 850 كيلومتراً ليس فيها شبر واحد لا أثر للعمران فيه يقطعها القطار بالسير السريع في 14 ساعة. وليون على مقربة من نصف الطريق بين باريز عاصمة البلاد ومرسيليا ثغرها والحكومة اليوم شارعة بمد خط حديدي ثالث لتسيير القطارات لأن الخطين الموجودين لا يتأتى أن يجري عليهما في كل بضع دقائق أكثر من قطار واحد مخافة أن يحدث اصطدام بين القطارات وسيكلف الخط الجديد بين باريز ومرسيليا مئات الملايين من الفرنكات وكل ذلك حتى لا يتأخر راكب ولا بضاعة وتأخذ كل جهة حظها من العمران.

لم تقف ليون عند حد الأعمال الصناعية والتجارية والمالية بأن كانت هي التي أسست مصرف الكريدي ليونيه مثلاً من أعظم مصارف العالم. بل لها حظ كبير من النهضة العلمية وأثر راسخ في الحضارة الفرنسوية وناهيك بكليتها التي تحوي فروع العلم ولا سيما الطبيعي والحقوق والطب والتجارة يختلف إليها 2500 طالب منهم الأجانب وفيهم نحو خمسين مصرياً أكثرهم ويدرسون الحقوق وقليل منهم الطب وأقل في التجارة والمصريون حديث عهدهم بنزول ليون للتخرج في كليتها وقد كثر ورودهم عليها بعد أن ترك المسيو لامبر أحد أساتذة مدرسة الحقوق في القاهرة منصبه فعينته حكومته في كلية ليون أستاذاً فكان من أثر محبته للمصريين ومحبة المصريين له أن جذب عشرات منهم للتعلم في كليتها وهو يشرف عليهم إشراف الأب على أولاده. وكانت مصر تعتمد في تنشئة أولادها من قبل على كليات الولايات الفرنسوية ولا سيما كلية مونبليه وذلك على عهد الخديوي إسماعيل لأنه كان يعتقد أن أهل مونبليه أقل معاداة للملوك وأبعد الفرنسويين عن التطرف.

قضيت في ليون يومين لزيارة معالمها ومشاهدة صديقي محمد لطفي أفندي جمعة الكاتب الخطيب الغيور فرأيت فيها غاية الرقي الاجتماعي والتكافل الإنساني والذوق الفرنسوي وفي مثل مدينة ليون من قواعد البلاد تعرف حقيقة الفرنسيس لما يشهده السائح فيها من السكون والانقطاع إلى الأعمال الشريفة فلا يسفون كأكثر سكان العواصم في الأغلب للمكاسب الدنيئة أو يرضون بأن يكونوا عالة على الحكومة يأخذون رزقهم من خزانتها بالتوظيف والاستخدام.

وياما أبهج ساحة بللكور (الفناء الجميل) يوم الأحد والرجال والنساء والأولاد غادون رائحون فيها لا تقرأ في وجوههم غير الأدب ولا في حركاتهم إلا التربية البيتية العالية والتشبع بالنظام المدني المعقول حتى إذا جن الليل يختلف القوم إلى دور التمثيل وأماكن اللهو والطرب وسماع الخطب والمحاضرات وهكذا ليلهم كنهارهم عمل وراحة واستفادة وإفادة أخذوا بحظ وافر من دنياهم ولم ينسوا تعهد آدابهم. فليون بلد طيب أمين يسكنه المهذبون العاملون.

ولقد كنت كلما وقع نظري في ليون على شارع عظيم أو بناء جسيم تحدثني النفس بسورية فأقول متى يا ترى يكون فيها مثل ما في ليون على الأقل ولو أن عمران ليون وحدها وهي إحدى مدن فرنسا وما فيها من قوة مادية وأدبية وزعت على سورية من عريش مصر إلى الفرات ومن البحر المتوسط إلى أقصى بداية الشام وحدود نجد والحجاز لغدت سورية وهي في مساحتها نحو مساحة فرنسا كلها من حيث عمرانها أرقى مدن المعمورة ولكن الرزق لا يأتي بالتمني والوجود لا ينتفع به إلا من يحسنون استخدام ما فيه من القوى والعناصر.

تحية باريز

9

سلام عليك مرضعة الحكمة. وربيبة الرخاء والنعمة. وروح الانقلابات الاجتماعية والسياسية. وحيية المدنية الأصلية في الأقطار الغربية والشرقية. ومعلمة العالم كيف يكون الخلاص من الظالمين. والضرب على أيدي الرؤساء والنبلاء والمالكين. أنت هذبت طبائع البشر حتى غدوا يشعرون باللطف والذوق وفائدة العلم والعمل. أنت كنت في مقدمة العواصم التي انبعث منها تمجيد العقل بل تأليهه فقضيت بالتقدم له على كل شيء في الوجود. وبالغت في إكرام العقول من أبنائك.

سلام عليك يا عشيقة الإبداع والاختراع. وسابقة الأقران في مضمار الانتفاع بما حوت الرباع والبقاع. استخدمت القوى المادية فأحدت استخدامها. واستثمرت القوى العقلية فأبدعت في استثمارها. وأحييت حضارات الأمم السالفة. وأنشأت لك حضارات لا يزال يحسدك عليها أسبق الشعوب إلى الترقي مهما تقلبت بك الحال. ويجدون في أوضاعك ما ليس يجدونه في أوضاعهم من المرونة والجمال.

سلام عليك يا واضعة حقوق الإنسان وملقحة الأذهان بالتناغي بحب الأوطان والداعية إلى ثل عروش الجبارين والمخربين. أنت لم ترهبك تقاليد أبطال القرون الوسطى. والقدر بل أخذت بالأسباب والمسببات فقتلت من أراد قتلك. ووضعت من لم يهمه رفعك. وكنت للناهضين من الناس خير مثال.

سلام عليك يا معهد المعارف والصناعات بما أنشأتيه من مجامعك العلمية ومدارسك الجامعة والكلية. ومجالسك العامية والخاصية. وجمعياتك ونقاباتك لخدمة المدنية والإنسانية. ودور تمثيلك ومعاهد انسك وسماعك. ومتاحفك وحدائقك ومكاتبك ومعارضك. وكل ما أبدعته أفكار أبنائك وأيديهم ودل على مجد طريف وتالد وتاريخ على جبين الدهر خالد.

سلام عليك يا ملقنة الخلق معنى الإخاء والحرية والمساواة ليتعاشروا بالمعروف ويقوم نظام اجتماعهم على تبادل المنافع حتى لا يبقى تمييز في الحقوق والواجبات بين المختلفين في الموالد والديانات وقطعت التفاضل إلا بالأعمال الصالحة والأحلام الراجحة.

سلام عليك يا متشبعة بأفكار الحكماء ارتضيتيها منهم قانوناً تجرين عليه لسعادتك ولئن حاد بعض أبنائك بعض الشيء عنها فذلك لأن سياسة المنافع والمصالح قد تخالف ناموس الحق والعمل الصالح ولأن نظام بقاء الأنسب لا قلب له والتنازع في جهاد الحياة كثيراً ما يدعو الإنسان إلى ركوب ما تحظره الشرائع الوضعية والسماوية ولا سيما في هذه العصور التي يفصل فيها كل عمل على قالب الماديات وما ذلك إلا ليقر البشر بعجزهم ويعلموا أن الكمال الآن محال ولعله لا يفوتهم في مستقبل القرون والأجيال.

السلام على هذه العاصمة التي أحسنت إلى الشرق فيما مضى فعلمته حتى استمد منها النور فإن قلنا معاشر الشرقيين ولا سيما سكان الشرق الأقرب أنا نأخذ عن المدينة الغربية فإنما نعني المدنية الفرنسوية وبعبارة أصح المدنية التي تنبعث أشعتها من باريز ومن طريقها وبلغتها وأسلوبها تيسر لنا أن نستطلع طلع سائر مدنيات الأرض.

سلام عليك علمت فما أحسن العلم والعمل إذا اجتمعا. وما أحلى الإخلاص والشعور بالواجب.

سلام عليك سننت للغرب سنة التضامن والتكافل. والعطف على البائسين والمساكين. والرفق بالضعفاء والعاجزين. والأخذ بأيدي المقهورين والعاثرين. والانتصار للمظلومين من الآدميين خصوصاً إذا كانوا من طينة أوربية.

سلام عليك أنت العاصمة التي تركت القصور الفخيمة التي عمرت بدماء الأمة مباحة للناس يدخلونها وكانت بورة المظالم والمغارم. ومنبعث الشهوات والأهواء. ولطالما جأرت جوانبها بالدعاء إلى السماء من حيف الكبراء أيام كان يوقع ملوكها وهو على سرير نومه توقيعاً واحداً يترك من الغد مئة ألف أسرة في هذه البلاد تبيت جائعة عريانة ليعمر بما يجمع قصراً له أو يدفعه لمحبوبته صبرة واحدة فلما أضناك الظلم والعنت قمت تجعلين من تلك القصور الفاسقة متاحف عامة ومن دور الظلم والظلمات مجالس عدل وعلم ونور.

سلام عليك خلدت أعمال من خلفوا لك هذه المدنية وأقمت تماثيلهم ونصبهم موقع الاحترام والإعظام وتوفرت على تكرير أسمائهم على المسامع كل يوم ألوف الألوف من المرات لتجعليهم مهمازاً لمن يأتي بعدهم من الأبناء والأحفاد.

سلام عليك يا بلد ديكارت وكونت وروسو وفولتير وديدرو وسيمون ومونتسكيو وهوغو وباسكال ورنان ومئات أضرابهم ممن بذلوا حياتهم في حسن خدمتك فلم تنس أفضالهم عليك بعد مماتهم.

أنت إن خجلت من ذكرى الحروب الصليبية وديوان التفتيش الديني ومذبحة القديس برتلماوس ومقتل الفيلسوف فيفاتي وجنون نابليون وغير ذلك من الأعمال البربرية في عصور الظلمة فإن سكانك يفاخرون وحق لهم الفخر بأنهم أحفاد ثورة سنة 1789 قاموا من الأعمال المشكورة في عصور النور ما ينسي الماضي إلا أقله. إن الحسنات يذهبن السيئات.

السلام عليك باريز أجمل عواصم العالم وأغنى البلاد ببدائعها الطبيعية والصناعية وأجمعها لمرافق الراحة والرفاهية. لست أنت اليوم عاصمة مئة مليون من البشر أربعون في أرضك وستون في المستعمرات بل أنت بما فيك من المزايا عاصمة معظم الخافقين لأسباب هنائك وصفائك ونعيمك ونعائمك وتفردك من بين العواصم بسلامة الذوق وسلامة الإبداع ووفرة العلماء والباحثين والكاتبين والشاعرين والقصصيين. فكل شيء في باريز مبذول حتى لتعافه النفوس من أقصى ما يتصور الفكر من الفضيلة إلى آخر ما يجول في خاطر أو يحوم حوله خيال.

فباريز ولا مراء جنة أرضية جمع فيها موجدوها - استغفر الله_ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

باريز بعد الغروب

10

إن فاخرت باريز بمعارضها التي أقامتها في أوقات مختلفة لتلفت إليها الأنظار وتستفيد الفخار والنضار فإن لها كل ليلة معارض لا تختلف عن السابقة إلا في كون البقعة التي تقوم عليها هذه أوسع مجالاً وأكثر جمالاً.

يصرف الباريزيون أو معظمهم نهارهم في الاستعداد لليلهم وكثيرون لا يعملون إلا في الليل ويصرفون النهار في جمع قواهم وادخار أحسن ما عندهم لما بعد الشفق فهم لا يجعلون الليل لباسا والنهار معاشاً كما هي عادة معظم الأمم بل أن الحركة عندهم تبدأ قبيل الظهر بطيئة ولا تزال تنمو حتى تغيب الشمس وتطلع بدلها شموس وأقمار.

ترى المدينة في النهار عابسة مظلمة على كثرة جاداتها الكبرى وشوارعها المغروسة على جانبيها بالأشجار غالباً وطرقها وأزقتها وساحاتها العامة وفي هذه الأماكن تشهد مجالي الحسن والإحسان وما تفننت في إبداعه العوامل وتلطفت في روائه الأفكار والأنامل.

على تلك الأرصفة تناجي النفس رب النجوى قائلة اللهم هل خلقت باريز من معدن اللطف والظرف لتكون مثالاً من جنة أرضية فخصصت أهلها بالاستمتاع بنعمة الجمال حتى لكأنك شطرته شطرين شطر وقفته على الباريزيات وشطر وزعته على سائر بنات حواء.

إن امتاز الفرنسيس بالإبداع في الصناعات فقد امتازوا أيضاً بنضرة الوجوه. وإلى باريز تحمل هذه الأمة ولا سيما في فصل الشتاء أفضل ما عندها من مجالي الكمال والجمال أيام تكون أم هذه القرى مقصد السائحين والمتجرين والطالبين والعالمين والسياسيين والخاطبين وتغص دواوينها وإداراتها وتلتئم مجالسها العلمية والسياسية والاجتماعية.

ويزيد الوجوه بهجة في باريز تفنن القوم في الأزياء وتغاليهم في التبرج والزينة تغالياً مهما تقدم عند غيرهم لا يزالون مصدره ومورده وأساتذته وسدنته. ومظاهر الأزياء تتجلى في باريز بعد الغروب على الجادات والشوارع والطرق والساحات وفي المركبات والسيارات وحوافل الخيل والكهرباء والسكك الحديدية فوق الأرض وتحتها وفي دور التمثيل ومسارح اللهو والطرب وحال الفرج والحانات والقهوات والمطاعم والفنادق ويزيدها فتنة للناظرين ما اعتاده الباريزيات إلا من عصم ربي من إبداء زينتهن لغير المحارم أكثر من إبدائها لبعولهن وذوي قرباهن ورنين أصواتهن في الكلام رنيناً تحسبه من مزامير داود وتستطيبه أكثر من تغريد العندليب وهناك الفتنة بعينها والفتنة أشد من القتل ونعوذ به تعالى من فتنة القلب وفتنة العين.

ولعل هذه المجالي في الحرية المفرطة حملت الكثير من الغرباء على نزول باريز ليشهدوا فيها مالا يشهدونه في غيرها وتربح منهم الليرات بالملايين والكرات عملاً بما قاله أحد ملوك بروسيا وقد قيل له ليس من اللائق أن تضرب ضريبة على محال الاطمئنان في الشوارع فقال الغاية تبرر الوسيلة فما دامت الغاية الكسب فلا بأس من الاحتيال لنيله ومن أجل هذا تظهر باريز بعد الغروب أقصى الفضيلة وأقصى الرذيلة والناس معهما وما يختارون.

بعد الغروب تعمر في باريز أندية الخطابة والمحاضرة والعلم وتلقى فيها من الفوائد ما يبلغ الأذهان عفواً وصفواً ويفيض معين البيان ويبدو حذق يد الإنسان ويسعى العالم إلى تعليم الجاهل في ساعة ما تعب في إحضاره الأيام والأعوام فمائدة الخطب والمحاضرات معروضة. ودروس الفضائل عامة مورودة.

بعد الغروب يعمل معظم الكاتبين كتبهم والشاعرين أشعارهم والمؤلفين مؤلفاتهم والمخترعين اختراعاتهم والصانعين كأن الأفكار لا تنطلق من عقالها والأيدي لا تحذق أعمالها إلا عندما ترقد عيون البشر أو كأن الزهرة ربة الجمال لا تحب أن تملي على من هم أحوج الناس إلى طلعتها إلا من الليل ككوكب الزهرة لا يبدو في مطلع الأفلاك إلا مع الدجى. ولذا يحرص أهل باريز أن يجعلوها بعد غروب الشمس مجمع الأنس وريحانة النفس.

وكأن الباريزيين وهم العارفون بتقسيم الأعمال عزَّ عليهم أن تمضي ساعة في بلدهم ينقطع فيها العاملون عن أعمالهم فخصوا النهار ببعض الصناع والتجار والعملة والعاملات والليل بالمفكرين والمفكرات والمؤنسين والمؤنسات والمغنين والمغنيات والممثلين والممثلات. . . . . حتى لا تنقطع حركة ولا يقف دولاب عمل وكان بذلك الحظ الأوفر للغرباء فلا يدخل على الغريب ملل من تغير المشاهد ولا يفتأ من الفجر إلى الفجر إن أحب يستمتع بالمشاهد العجيبة ويتعلم ويأنس ويتنزه.

يقول الباريزيون أن بلدهم مبارك على الغريب أكثر منه عليهم وأنهم مضطرون أن يواصلوا السير بالسرى ويكدحون الليل والنهار ولكن هذا قول من ملك شيئاً فزهد فيه والروح ترتاح إلى التنقل أما الشرقي الذي يرى أهل باريز ويغبطهم على أكثر ما دبروه لراحتهم ورفاهيتهم فإنه يعجب لمن يساكنهم زمناً كيف ترضى نفسه أن يختار عن باريز بلداً كما يعجب لأهلها كيف لا يأسفون على مفارقة الحياة أضعاف أضعاف ما يأسف غيرهم عليها ومن قال بأن دواعي الراحة تطيل حبال الآجال يستعظم على أهل باريز لمَ لم يعمروا أكثر من عامة الخلق وعندهم النعيم المقيم والخير العميم.