مجلة المقتبس/العدد 43/غرائب الغرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 43/غرائب الغرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1909


الرحيل من دمشق إلى لبنان

1

كان من أعظم أماني النفس منذ بضع سنين أن أرحل إلى أوربا رحلة علمية أقضي فيها ردحاً من الدهر للتوفر عَلَى دراسة حضارة الغرب في منبعثها واستطلاع طلع المعاهد التي نشأ المخترعون والمكتشفون والفلاسفة المنزهون والعلماء العاملون والساسة المستعمرون والقادة الغازون والتجار والصناع والزراع والماليون وهم على التحقيق مادة تلك المدنية وهيولاها.

وكانت الأحوال تعوق هذا القصد عن إتمامه وتحول دون البغية المنشودة إلى أن قدر الله فأقام والي سورية السابق تلك القضية الملفقة على جريدة المقتبس واحتال انتقاماً لنفسه لأقفال المطبعة وتوقيف الجريدة والمجلة قبل صدور حكم المحكمة عليَّ فقلت الآن حان وقت الرحلة في طلب العلم نتفرغ لتحقيق ما في الخاطر ريثما يتبين الحق من الباطل من العاطل وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.

في الهزيع الأخير من ليل الثلاثين من رمضان (1327) ركبت من دمشق عربة مع صديقين عزيزين قاصدين قرية القابون وفي ظاهرها وقفنا لحظات إلى أن وصلت فرسي ووصل صديقٌ لي راكباً فرسه فركبنا وعاد ذانك الحبيبان إلى المدينة. وكان بدأ في تلك الساعة الإشراق في الأفق والسكون لم يبرح مستحوذاً على الأرباض والرياض ولم نكن نسمع من بعيد غير قعقعة أجراس الطحانين والمكارين وصياح الديكة أو عواء الكلاب وما كدت أعلو متن مطيتي حتى ترامى إلى مسمعي صوت مؤذن القابون ينادي هلموا إلى طاعة الله يرحمنا ويرحمكم الله فقلت كلمة حق لو جرى العمل بالطاعة وما يلزم لها لرحموا ولكنها جمل جميلة تقال ومعان شريفة لا يعمل بها وعادات ألفت بمعزل فيها من الأسرار النافعة في صلاح المعاش والمعاد.

التفت إلى الغوطة الدمشقية التفاتة أخيرة وهي أحب بقعة إلى قلبي في الأرض وقد كثر في أفقها شفق الفجر فذكرت طرفاً من أيامها البيض والسود. ذكرت الغوطة المحبوبة وذكرت مطامع البشر وانحطاط أخلاقهم وعقولهم فقاد ذلك إلى التفكر في شقاء الإنسان بالإنسان وموت بعض لحياة كلّ وافتقار مئات لإغناء أفراد وشقاء ربوات لسعادة عشرات وتعب فريق لراحة أمة فتمثل لي عجيب صنع المولى في خلقه سبحانه لا يبقى العالم عَلَى حال هو المعز المذل القابض الباسط المغني المفقر يقلب الأرض ومن عليها ولا يرثها إلا عباده الصالحون.

سارت بنا مطيتانا فاجتزنا قرية برزة ومعربا ولم تشرق الشمس إلا وقد قطعنا أراضي معربا وأشرفنا على أكماتها فالتفتنا إلى ما وراءها وقد تحلت لنا بعض بقاع الغوطة والمرج من خلف الجبال فألقينا عليها نظرة الوداع وأغذذنا السير إلى بسيمة ومنها إلى دير مقرن فكفير الزيت فدير قانون فكفر العواميد وفي هذه القرية بتنا ليلة عيد الفطر.

ولم أشهد هذا الوادي وكنت مررت به راكباً منذ ستة عشر عاماً شيئاً من التغير والإرتقاء المحسوس فالفلاح فيه لا يزال ينتظر موسم الفاكهة إن سلمت أشجاره من لفحات الجليد يرتاش تلك السنة ويعتاش برمانه وجوزه وتفاحه وكمثراه وتينه وعنبه وإلا فيضطر في الأكثر إلى الاستدانة عَلَى الموسم المقبل وإن كان على شيء من القوة والجلد يرحل إلى بعض الكور المجاورة كقرى وادي العجم أو الغوطة يعمل فيها أشهر الصيف ليأتي في الشتاء بمؤونة تكفيه من الحنطة في كنه وكانونه.

نوذلك لأن هذا الوادي منذ قرية دمر حتى سوق وادي بردى لا يغل من الحبوب ما يسد عوز سكانه بعض السنة لغلبة اليبوسة على جروده وجباله ولأن أكثر تربته صخرية تحتاج للعمل الكثير على الطرق الزراعية الحديثة لتأتي أكلها. أما الأشجار وبعض الخضر والبقول التي ينتفع بها الفلاح هنا فالفضل لنهر بردى في إروائها يأخذ من مائه في مجار يعليها بقدر حاجته أو أكثر.

ولقد أخذت أثمان الفواكه تأتي بأرباح أكثر من السنين السابقة خصوصاً منذ استثمار السكك الحديدية في سورية كسكة بيروت_دمشق_حوران وسكة دمشق_حيفا_المدينة وسكة دمشق_حلب_بيره جك 0 (البيرة) فأصبحت ثمارهم تصدر إلى الجهات القاصية وكانوا يقدمون أكثرها في سني الخير علفاً للدواب أو يلقونها في الطريق لأن العطلة في نقلها من محلها إلى دمشق أو بيروت مثلاً على الدواب لا تقوم بأجرة المكار ودابته.

نعم لم أر ارتقاء محسوساً في حالة فلاح وادي بردى وأني يتم له ارتقاء وليس له طريق يسلك غير ما حفرته أقدام المارة وحوافر الدواب والماشية وجرفته السيول والرياح منذ قرون. فالطرق المعبَّدة المطروقة لا أثر لها في هذا الوادي ولعل ذلك ناشيء من كونه حديث عهد بالحكومة المنظمة فقد كانت معظم قراه من قبل تابعة لأقضية بعيدة أما الآن بعد أن غدا من مركز قضاء الزبداني على بضع ساعات فقد بات يرجى بفضل قائم مقامه الغيور أن تنظم لأهل قضاء الزبداني طرق غير طريق السكة الحديدية تصل بين قراهم وبين دمشق حاضرة الولاية ليتيسر للناس الغدو والرواح من أيسر السبل. وما أخال ذلك معتذراً على الحاكم إذا حث أهل كل قرية أن يقوموا بأنفسهم لتمهيد طريقهم أيام انقطاعهم عن العمل كفصل الشتاء مثلاً لما يعرفون من الفوائد التي تنجم لهم عنها أو يعلمونها بواسطة الموظفين الأمناء وإن كانت هذه الطريقة لا تخلو من محظور لأنها تؤدي إلى السخرة والسخرة ممنوعة بنص القانون الأساسي. وتمهيد الطرق وبث الأمن من جملة الفروض العينية عَلَى كل حكومة.

وبعد فإنه لا وجود في وادي بردى لسائر المرافق التي يتمتع بها الفلاح في البلاد المتمدنة وذلك لأن الحكومة الاستبدادية الماضية لم يهمها من الفلاح إلا أن تأخذ منه لا أن تهيئ له سبيل الأخذ. فكان قصاراها تكثير الجباية وتوفير الضرائب وأخذ من تريده للخدمة العسكرية أما أمتاع الآهلين بالوسائل الحصية وتعليمهم الطرق الزراعية القريبة المأخذ وفتح سبل الواصلات ورفع علم الأمن وتعليمهم الضروري من القراءة والكتابة فكانت أموراً لا تعرفها لا في وادي بردى فقط بل في جميع أودية البلاد العثمانية وسهولها وجبالها.

ومن أغرب ما رأيناه في وادي بردى أن بعض قراها تحفر القبور لموتاها أما الدور فترى حي الأحياء مع حي الأموات وما أدري هل يأتون ذلك بالقصد حرصاً على رفات موتاهم من أن تسطو عليها الوحوش الكاسرة في مدافنها إذا لحدوها بعيدة عن العمران ولو بضع خطوات أو أنهم يؤثرون دفن الموتى أما أعينهم ليذكروا كل شارقة وبارقة مصير الإنسان إلى دار البقاء ويزهدوا في دار الفناء فلا يهتمون بأسباب الهناء والصفاء.

ومما عمت به البلوى في الفلاحين أنك ترى القاذورات أيضاً تعمي العيون وتخنق الأنفاس فترى روث البهائم وغائط الآدميين وسط الدور وخلفها وقدامها وعن ايمانها وشمائلها.

ولولا بقية من عادة النظافة والتطهر ورثها المسلمون بالتسلسل عن آبائهم وشيء من جودة الهواء في الجملة في القرى لما بقيت باقية لسكان هذا الإقليم ومن حوله.

ركبت صبيحة العيد ورفيقي قاصدين سوق وادي بردى ولعلها سميت كذلك لسوق كانت تقام فيما مضى للبيع والشراء على العادة في أسواقنا الباقية حتى الآن فيقال مثلاً سوق الأحد وسوق الجمعة وسوق الخيل وسوق الحمير. ولهذه الأسواق أمثال في أوربا. وبالقرب من السوق تضيق فوهة الوادي وينقطع العمران ليخرج منه إلى منفسح وادي الزبداني. وجبال السوق لا تخلو من نواويس قديمة على نحو ما تجد منها في جبال الشام محفورة في الغالب في القمم والآكام.

ومن السوق انتهى بنا نفس السير إلى قرية عيت الفخار من أعمال البقاع العزيز وهي القرية التي اشتهرت منذ عهد بعيد بفخارها الذي تطبخه أكثر بيوتها في تنانير خاصة وتبيعه في المدن الداخلية من أعمال دمشق.

وقد شعرنا بتغير المشاهد منذ أطللنا عَلَى عيتا ورأينا بيوت القرميد التي بنيت بالحجر النحيت على المثال الذي نشاهده في أكثر بيوت سورية.

وعلمنا أن سبب ما شاهدناه من جمال المساكن في عيتا تلك الأموال التي جلبها بعض سكانها من هجرتهم إلى أميركا وأحبوا حتى من لا تحدثهم أنفسهم بالسكنى ثانية في عيتا أن يظهروا غناهم بإنشاء الدور المنظمة ليصح عليهم المثل العربي أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها إن الغني طويل الذيل مياس أو الأثر المشهور إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده وليس كالبيوت تنم عن يسار وتدل على سعة. وبعد عيتا مررنا بكامد اللوز فجب جنين فلالا فبعلول من وادي البقاع وفي هذه القرية بتنا عند رجل من أهلها أنزلنا عنده وأكرمنا ولم يعرفنا ومع حرصه على معرفتنا اكتفينا من التعريف بالتعريض وفي المعاريض مندوحة عن الكذب.

وقد سرت إلى هذه القرية وإلى جميع قرى البقاع عدوى الهجرة وتناول الاغتراب السكان عَلَى اختلاف نحلهم ومن حديث كثير من البقاعيين تبين أن أهل كل قرية في الغالب يؤثرون في بلاد المهجر إقليماً خاصاً لهم ينزلونه أو مملكة يوجهون وجهتهم إليها فيقصد مثلاً أهل قرية كذا ولاية كذا من شمالي أميركا وأهل القرية الفلانية يقصدون جمهوريات الجنوب وآخرون ينزلون كندا وغيرهم اوستراليا وفريق السنيغال فكأن عدوى الانتقال تسري إليهم بالعشرة فلا يحب المواطن إلا أن يقلد مواطنه في مآتيه ومنازعه بل في شقائه وسعادته. وقد اذكرنا هذا بحال العرب في الفتح وبعده فكان القيسيون ينزلون بلد كذا واليمانيون إقليم كذا ثم لما امتدت الفتوحات وفتحوا الأندلس كان جند الشام يختار بقعة غير التي اختارها جند حمص ولذلك كان الجند يدعون كل بلد ينزلونه باسم بلدهم الأول كما يحاول بعض مهاجرة السوريين الآن ذلك في الولايات المتحدة.

وفي اليوم الثالث قصدنا مشغرة فمررنا بجسرها المخرب الممتد على نهر الليطاني وانجدنا قاصدين جزين أول حدود لبنان إلى الجنوب. ومشغرة أقصى بلد عامر بالزراعة والصناعة في البقاع الغربي وهي مشهورة إلى الآن بدبغ الجلود للأحذية اشتهار مدينة زحلة أو أكثر والمسافة بين مشغرة من أعمال ولاية سورية وحزين من متصرفية لبنان ثلاث ساعات تعلو قمة عالية ثم تنحدر في واد عميق.

ومع أن قضاء البقاع من أعمر أقضية ولاية سورية بزراعته لخصب تربته وتوفر المياه الدافقة عليه من سفوح لبنان الغربي ولبنان الشرقي ومتاخمته لجبل لبنان الذي يحتاج لكل ما تنبته أرض البقاع من الحبوب والثمار ومع كثرة الأعيان الذين يملكون فيه المزارع والأراضي الواسعة ومنهم من أنشأ فيه حقولاً انموذجية حقيقية وصرفوا عليها الأموال الطائلة واستخدموا لها أحدث الطرق الزراعية كالأراضي التي عمرها نجيب بك سرسق في عميق ودير طحنيش وأقامها الآباء اليسوعيون في تعنايل - مع كل هذا العمران المستبحر وما تأخذه النافعة من أموال الآهلين كل سنة باسم الطرق والمعابر لا ترى في القضاء طريقاً مسلوكاً اللهم إلا طريق الشام القديم الذي تركته شركة الديليجانس لما أنشئ خط بيروت الحديدي. وقيل لنا أن الحكومة صح عزمها مؤخراً على إنشاء طريق عجلات بين المعلقة مركز القضاء وبين مشغرة في غربه وأن الطريق وصل أو كاد إلى قرية عيتنيت ولعله جسماً لا أسماً كأكثر الطرق التي أنشأها النافعة في الولايات فكانت لفظاً بلا معنى واسماً بلا مسمى لم ينشأ عنها إلا التعجيل في سلب نعمة الفلاح وخراب بيته باسم العمران وخدمة الأوطان.

وصف لبنان الطبيعي 2

كنت في لبنان أشبه بأبي زيد السروجي أو أبي الفتح الأسكندري احتاج إلى رواية مثل الحارث بن همام أو عيسى بن هشام يروي كلٌ منهما لمثل الحريري أو بديع الزمان تلك المظاهر التي اضطرت إلى الظهور فيها لانجو من مخالب عدو ممازق أو جاسوس مخادع وليتيسر لي درس حالة البلاد بدون حجاب.

فقد قيل اكتم ذهابك ومذهبك وذهبك ولكن القاعدة لا يرضاها منك اللبنانيون الأذكياء فتجدهم يحرصون كل الحرص عَلَى استطلاع طلع كل مصطاف بينهم أو سائح في جبالهم والوقوف عَلَى مقصده ومبلغ ثروته والدين الذي يدين به. وربما كان سؤالهم عن الأخير قبل كل شيء لأن عامتهم متدينون جداً فهم يسرون إذا شعروا أنهم يتعارفون إلى رجل يشاكلهم في المعتقد. وأنيَّ لمن قضى عليه شدة إخلاصه في خدمة وطنه ودولته أن يصرح لهم بهويته وهو مشرّد طريد محكوم عليه بالجناية حكماً قره قوشياً!

ودعني رفيقي غداة وصلنا إلى جزين وعاد إلى الفيحاء وبقيت وحدي لا ريق لي إلا كتابي وفرسي. فانقلبت لساعتي من جزين قاصداً دير القمر فاجتزت إليها تاتر وعماطور والمختارة وغيرها والطريق بين هذه القرى القديمة عامرة من وراء الغابة تمشي فيه وسط أشجار الزيتون وهي غابات غبياء في الشوف كما أن أشجار الصنوبر كذلك في قضاء المتن. ودير القمر هو مركز الجبل القديم وصلت إليه قبيل الغروب وقد بدت القصبة بأبنيتها الشاهقة كالعروس في حليها وعكست شمس الأصيل على زجاج نوافذها وسطوحها فاختلطت الحمرة بالصفرة بالخضرة بالزرقة فكان أجمل منظر تقع عليه عين إنسان. وأهل الدير كمعظم سكان الجبل موصوفون بالرقة وحسن العشرة يتحببون إلى الغريب كيف كانت حاله. وفي هذه القصبة إلى اليوم جامع قديم من القرن العاشر بناه أحد أمراء لبنان ولا يزال الديريون يحرصون على سلامته فيتعهدونه بالعمارة وإن لم يكن له من يقيم فيه الصلاة.

وقصبة الدير بكثرة سكانها وتوفر مرافق الحياة فيها أشبه بالمدن منها بالقرى وهي مشهورة بتجارة الحنطة تحمل إليها من حوران فتوزع في الأطراف. وليس دير القمر وحيداً في نوعه باكتظاظ الأقدام فيه فمدينة زحلة لا يقل سكانها عن خمسة وعشرين ألف نسمة وأوصل بعضهم نفوسها إلى خمسة وثلاثين. وتكثر النفوس في حمانا ورأس المتن وبرمانا وبيت مري وبعبدات وبيت شباب وبكفيا وبسكنتا وبعبدا والشوير وحصرون والشويفات وحدث الجبة وبعقلين ومجد المعوش وعالية ومعلقة الدامور وجزين وجبيل واهمج وتنورين وعمشيت وغزير وجونية وكفر ذبيان والبترون واهدن والهرمل وأميون وزغرتا وكوسبا وفي غير ذلك من القصبات التي يعد فيها النفوس بالألوف والمئات.

والقرى والمزارع متصلة خصوصاً في المحال التي ترتفع كثيراً عن سطح البحر ولا يتعذر العيش فيها في الشتاء لكثرة ثلجها وبردها وجليدها وأعاصيرها وما أشبه لبنان وقراه ومزارعه لا تقل عن تسعمائة وستة وخمسين قرية (1) إلا بقصر فخيم جميل واسع الأرجاء محفوف من أطرافه بالرياحين والأزاهير العطرية وغرفه الكثيرة تلك الدساكر والضياع لا يكاد المتجول يمل من مقصورة حتى ينتقل إلى أخرى وما أسرع وصوله إليها من تلك الطرق المعبَّدة وهذا القصر مزدانة أفنيته وأروقته بأقصى ما تخص به يد الصانع من بدائع الزينة ويد المخلوق لم تقصر كثيراً في تعهده.

معنى لبنان الأبيض وهو اسم عبراني سمي به لتعمم قممه بالثلج في الشتاء والربيع وبعض الصيف. وقد ورد ذكره في الشعر القديم فقال النابغة الذبياتي:

حتى غدا مثل نصل السيف منصلتاً ... يقرو الأماعز من لبنان والأكما

وقال أحمد بن الحسين بن حيدرة المعروف بابن الخراساني الطرابلسي من المحدثين:

دعوني لقاً في الحرب أطفو وأرسب ... ولا تنسبوني فالقواضب تنسب

وإن جهلت جهال قومي فضائلي ... فقد عرفت فضلي معدُّ ويعرب

ولا تعتبوني إذ خرجت مغاضباً ... فمن بعض ما بي ساحل الشام يغضب

وكيف التذاذي ماَء دجلة معرقاً ... وأمواه لبنان ألذُّ وأعذب

فمالي وللأيام لا درَّ درُّها ... تشرّق بي طوراً وطوراً تغرّب

وأنشد المتنبي في مدح أبي هرون بن عبد العزيز الأوراجي في قصيدة:

بيني وبين أبي علي مثله ... شمُّ الجبال ومثلهن رجاءُ

وعقاب لبنان وكيف يقطعها ... وهو الشتاءُ وصيفهن شتاءُ

وقال البحتري: وتعمدت أن تظلَّ ركابي ... بين لبنان طلعاً والسنين

مشرفات عَلَى دمشق وقد اء ... رض منها بياض تلك القصور

وقال الجغرافي اليزه ركلو من المتأخرين يصف (1) لبنان: إذا ما ألقيت ببصرك من البحر إلى سلسلة لبنان المستطيلة رأيت من هذا الجبل منظراً مهيباً فيلوح لك أزرق أو وردياً في الصيف ومشتملاً في الشتاء والربيع بجلباب ثلجه الفضي وإذا تصاعدت الأبخرة في الجو ألبست قممه الشامخة ثوباً شفافاً هوائياً غاية في اللطف بيد أن جمال هذا المنظر لا يخلو من سطوة الشدة فترى ذاك الجبار يتمطى بضلوعه الشديدة وينطح برأسه الشامخ لا يقوم في وجهه قائم عَلَى أن النظر إلى محاسن هذا الجبل عن كثب هي دون جماله عن بعد فترى ظهره عَلَى طول 150 كيلو متراً أقهب أجرد لا تكسوه الخضرة. أوديته متشابهة ومشارفه كأنها قدت عَلَى قالب واحد.

وقال الأب لامنس: إن لبنان أشبه بجدار عظيم من الصخور وجهته من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي وفي الجهة الشرقية تراه ينقطع بغتة أما من جهة الغرب فهو يتفرع فروعاً متعددة عَلَى هيئات شتى من آكام وبطون وسهول وربى متسلسلة يدخل بعضها في بعض وإذا استثنيت هذه التفرعات الثانوية والتجعدات المنتسقة تحققت أن سلسلة لبنان العظمى قد وضعها الخالق على صورة نظامية وجانب كبير من البساطة ولذلك قلما نرى في لبنان تلك المناظر المتباينة التي تقر بها العين وإنما يقع البصر على حاجز كبير في حدود الأفق يتواصل على خط مستقيم لا تكاد قممه العليا تمتاز عن بقية أقسامه. ووصف شكله أيضاً فقال: ومن تفرع الجبل من الجنوب إلى الشمال وجده يتزايد علواً وكذلك يتسع عرضاً ولو تأمل الناظر من علو الجو عرض لبنان بين صيدا ومشغرة لوجده يزيد عن 29 كيلو متراً وهو يبلغ بين بيروت وقب الياس 31 كيلومتراً ومعظم اتساعه بين طرابلس والهرمل 46 كيلومتراً فيكون لبنان على كل ذا شكل مربع منفرج عن زاويتيه العلويتين اه.

ولقد قدروا مساحة لبنان بثلاثة آلاف وخمسمائة كيلو متر يحده جنوباً صيداء وأعمالها وشمالاً طرابلس وكورتها وشرقاً ولاية سورية وغرباً البحر المتوسط ومدينة بيروت. هذا هو حده الجديد وهو المعروف بلبنان الغربي والأصل في التسمية. ويطلقون اسم لبنان الشرقي على وادي التيم وجبل الشيخ (حرمون) أي على قضاءي حاصبيا وراشيا وما إليهما والبقاع فاصل بين اللبنانين. وحدَّه القدماء فقالوا: (1) أنه جبل مطل على حمص يجيء من العرج الذي بين مكة والمدينة حتى يتصل بالشام فما كان بفلسطين فهو جبل الحمل وما كان بالأردن فهو جبل الجليل وبدمشق سنير وبحلب وحماة وحمص لبنان ويتصل بأنطاكية والمصيصة فيسمى هناك اللكام ثم يمتد إلى ملطية وسميساط وقاليقلا إلى بحر الخزر فيسمى هناك القبق قال وفي لبنان سبعون لساناً لا يعرف كل قوم لسان الآخرين إلا بترجمان وفيه من جميع الفواكه والزروع ممن غير أن يزرعها أحد وفيه يكون الأبدال من الصالحين. وقال القلقشندي ثم يمتد لبنان إلى الشمال ويجاور دمشق وإذا صار في شماليها سمي جبل سنير.

وعلى ذكر الصالحين نقول أن لبنان مشهور منذ القديم بانقطاع الناس إلى العبادة فيه قال ابن جبير في كلامه على العلم والمتعلمين في الشام في القرن السادس للهجرة ما نصه: وكل من وقفه الله بهذه الجهات من الغرباء للانفراد يلتزم أن أحب ضيعة ويلتزم الإمامة أو التعليم أو ما شاء ومتى سئم المقام خرج إلى ضيعة أخرى أو يصعد إلى جبل لبنان أو إلى جبل الجودي فيلقى بها المريدين المنقطعين إلى الله عز وجل فيقيم معهم ما شاء وينصرف إلى حيث شاء. ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به أحد المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم ويقولون هؤلاء ممن انقطع إلى الله عز وجل فيجب مشاركتهم وهذا الجبل من أخصب جبال الدنيا فيه أنواع الفواكه وفيه المياه المطردة والظلال الوارفة وقل ما يخلو من التبتل والعبادة. وقال ابن بطوطة في القرن الثامن: إن جبل لبنان من أخصب جبال الدنيا فيه أصناف الفواكه ولا يخلو من المنقطعين إلى الله تعالى والزهاد والصالحين وهو شهير بذلك ورأيت فيه جماعة من الصالحين قد انقطعوا إلى الله تعالى ممن لم يشتهر أسمه.

قلنا ولذلك نرى المعروف اليوم بالإحصاء أن في لبنان نحو ألفي راهب وراهبة لهم 118 ديراً ما عدا الكنائس والبيع والصوامع التي لا تخلو قرية عن واحدة أو عدة منها ولا يقل دخل الرهبنات والأديار فيه عن مئة وخمسين ألف ليرة في السنة كما أكد بعض العارفين. وهو نحو ثلث أيراد لبنان بأسره. وفيه المحابس التي ينقطع فيها النسك بعض الرهبان فيقيمون في مغارة أو مكان منفرد يتعبدون في الخلاء. زرت أحدهم في مديرية القاطع فرأيته متوفراً على كرم له هناك حتى جاد وأخصب يعمل فيه بيده ولا يكاد يأكل منه متى نضج ويصرف شطراً من وقته في النسك والصلاة. ولو قام كل امرئٍ بالواجب عليه فسعى للمعاش سعي هذا الحبيس وعبد الله وخافه لارتفعت الشرور من البشر وقل احتياجنا للحكومات وقوانينها. وهذه المحابس (1) قديمة في لبنان ترد إلى عهد هيلاريون الناسك أو قبله وفي عدلون بين صيدا وصور عَلَى مقربة من صرفند عند الجسر صخر عال حفر فيه نحو مائتي كهف اتخذها الرهبان مساكن لهم.

وبالنظر لتوسط لبنان من سورية كان نافعاً بعمرانه لها بطبيعته فكأن علو قممه - وأعلاها ظهر القضيب علوه 3063 متراً ثم في الوسط جبل صنين وعلوه 2806 متراً وأعلى نقطة في جبل الشيخ 2860 متراً_وتكاثر ضبابه وكثرة أشجاره وقربه من البحر كلها داعية إلى كثرة الثلوج والأمطار فيه فيتكون من عصاراتها ومسايلها أنهار ذات شأن عظيم في عمران الشام

فمن سفوح لبنان تنبجس أعظم أنهار سورية فنهر العاصي الذي يروي أراضي وادي حمص وحماة وأنطاكية ينبجس من الهرمل في شمال لبنان ونهر الليطاني الذي يروي بلاد صيداء وصور وتنتفع به بعض بلاد البقاع ينبع من لبنان ونهر طرابلس المسمى بنهر أبي علي ويعرف قديماً بقاديشا يخرج من سفح لبنان ونهرا الكلب وبيروت اللذان يسقيان مدينة بيروت وضاحيتها ينبجسان من السفح الغربي من لبنان ونهر البردوني الذي يسقي زحلة وبعض البقاع هو لبناني المنبع أيضاً. ومن لبنان الشرقي ينبجس الأردن الشريعة كما ينبجس من غرب لبنان الغربي نهر إبراهيم.

فلبنان في فائدته لسورية أشبه بجبال الألب في سويسرا أو بنيل مصر من حيث امتداد المنافع. وللألب والنيل المثل الأعلى. وفي لبنان عدة ينابيع منها نبع الأربعين ونبع صنين وبلقيع واللبن والعسل والباروك وعين زحلتا وقد زرت هاتين الأخيرتين.

وصلنا إلى الباروك في زهاء ساعتين من دبر القمر مارين ببيت الدين مركز مصرفية لبنان الصيفي وكفر نبرخ وبعض المزارع وقرية الباروك في واد منفرج قليلاً تنبع عينها عَلَى قيد غلوة منها أما المصطافون فيها فيختارون في الغالب النزول بالقرب من رأس العين في نزل هناك أو خيام لهم يضربونها وسط الحراج المبثوثة على آكام الباروك وجبالها فيوفر لهم بذلك إلى جودة الماء التي ما بعدها جودة فيما أظن - طيب الهواء ونسيم الأرز والصنوبر العليل البليل. ومن الباروك إلى عين زحلتا ساعة على الراكب وفي هذه القرية فنادق حسنة لكثرة ورود المصطافين إليها للتمتع بنبع الصفا وقاع الريم اللذين ينبعان في ظاهرها ولتسريح عيونهم بجمال موقعها وخصب واديها وحراجه الغبياء. وعين الباروك وعين زحلتا على مساماة واحدة في العلو وماؤهما يكاد يكون متشابهاً والطريق من عين زحلتا إلى عين صوفر ماراً بطريق السكة الحديدية نحو ساعتين ونصف في العربة أو على الراكب وهذه العيون ينتفع بها كلها في سقي الحدائق في القرى البعيدة والقريبة.

ومن صوفر قصدت حمانا وقرنابيل فصليما فعبدات فبحنس فبكفيا فبيت شباب فالشاوية فالفريكة. وهنا قضيت مع صديقي الابرامين أفندي ريحاني الكاتب الشاعر المفكر الشهير أياماً رائقة ريثما ركبت البحر من بيروت قاصداً القطر المصري فأوربا. هذا وقد كان سبق لي منذ سنين أن زرت بعض قرى كسروان والبترون وزحلة فأكون هذه المرة بما خبرته من حال هذه الأقضية الثلاثة الأخرى وهي جزين والشوف والمتن خليقاً بأن أتكلم على الجبل خصوصاً ولم ينقصني منه إلا قضاء الكورة فقط.

نبذة في تاريخ لبنان

3

لم يخرج لبنان في دور من أدواره عن كونه معقلاً حصيناً كل من ساده يكون في الأعمم من حالاته إلى الشدة والمضاء يتعب من يسودهم وقد يتعب به جيرانه من أهل البلدان الأخرى. ولقد كان تاريخه السياسي كتاريخ معظم المقاطعات السورية استقلالاً وخضوعاً للغريب ولكن أيام الاستقلال أكثر من غيرها في غيره من أقاليم الشام.

والغالب أن قاصيته خضعت للفينيقيين كما خضعت سواحله واستولت عليه حكومة الأيتوريين العربية في عد الروم. والأيتوريون شعب شديد الشكيمة مولع بالحروب أنكفأ من حوران واللجاه بلاده ونزل البقاع فأنشأ له مدينة شالسيس أو عين جر جعلها عاصمة وأخذ يشن الغارات على لبنان ويتقدم إلى الأمام حتى تيسر له أن تسور قممه وأخضعه لسلطانه ثم انحدر إلى سواحل الشام وجعل مدينة طرابلس مركزاً ثانياً (1) وأكثر من كانوا يتأذون من بأس الأيتوريين سكان جبيل وبيروت فلم يكونوا يملكون معهم لأنفسهم طولاً ولا حولاً.

نعم خضع هذا الجبل للفاتحين واستولى على زمامه المردة وهم قوم من نصارى الفرس أتى بهم الروم ليدفعوا عن لبنان غزوات الأيتوريين فنزل المردة (2) في الشمال أوائل القرن الأول للهجرة ثم جاء التنوخيون ونزلوا جنوبيه وتوالى عليه الأمراء المعنيون فآل عساف التركمان ومن سلالة المعنيين الأمير فخر الدين الذي عهد إليه السلطان سليم فاتح سورية ومصر بولاية الشام ثم الشهابيون ومن أمرائهم الأمير بشير الملطي الثاني ومن أمراء لبنان جان بولاد (جنبلاط) الذي حكم الشام سنتين في القرن العاشر فيما ذكر. وروى التاريخ أن سكان كسروان أخذوا في القرن السادس أوائل القرن السابع للهجرة يطيلون أيدي اعتدائهم على أبناء السبيل فيخطفون المسلمين ويبيعونهم من الأعداء فكان عساكر المسلمين معهم بين عدوين هم في جبال صنين أو الظنينين كما سماهم أبو الفداء وجيوش التتار التي انهالت على هذه البلاد كالسيل العرم إن نجا المسلم من التتري لا ينجو من الكسرواني (سنة 699) ولذا سار شيخ الإسلام أبن تيمية سنة 704 لنصح أولئك العصاة فلما لم ينجح النصح فيهم قاتلتهم الجيوش الشامية قتالاً هائلاً بزعامة جمال الدين أقوش الأفرم نائب دمشق. والغالب أن سكان كسروان كانا إذ ذاك خليطاً من النصيرية والموارنة وغيرهم كما كان سكان ساحل كسروان من اليعاقبة.

وما زال نواب الشام (1) الأشرف بن خليل قلاوون والناصر محمد بن قلاوون يحاربون النصيرية في كسروان حتى أخرجوهم وجعلوا بدلهم قوماً من التركمان في بعض النواحي وبقي كثير من المتاولة معهم كما فعل صلاح الدين يوسف لما استخلص ساحل لبنان ولا سيما جبيل وأعمالها من أيدي الإفرنج سنة 583 فرتب (2) في جبيل قوماً من الأكراد لحفظها. فبقيت على ذلك إلى سنة 593 فباعها الأكراد الذين كانوا بها ورحلوا عنها ثم عادت تلك السواحل فاستولى عليها الإفرنج بعد صلاح الدين لأن الكسروانيين كانوا نصراء الصليبيين يمدونهم بالذخائر والرجال.

ولذلك أمر حسام الدين لاجين نائب دمشق بأن تخرب بلادهم فخربت على عهده وعهد غيره من حكامها ولا سيما على عهد الأفرم كما تقدم إذ قضى بقطع كرومهم وتخريب بيوتهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وتفرقوا في البلاد أيدي سبا.

ولما انتشر التركمان بكسروان سنة 606 تداركوهم (3) بثلثمائة فارس وجعلوا دركهم من حدود انطلياس إلى مغارة الأسد على حدود معاملة طرابلس فكانوا يمنعون من يستنكرونه أن يتعدى دربند نهر الكلب إلا بورقة طريق من المتولي أو من أمراء الغرب كما يفعلون بقطية (4) على درب مصر وجعلوا التركمان ثلاة أبدال كل بدل يقيم في الدرك شهراً لحفظ الموانئ والدروب. وفي سنة 686 صدر منشور من ملك الأمراء لاجين نائب الشام عن الملك المنصور قلاوون إلى جمال الدين وزين الدين ابن علي أنه إذا بلغهما توجه المقر الشمسي سنقر المنصوري بالعساكر إلى جهة كسروان والجرد أن يتوجها إليه بمجموعهما وأسرتيهما وأن من سبي امرأة منهم كانت جارية أو صبياً كان له مملوكاً ومن أحضر منهم رأساً فله دينار وأن سقر توجه لاستئصال شأفتهم ونهب أموالهم وسبي ذراريهم. وهذه الفقرات على شدتها لم تصدر عن أمراء الشام إلا بعد أن طفح كأس صبرهم من تمرد الكسروانيين.

واختلف العلماء في أصول سكان لبنان والأرجح أنهم خليط من الفينيقيين والآراميين والروم والعرب مزجتهم بودقة واحدة فغدوا مزيجاً واحداً كما هو حال معظم البلاد فإنك ترى كثيرين من أسرات لبنان المشهورة نزحت من بلاد حلب وحماة وحمص وحوران في الداخلية ولا سيما في القرون الخمسة الأخيرة. ذكر المؤرخون أن معاوية نقل إلى طرابلس وجبيل وبيروت وصيداء قوماً من الفرس يسكنونها. وذكروا أيضاً أن أبا جعفر المنصور العباسي لما قدم دمشق من بغداد قدم عليه من بلاد المعرة الأمير ارسلان وأخوه الأمير منذر بجماعة من عشيرتهما فطابت نفس الخليفة بهما فأمرهما أن يسكنا في جبال بيروت الخالية من السكان وأنعم عليهما بمقاطعات معلومة فسكنوا وبعضهم في كسروان وأخذوا يشنون الغارات على مجاوريهم وفي بعضها أحرقت قرى من كسروان السفلى وتقوى الأمراء الأرسلانيون بعشائرهم وعمروا العمائر في الشويفات وجوارها.

أما الموارنة فكان أول منشأهم في شمال سورية في الأغلب ينتسبون إلى قديس لهم أسمه مارون وهم طائفة كاثولوكية لا يكادون يختلفون عن الكثلكة في أمر جوهر في المعتقدات جاؤوا شمالي لبنان أولاً وما زالوا يمتدون ويطردون سكان الجبال الأصليين أو ينصرون ويدمجونهم في جملتهم حتى بلغوا الجنوب واحتفظ الدروز ببلادهم بما فيهم من الشدة والإباء.

وزعم بعضهم أن الموارنة لم يسكنوا كسروان قبل القرن السادس عشر للميلاد لأنه لا يوجد بين أديار كسروان اليوم دير واحد يسبق عهده القرن السابع عشر وأن جبيل والبترون كانتا على الحياد مع الصليبيين فلم تنحازا إليهم ولا للمسلمين أصحاب البلاد إلا أن هذا لم يمنع من الرواية الثانية من ممالاة الموارنة للصليبيين ودلالتهم على الطرق ونجدتهم (1) لهم وثباتهم معهم على العهد إلى النهاية حتى خرجوا من سورية سنة 1302 م ومن أجل هذا اضطر حكام البلاد أن يحرقوا ويقتلوا ويسبوا بعض القرى القريبة من طرابلس مثل أهدن وبقوفا وحصرون وكفرسارون والحدث.

وما برح لبنان ينقسم بين أمراء المقاطعات يحكمونه على النحو الذي كانت عليه صورة الحكم في البلاد العثمانية قبل تنظيم الولايات. يقوي اليمانيون تارة والقيسيون أخرى والناس معهم في أمر مريج ومن التحزبات القيسية واليمانية ما وقع في الربع الأول من القرن السادس عشر للميلاد بين الأمير فخر الدين المعني القيسي وجمال الدين الأرسلاني اليمني. قال المقريزي وعشير الشام فرقتان قيس ويمن لا يتفقان قط وفي كل قليل يثور بعضهم على بعض.

ونشأ حزب آخر وهو الحزب اليزبكي نسبة إلى يزبك جد الشيخ عبد السلام العماد زعيمه والجنبلاطي نسبة إلى الشيخ علي جنبلاط زعيمه الآخر وذلك سنة 1729_1754 وامتد في لبنان ولم يزل له أثر كما نشأت أحزاب أخرى كالمعلوفي والمكارمي ومثل هذه الأحزاب قد لا تخلو من حدوث فتن تهرق فيها الدماء وتكثر الأيامي والإماء كما فعل الحماديون وأحرقوا بلاد جبيل والبترون فخربت جميعها ونزح سكانها إلى بلاد ابن معن وكانت العداوة بين بني سيفا وبني معن سبباً في تخريب الجبل أيضاً.

ومن الوقائع التي يتمت فيها الأطفال تلك الوقعة التي جرت في القرن العاشر عقيب أن نهب بعض أمراء لبنان الصرة السلطانية من جون عكا بينما كانت محمولة إلى الأستانة فجمع إبراهيم باشا صهر السلطان مراد بن السلطان سليم العساكر من مصر وقبرص ودمشق وحلب وقدم بها مرج عرجموش قرب زحلة وأمسك طريق البحر والبقاع على الدروز فقتل نحو ستمائة منهم وأسر بعض الأمراء.

وما زالت حال الجبل في إقبال وإدبار تقع اليوم فتنة العاقورة وغداً وقعة مرحلاتا وبعده وقعة أرض خلدة ثم فتنة برج الغلول وبعد ذلك وقعة عين دارة حتى أقامت له الدولة سنة 1842 عمر باشا النمسوي والياً فلم تطل مدته حتى منحت الدولة للجبل امتيازات وقسمته في السنة التالية إلى مقاطعات. وتعرف الأولى (1) بقائم مقامية النصارى وهي الشمالية تمتد من نهر البارد في عكا إلى طريق دمشق مع بعض قرى ساحل بيروت تولاها الأمير حيدر إسماعيل اللمعي وتعرف الثانية بقائم مقامية الدروز وهي الجنوبية تمتد من طريق الشام إلى منتهى جبل الريحان في الشمال مع قرى إقليم التفاح وبعض قرى ساحل بيروت وتولى شؤونها الأمير أحمد عباس الأرسلاني أما قصبة دير القمر فكان يتولى شؤونها رجل من قبل والي ايالة صيداء وكانت قائم مقامية النصارى مؤلفة من المتن وكسروان والبترون والكورة وزحلة وقائم مقامية الدروز تشمل قضائي الشوف وجزين وقسماً من غربي البقاع وبعض قرى مديرية الساحل الداخلية اليوم في قضاء المتن وفرض على لبنان في كل سنة ثلاثة آلاف وخمسمائة كيس.

ودام الحال على ذلك إلى سنة 1860 وقد اشتعلت جذوة تلك الفتنة المشؤومة بين الدروز والنصارى في لبنان فمنحت الدولة هذا الجبل استقلالاً إدارياً بأن جعلته متصرفية يتولى شؤونها حاكم مسيحي تبعث به الدولة كل خمس سنين أو تجدد انتخابه بمصادقة الدول. وجعل مال لبنان سبعة آلاف أو ثلاثة ملايين ونصف مليون قرش وضعت على الأعناق.

ولحكومة لبنان موارد أخرى سنوية منها نحو أربعة ملايين قرش من بدلات حاصلات الأراضي الأميرية ورسوم المحاكم والمقاولات والعربات والعجلات وتعدل بثلاثة عشر ألف ليرة ولا تتناول الدولة الآن شيئاً من مال الجبل ولا تعطيه وكانت منذ سنين تدفع إليه العجز في ميزانيته.

وفي لبنان ألف جندي لبناني بإدارة أميرالاي لبناني وفي بيت الدين فرقة من الجند العثماني المحافظ وعليها أميرالاي بإدارة حكومة لبنان.

وتحاول حكومة الجبل الآن أن تزيد الضرائب قليلاً ليتيسر لها القيام ببعض الإصلاحات والتوسعة على موظفيها كما وسع عليهم في سائر البلاد العثمانية بعد الدستور إلا أن معظم الآهلين يقاومونها وفاتهم أن الليرة منذ خمسين سنة لا تعادلها اليوم إلا الثلاث ليرات أو أكثر لوفرة الذهب وغلاء الأسعار. وهم يعتبرون أن هذا العمل إخلال بشروط امتيازاتهم ويخافون أن يتدرج الأمر إلى العبث بقانونهم فيختل نظامه مع الزمن من أجل هذا أبى اللبنانيون أن يبعثوا إلى مجلس الأمة العثمانية بنواب منهم يمثلونهم وما نظن وطنيتهم تحول بينهم في الانتخاب القادم وبين إرسال نواب عنهم حتى يشتركوا وسائر أخوانهم العثمانيين في الغنم والعزم فليس من الإنصاف أن يبقى جبلهم بدعوى قلة خصبه على الحياد وهو في وسط البلاد ويحسب جزءاً متمماً من أجزاء السلطنة العثمانية كيف تقلبت الحال وتعددت المظاهر والأشكال.

غابات لبنان

4

ليس في لبنان أرض تبلغ مساحتها مائة كيلو متر مربع بل غاية ما فيه من الأراضي منحدرات ومنعرجات وأودية ضيقة ومسايل صغيرة وفيها جعل القدماء زروعهم وأشجارهم وأكثر الأراضي مما يصلح للشجر أكثر مما يصلح للبقول والغلات شأن جبال الأرض في الأكثر. وليس في الأيدي نص قديم يشير إلى أصناف زراعة لبنان منذ عرف التاريخ غير ما نقلناه في نبذة سالفة عن مؤلفي العرب من أن فيه أصناف الفواكه والزروع وأكثرها مما ينبت بنفسه وهو كلام مجمل لا يشبع ولا يقنع. وإذ كانت طبيعة أرض لبنان لم تتغير منذ عشرات من القرون كانت الزروع التي لا تناسبها أرضه ضعيفة فيه أو تكاد تكون معدومة.

ولكن لم تخل أرض لبنان في زمان من أزمانها من الزيتوت والتين والكرم والخروب والجوز واللوز والتفاح والصنوبر والتوت من الأشجار المثمرة والزان والسنديان والسرو والأرز من الأشجار الغير مثمرة. وقد أكثر القدماء والمحدثون من الكلام خاصة على تاريخ الأرز لورود ذكره في الكتاب المقدس مرات ولأن من خشبه بني قصر داود هيكل سليمان والهيكل الثاني الذي جدد في أيام زربابل وسقف الهيكل المجدد في عهد هيرودوس وقبة القبر المقدس وسقف الكنيسة في بيت لحم. وقالوا أنه ثبت أن ملوك الأشوريين والبابليين استعملوا في قصورهم خشب الأرز وأن المصريين أدخلوا من خشبه في بناء هياكلهم وقصورهم كما فعل الفرس وأن الاسكندر المقدوني وضع من خشب الأرز في السد الذي أقامه بين الجزيرة والشاطئ حيث كانت مدينة صور وكذلك ملوك السلوقيين في سورية أدخلوا خشب الأرز في بناء دورهم.

وكل هذه الأخشاب قطعت من لبنان أو من الجبال المجاورة له وكانت تحمل في الغالب إلى طرابلس وصيداء وصور حيث كانت دور الصناعات وقد أنشأ بعض ملوك الإسلام أساطيل من خشب الأرز وقالوا أن بيروت (1) كانت دار صناعة دمشق (ترسانتها أو ورشتها) وبها عمر معاوية المراكب وجهز فيها الجيش إلى قبرص ومعهم أم حرام واسمها العميصاء وقيل أنه عمر من الأرز ألفاً وتسعمائة سفينة وبعد سنين جهز أسطولاً أضخم من الأرز نفسه وتبعه غيره من ملوك الإسلام في اختيار الأخشاب للسفن من غابات لبنان وما برح كثيرون من المتدنيين بالنصرانية يتبركون بشجر الأرز ويحملون من غصونه قطعاً ينقلونها من قارة إلى قارة ومن مملكة إلى أخرى وهو عطر الرائحة إذا وضع في النار ويحسن في المثم إذا مسسته بيدك ولونه أصفر فاقع مشرب بخطوط حمراء لا تعبث به الأرضة ولا يفعل فيه السوس ولذلك كاد ينقرض لكثرة حرص السوريين وغيرهم على استعماله في أبنيتهم وقصورهم وهياكلهم وتماثيلهم ونصبهم.

والغالب أن الحكومة السالفة (1) القديمة في لبنان كانت تحتكر أربعة أشكال من الشجر تستثمرها لخزينتها وهي السرو والعرعر والأرز والصنوبر وتسمح بقطع غيرها واحتطابه أو غرس غره محله. وقد بدأ النقص في هذه الأشجار ولا سيما الأرز منذ خمسة قرون لأن اللبنانيين احتاجوا إلى الاحتطاب وأخذوا يكثرون من زراعة التوت والكرم خصوصاً وقد جرت عادة بعض حكام لبنان إذا غضبوا على أحد أن يقطعوا أشجاره ويخربوا داره وإلى اليوم لا يزال من الأمثال السائرة في الجبل الله يقطع رزقه أي ما يملك من شجر والله يخرب زوقه أي بيته.

مثال ذلك أن الأمير أحمد المعني طرد المشايخ الحماديين المتاولة لما كثر بغيهم في كسروان ففروا إلى بلاد بعلبك فأحرق قراهم في القرن لحادي عشر وقطع أشجارهم وقد رسم مرة بيدمر (2) نائب الشام لشهاب الدين ابن زين الدين صالح من أمراء الغرب في لبنان وكان في دمشق أن يركب على خيل البريد ويتوجه إلى قرية عين زحلتا من شوف صيداء ليكشف عما فيها من أشجار التوت النافع لعمل النشاب فلم يجده موافقاً وربما أحب عدم تصديع أهل البلاد بقطعه ونقله ومنذ ذاك العهد اجتهد أهل الشوف في قطع شجر التوت وتعطيل نشوئه واستئصاله لئلا تصدعهم الدولة من جهته. قلنا ومثل ذلك ما نشاهده في أيامنا من أن بعض أهل القرى البعيدة عن مراكز الحكومة في الولايات العثمانية قد يسخون بقطع أشجارهم فراراً من ظلم ملتزمي الأعشار واشتطاطهم في تقاضي العشور عليها أضعافاً مضاعفة ولم يبرح شجر الأرز موجوداً في عدة أماكن من لبنان على كثرة ما انتابه من البوائق فبالرب من معاصر الفخار على مقربة من بيت الدين غابة منه فيها نحو 250 شجرة يسمونها الأبهل وأخرى فوق الباروك غير ملتفة وضعيفة النمو لكثرة الأمطار والثلوج والعواصف في تلك الأرجاء وثالثة فوق قرية عين زحلتا وكان أحرق أكثرها لاستخراج القطران منه وقطع بعضها أيام حادثة سنة ستين لتجدد بخشبه بعض بيوت المنكوبين ورابعة بين افقا والعاقورة في جرد جبيل من بلاد كسروان وخامسة بين قرية تنورين وبشري صغيرة الشجر وعدد شجيراتها نحو عشرة آلاف وسادسة بالقرب من بشري على علو1925 متراً عن سطح البحر وهي مقصد السياح وفيها أضخم أشجار الأرز ويبلغ عددها 397 وقيل 680 شجرة منها 12 كبرى وأكبرها شجرتان دائرة جذع كل منها نحو خمسة عشر متراً وارتفاع أطولها خمسة وعشرون متراً وقدروا عمرها بثلاثة آلاف سنة. ولا أثر الآن في سورية لشجر الأرز إلا في أعالي سير ببلاد الضنية (1) في وادي النجاص ففيه كثير من شجر الأرز على ارتفاع 1900 متر عن سطح البحر وبين سير ونبع السكر وفي الغابة الواقعة خلف وادي جهنم ويسمى عند أهله تنوب.

ولو توفرت همة أبن الجبل اليوم على غرس شجر الأرز أو أي كان من شجر الاحتطاب في الأماكن الخالية ولا سيما في القمم والقنن لما أتت عشرات من السنين إلا وقد زادت ثروة الجبل زيادة محمودة وكان مع طول الزمن لأبن لبنان من أشجاره مود آخر غير التوت والزيتون مثلاً لأن شجر الأرز لا يجود في الغالب إلا في مثل هذه لعلو من الجبل بل من جبال سورية التي تشبه لبنان بطبيعتها وموقعها.

وإذا زاد عدد الغابات في سورية زيادة كبرى وتوفرت عناية ولايات بيروت وسورية وحلب ومتصرفيتي القدس والزور بتكثير الغابات في الأماكن الخالية ولا سيما في المحال التي يعرف أنها كانت غابات غبياء نافعة يتحول مناخ سورية وتكثر فيها الأمطار بعد سنين ولا تعود تخشى اليبوسة وهلاك الزرع والضرع كما يحدث بعض السنين فيتأذى بذلك العرب الرحالة في باديتهم كما يتضرر ابن المعمورة بهم ويصبح منهم بين نكبتين سماوية بقلة الأمطار وأرضية بسطو ابن البادية على ما بقي لأبن القرى من رزق.

وليت حكومة لبنان تبدأ فتفرض على كل لبناني أن يغرس عشر شجرات من أصناف الشجر عله تقتدي بها سائر حكومات بلاد الشام بعد ذلك فلا يأتي علينا جيل إلا وتصبح سورية غنية بغاباتها كغنى سويسرا أو أكثر والأشجار في بلادنا أكثر نمواً مما هي في أوربا لما عرفت من اعتدال الفصول ولطف الجو ولقد جربت حكومة الجزائر فغرست الغابات منذ زهاء خمسين سنة فكانت النتيجة أن كثر اليوم تهطال الأمطار فيها على طريقة منظمة وسيكثر خيرها كلما زادت أشجارها وعسانا نقتدي في سورية بهذا المثال.

الهجرة من لبنان

5

منذ أمن السكان في لبنان على أرزاقهم وانقطعت شأفة أرباب المقاطعات الذين طالما اشتطوا في مطالبهم وبطلت أو كادت السلطة الإفرادية الذوقية وقلت الأوبئة والزلازل التي كانت تحصد العمران والسكان حصداً كالزلزال الذي عاود لبنان مرات سنة 1759م وخرب القرى وأهلك الناس والطاعون الذي حدث سنة 1789م وعم لبنان كله واستمر الموتان ثلاثين سنة (1) - منذ خفت العوارض الطبيعية والأرضية أخذ كل فرد يحسن من حاله فنمت النفوس باستتباب أسباب الراحة وأخذ المرسلون وغيرهم من رجال الدين منذ زهاء مئة سنة ينشؤن أبناء الجبل على المنازع الدينية ويلقنونهم شيئاً من اللغات الإفرنجية والعلوم العصرية كما أن الموارنة ما زالت لهم علائق مع الكرسي البابوي في رومية يختلف إليه أحبارهم منذ قرون وربما انتفع الجبل من هذه الصلة والعائد.

ثم أن طبيعة الجبل تقتضي التحسين والتنظيم والمسيحيون على الجملة يميلون إلى الرفاهية ويقدرون طعم الحياة قدرها ولم يكد يدخل القرن الثالث عشر للهجرة في دور العدم ويطلع القرن الرابع عشر حتى دخل جبل لبنان في طور جديد فكثرت طرق عجلاته حتى أصبح ليده منها الآن نحو ألف كيلو متر تجمع بين قراه ومزارعه كالشبكة المحكمة وتهيء سبل التنقل على المصطافين في ربوعه وأكثر هذه الطرق في قضاء المتن لأنه ظهر لبنان ونقطته الوسطى ومقصد المصطافين من البيروتيين والشاميين والمصريين وغيرهم. وفيه الآن سبعون كيلومتراً من الخطوط الحديدية منها خمسون من طريق بيروت ودمشق وعشرون من ترامواي شمالي لبنان.

وفي هذا الجبل 25 (1) مدرسة داخلية كبرى وصغرى و14 مدرسة اكليركية و8 مستشفيات و206 من الحراج والغابات و147 من معامل الحرير و8197 من الدواليب وبلغت حاصلاته من الفيالج (الشرانق) سنة 1906 - 2027030 أوقة ومن الزيت 25488 أقة وثمن الحرير الذي يخرج منه نحو ثمانية ملايين فرنك في السنة وكثر سكانه حتى عدلوا أن في كل كيلومتر مربع 61 نفساً ولا يفوق الجبل في ذلك غير ولاية الأستانة وجزيرة سيسام (ساموس). وسكانه الآن زهاء أربعمائة وثلاثون ألف نسمة منهم 250 ألفاً من الموارنة و160 ألفاً من الروم و36 ألفاً من الكاثوليك و55 ألفاً من الدروز و33 ألفاً من المسلمين (سنة وشيعة) و 1500 من البرتستانت والباقون أرمن وإسرائيليون وكلدان ولاتين وفيه خمسمائة من أهل الوبر يعيشون في مضاربهم خارج القرى وأكثرهم فقراء يستوكفون الأكف وقد أحصى غليلموس الصوري في تاريخ الصليبيين عدد الموارنة في عصره فكانوا أربعين ألفاً وما زال عددهم يربو على عدد وفياتهم وأن هاجر كثيرون بعد ذلك إلى قبرص ورودس والقدس ومالطة ولا يبعد أن تكون اللغة العربية انتشرت في جزيرة مالطة بواسطتهم.

ولا يسعنا وقد وصلنا من بحثنا في شؤون الجبل إلى هذا الحد إلا أن نرسل جملة في شغف اللبنانيين بالهجرة إلى أميركا وغيرها من البلاد التي توهم أبن سورية أن المال فيها ملقى على الشوارع لا يحتاج إلا لمن يمد يده ليتناوله مع أولئك المهاجرين لو صرفوا في بلادهم نصف ما يصرفون من الوقت والقوة في بلاد المهجر على طول السنة وحسبوا ما صرفوه في ذهابهم وإيابهم وقدروا عدد من هلكوا منهم لرأوا أن المعدل واحد والفرق قليل لا يساوي هذا النصب.

والذي ظهر من قرائن الأحوال أن ابن لبنان كان أول فلاح سوري هاجر إلى أميركا أو جرأ سائر السوريين على الهجرة مجذوباً بما اشتهر عن القارة الأميركية من الغنى ولكثرة علائق لبنان مع الغرب قبل حادثة سنة 1860 وبعدها ولأن ابن لبنان أكثر أهل جبال سورية تعلماً ونوراً وأوفرهم نشاطاً ومضاءً وشمماً وادلالاً بل أن مجموع القارئين والكاتبين فيه أوفر من مجموع القارئين والكاتبين في مجموع مدن الشام.

وأول من دخل أميركا (1) من السوريين الخوري الياس بن القسيس حنا الموصلي الكلداني من سنة 1668_1683 وأول من دخل أميركا الشمالية في القرن الماضي الخوري فلابيانوس الكفوري سافر إليها سنة 1848 وأخذ معه ناصيف الشدودي وأول من دخل الجنوبية المطران باسيليوس حجار سنة 1874 وكانت غايتهم جمع الإحسان وأول من دخل أميركا الشمالية للتجارة تجار من بيت لحم حملوا مصنوعاتهم الخشبية المرصعة بالصدف إلى معرض فيلادلفيا سنة 1876 ثم عادوا إلى بلادهم بثروة وافرة فاقتفى أثرهم غيرهم واتصل ذلك بشمالي لبنان وامتد في كل سورية ثم كثرت الجالية السورية في العالم الجديد واستراليا وجزر البحر المحيط بل وفي افريقية شرقها وغربها وشمالها وجنوبها.

وقدر بعضهم أن ثلث المهاجرين يسكن أميركا وثلثهم يرجع إلى وطنه والثلث الآخر يموت. ونظن أن الثلث الأخير مبالغ فيه وإن كان عدد الهالكين في المهجر غير قليل. وأحصي (1) عدد السوريين المهاجرين إلى سنة 1906 فكانوا مائتين وخمسين ألفاً منهم ستون ألفاً في الولايات المتحدة وخمسون ألفاً في جمهوريات أميركا الجنوبية وخمسة وعشرون ألفاً في أميركا الوسطى وعشرة آلاف في اوستراليا وبعض الجزائر والباقون في افريقية والهند والفليبين وكوبا ومصر وعدد اللبنانيين منهم ستون ألفاً نصفهم ذكور ونصفهم إناث وربما كان الذكور أكثر.

كثرت الهجرة منذ نحو عشرين سنة وذهب بعض سكان لبنان بإقدامهم وذكائهم المعهود فنزلوا في دار الهجرة بلاداً تحتاج إلى أيدً عاملة ونفوس لا تعرف التعب فأنشأوا يعملون ويذخرون ويقترون على أنفسهم في النفقة على خلاف عادة معظم المهاجرين إلى أميركا من أهل أوربا مثلاً فآب من قدرت له السلامة منهم ولم يكن له رأس مال في هجرته غير صحته بمئات الليرات فكان أول همه أن يعمر له داراً قوراء بالحجر النحيت والقرميد على المثال الذي رآه في بيوت المهجر.

وكثر تقليد الناس بعضهم لبعض ومنهم من اشترى له أرضاً في بلده وطفق الآخر بما جناه من ذاك الرأس المال القليل أما الأفراد الذين اغتنوا فعدت ثروتهم بالألوف فقد استوطنوا البلاد التي هاجروها جرياً على المثل العامي في المطرح الذي فيه ترزق الصق وهم إن كانت تحدثهم أنفسهم بالرجوع لا يهنأ لهم بال متى عادوا إذ يتجلى لهم الفرق الكبير بين نيويورك وشيكاغو وسان فرانسيسكو وبونس أيرس وسان باولو مثلاً وبين عشقوت وبسكنتا وعمشيت وعرنة ومعرونة أما أولادهم فينطبعون بطابع البلاد التي ولدوا فيها وأكثرهم لا يتعلمون اللغة العربية ولذلك لا يرجى البتة أن يعودوا إلى موطن آبائهم وهذا القسم ممن خسرتهم البلاد حقيقة والذي يزيد في الحسرة عليهم أن بعضهم ذهب برأس مال من بلاده ولو طفيف وبعضهم على جانب من الأخلاق والمعرفة لم يعمدوا إلى الطرق السافلة في تحصيل الثروة.

نفعت الهجرة لبنان وأضرته وعندي أن المضار أكثر من المنافع إذ لا يظهر إلى العيان في الغالب إلا الحسن. فقد يذهب ألف مهاجر مثلاً إلى بلد كذا ولا ينجح منهم إلا واحد أو اثنان فيأخذ الناس يتحدثون في أمرهما وينسون أولئك المئات الذين يعملون أربع عشرة ساعة كل يوم في أشق الأعمال ولا يكادون بعد مرور سنين يوفون أجرة الطريق التي استلفوها من أحد المرابين في بلدهم أو باعوا في الحصول عليها أرضاً لهم ورثوها من آبائهم خل عنك من هلكوا بالأمراض وغرها وهكذا الحال في مجموع حالة لبنان من حيث منافع الهجرة ومضارها.

فإن من نظر في الأمور نظراً سطحياً وشاهد تلك البيوت البديعة في قراه ومزارعه التي عمرت بمال أتى به المهاجرون من غير أرض لبنان وسمع بأن فلاناً أصبح يملك كذا وكذا من الليرات وأن بلد كذا يدخل إليه كل شهر من تحاويل أميركا ما يقدر بكذا من الذهب - من شاهد ذلك وسمعه لا يعتم أن تعروه هزة الفرح لبلاده وربما اعتقد أن الحال إذا دام على هذا المنوال وأموال أميركا لتسرب إلى بلادنا نصبح بعد بضع سنين أغنى من الأميركان وننقل شطراً عظيماً مما عندهم من الذهب الوهاج وهذا منتهى السعادة البشرية ليست السعادة بكثرة المال. السعادة شيءٌ غير ما يتوهمه من همهم إنشاء البيوت وتزيينها وفي باطنها الشقاء والحسرة. قال لي عجوز في صليما وقد سألتها أين رجالكم: ذهبوا ألى أميركا وتركونا هنا نحرس لهم البيوت التي عمروها لتسرح فيها الفيران عادوا ليجمعوا كمية أكبر من المال لأن ما جمعوه لم يكفهم لإتمام هذه الدور على ما يحبون وفرشها ونقشها ثم إن حالة البلاد لم تعجبهم بعد أن شاهدوا مشاهد أميركا. وقول هذه العجوز الذي أحزنني مغزاه ولا تزال الأذن تردد صداه قد سمعت مثله من كثيرين من أهل لبنان رجال ونساء.

أي حسرة أعظم من أن تتوقع أمٌّ في كل أسبوع قدوم ابنها وقد تمضي الشهور ولا تتناول كتاباً منه أو زوجة تنتظر منذ سنين هي وأولادها وهو لا يكاد يبعث لهم بنفقتهم فتضطر تلك المرأة المسكينة أن تعمل ليلها ونهارها لتطعم أولادها من كدها وما هي بمفلحة. وأي بلوى أكبر من أن تدخل قرية وتجد فيها عشرات من البنات العوانس ينتظرن عروساً لأن شبان الضيعة هاجروا وأكثرهم لا يريد أن يتزوج وبعضهم تزوج من امرأة أميركية وزهد في أسرته وقريته لأنه تمدن بزعمه ولا يليق به أن يتزوج إلا من متمدنة. ومن شاهد البنات العوانس في لبنان يدرك سر تعدد الزوجات إلا في مثل هذه الحال ويسجل بأن أقل سيئات الهجرة انقطاع الأهلين عن التناسل ولولا ذلك لكثرت نفوس لبنان كثرة تذكر لطيب هوائه ومائه وتوفر أسباب الراحة فيه.

وإن دعوى من يدعون أن لبنان لولا الهجرة لأصبح خراباً مردودة من وجوه أحدها أنهم يعتقدون أن تلك الأموال التي دخلت لبنان وهي تستخدم فيه الآن بفوائد طفيفة هي غنى لبنان وما الثروة في الحقيقة إلا العمل ليس إلا. فقد رأينا اسبانيا على عهد شارلكان تسرب المال إلى صناديقها بالبدر والسبائك من أقطار المعمور لأن هذا الملك كان يعتقد أن كثرة النقود والذهب في بلاد كف وحده في غناها ولكن لم تكن بضعة عقود من السنسن حتى أمست اسبانيا أفقر بلاد أوربا لأن أهلها انقطعوا عن تعهد تربتها والأخذ بحظ من الصناعات اللازمة لهم والعلوم الرافعة من شأنهم.

إن انصراف وجهة اللبنانيين وغيرهم من السوريين إلى نزول أميركا وافريقية للاغتناء من خيراتها بسرعة على أمل العودة إلى مساقط رؤوسهم متى امتلأت أكياسهم وجيوبهم وعبابهم قد حال دون تعهد أرضهم واستثمار صناعاتهم. ففي لبنان من الخيرات الطبيعية ما يكفي أهله إذا زادوا ضعف ما هم الآن ومهما بلغت العناية اليوم بزراعته لا يزال فيه فضل للعمل وميدان واسع للجد. ولا يشعر بذلك إلا أرباب الأملاك. مثال ذلك أن كدنة الفلاحة كانت تساوي منذ سنوات قليله خمسة وعشرين قرشاً فأصبحت اليوم تساوي ستين على حين أن غلات التوت لم تزد على تلك النسبة وذلك لقلة أيدي العاملين وارتفاع أسعار الحبوب وغيره من مقومات المعاش في البلاد ولأن المهاجر اللبناني الذي كان فلاحاً حراثاً إلى عشرين أو ثلاثين جداً من أجداده إذا هاجر وقضى في هجرته ثلاث سنين ثم آب بلاده تكبر نفسه فلا يعود يتنازل إل معاناة الزراعة بل يفضل أن يعيش كما يعيش تجار أميركا وأرباب الأملاك في بلادنا وهو لا يملك رأس مال يكفيه سنة واحدة إذا ظل عطلاً عن العمل.

في أمثال العامة أنا أمير وأنت أمير فمن يسوق الحمير حكمة لطيفة نافعة تصدق على اللبناني المهاجر فإذا أحب كل فرد من المهاجرين أن يقلد الأعيان في عيشه ورفاهيته فمن يبقى لتعهد التوت والزيتون وغرس الصنوبر والأرز والسنديان والزان وحفر الأقنية والأحواض وتمهيد الطرق ومعالجة الصناعات من حل الحرير وصنع الأقمشة المزركشة البسيطة وعمل الفرش والستور وأنواع الزينة.

ولقد قال الاقتصاديون أن جملة ما ساعد ألمانيا على عظمتها التجارية الصناعية العلمية أنك تجد في رجالها أنواع العاملين ولا يستنكف كل عامل من عمله بل ولا يريد أن يعرف إلا به فالألمان أشبه بجيش منظم فيهم الجندي كما فيهم الضابط الصغير والكبير والقائد العظيم وكل واحد منصرف إلى عمله لا تحدثه نفسه أن يقلد رفيقه أو يعتدي عليه بل يعمل في دائرته بما يستطيعه ويحسنه ما أمكنه الحال ولو جرى أهل بلادنا على هذا المثال لأصبحنا بعد جيل أمة راقية حقيقية ولما رأينا الصغير يشكو لأنه يريد تقليد الكبر وأسبابه لا تساعده.

نحن لا نجاري أولئك الذين يدعون أن لبنان كان خراباً لولا الهجرة لأمور أقلها أن البلاد السورية واسعة وأهل لبنان اليوم وقبل اليوم يستطيعون أن ينزلوا الأقاليم القليلة السكان المحتاجة إلى العناية ويستعمروها فإن فتشوا ذات اليمين وذات الشمال ورأوا طرابلس وعكا وحمص وبعلبك والبقاع ومرجعيون وصيداء تتاخم جبلهم وتحصرهم فيه فإن لهم من بلاد الكرك وحوران وبادية الشام وبلاد حلب مثلاً ما يكفي لإغناء مئات الألوف من الناس فلو نزلوا تلك البلاد الخاوية وعمروها بكدهم لأصبحت بعد سنين جنات زاهرة وأقلُّ ما في ذلك من منافع أن هذه البلاد منهم على أيام قليلة يستطيعون في استعمارها أن يقضوا معظم أيام السنة في جبلهم.

وقد كتب قائم مقام سروج من أعمال حلب منذ مدة في جريدة المقتبس يقول أن خمسين قرية في قضائه وحده محلولة وتباع كل واحدة منها بثلاثة آلاف قرش فلو اشتراها بعض أرباب الأموال من اللبنانيين وأنفقوا عليها النفقات التي ترقى زراعتها وغرسوا فيها الأشجار وأقاموا البيوت لما أتت ثلاثون سنة إلا وهذا القضاء وحده من أعمر البقاع السورية فما بالك بما في غيره من الأقضية والألوية والولايات العثمانية من الخيرات.

لا نوافق القائلين بالاغتناء بسرعة فإن ما يأتي بدون عناء كبير قد يذهب في الأكثر كما جاء. وإنا لنؤثر أن يوجه اللبنانيون ولا سيما في عهد الدستور السعيد وجوههم قل البلاد الداخلية من سورية والعراق والأناضول ففيها متسع لهم وفيها لهم مغانم كثيرة ولو صبروا على جنيها لكان لهم ولأبنائهم وأحفادهم منها مال خالد وملك لا يكاد يبلى.

وفي لبنان من الصناعات القديمة ما يرقى لو سعوا تحسينه كعمل الأقمشة والنجارة والحدادة (1) وغيرها وله مورد آخر للربح ينتفع منه الآن أكثر من سائر جبال سورية ونعني به موسم المصطافين فإن لبنان من سورية ومصر كسويسرا من أوربا وأميركا يقصده الكثيرون كل سنة التماساً للصحة والراحة فلو عني اللبناني أكثر مما يعنون براحة من ينزلون عليهم لأتاهم الصيف في كل سنة بما لا يقل عن مليون ليرة فقد حسب بعضهم عدد المصطافين في لبنان سنة 1906 فكان خمسة عشر ألف نسمة أكثرهم من المصريين فلو فرضنا أن الواحد ينفق عشر ليرات لكان المبلغ لا يقل عن مئة وخمسين ألف ليرة فما الحال لو زاد هذا العدد ونحن نرى أن سويسرا وإيطاليا تربح كل منهما من موسم السياح كل سنة ما لا يقل عن خمسة عشر مليون ليرة وإذا زادت عناية حكومة لبنان وأهله بالمصطافين في قمم لبنان لا يعتم أن يجلب إليه أناساً من المصطافين من أهل أوربا نفسها خصوصاً إذا رأى السياح أن النفقة في الجبل أقل مما في جبال الألب وأنها لا تبلغ مع أجور النقل في البحر والبر والمبلغ الذي يصرفونه في بلاد الاصطياف.

وبعد فإننا لا نفتأ نكر القول بأن من الأنفع لأبن لبنان أن يوجه بعد الآن وجهته إلى الداخلية ليعتاش ويرتاش وأنه إذا استفاد المهاجرون منا إلى أميركا من حيث ارتقاؤهم في اقتباس بعض أصول التمدن في الملبس والمأكل والمسكن فإن الأنفع له ليوم أن يستعمر بلاده وهي تحتاج إلى أضعاف أضعافهم. وسوف يعلمون أن هذه النصيحة صادرة عن إخلاص لا يراد منها إلا نفع لبنان خاصة وسورية عامة فإن يقاسيه اللبناني من ألم الغربة والمهانة في الأحايين واحتقار الغربي له مهما بلغ من مكانته جدير بأن لا ينسيه بلاده والعيش بين أهله وجيرته. وقدر أحد العارفين منذ ثلاث سنين أن ما حمله اللبنانيون المهاجرون إلى لبنان يبلغ خمسمائة ألف ليرة أي على معدل خمس ليرات لكل مهاجر فلو فرضنا أن هذا القدر قليل وعدلناه نحن بمليون ليرة هل كان هذا المبلغ يعادل ما فقد من الرجال وخسرته البلاد من قواها المعنوية والأدبية.