مجلة المقتبس/العدد 42/الصحافة العثمانية
مجلة المقتبس/العدد 42/الصحافة العثمانية
الصحافة أو فن الجرائد والمجلات هي عنوان ارتقاء الأمة المحسوس وكل أمة كانت صحافتها أوسع وأمتع يسوغ لك أن تحكم عليها بأنها أرفع وأمنع، فالجرائد الانكليزية مثلاً أوسع مادة وأبعد نظراً وأصدق أقوالاً من الافرنسية والإيطالية لأن الانكليز رجال الاتجار والاستعمار أعلى كعباً من الفرنسيس والطليان ودولتهم أرقى الدول.
وهكذا الحال في صحافة الأمة العثمانية المختلفة العناصر والأجناس وتاريخها يرد إلى سنة 1276 هـ، ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا أن الصحافة التركية أرقى من الصحافة العربية والرومية والأرمنية والبلغارية وبعبارة أخرى أن الصحف التركية أرقى من العربية إذ لا يجوز لنا أن نحكم على الصحافة الرومية والأرمنية والبلغارية ونحن لا نعرف لغاتها لنقرأها بها والحكم على الشيء فرع عن تصوره، أما التركية فلمعرفتنا بها يتيسر لنا الحكم على جرائدها وجرائدنا معاً كما نحكم على الصحف الافرنسية التي تصدر في بلادنا أيضاً.
كانت الجرائد العربية قبل الانقلاب الأخير عبارة عن الأعيب ورويات عن السياسات الخارجية محرفة وكان يحظر عليها خصوصاً في العشر السنين الأخيرة أن تبحث في موضوع اجتماعي إداري أو سياسي وطني فكانت موضوعاتها من ثم مسخاً أو سلخاً من جرائد أوروبا والأستانة في شؤون تافهة لا ترقي عقلاً ولا تلقن فضلاً.
ولما أنقذ الله البلاد من ظلم الاستبداد كانت صحافتها أول ما تحرر من أوضاعها مع صحافة العناصر الأخرى فداهمتها الحرية على حين غرة وأصبحت في حلّ من الخوض في كل موضوع وعندها ظهرت كفاءتها وصح لمن يريد التنظير بينها وبين الصحافة التركية أن يصدر حكمه عليهما.
لم يكن في سورية والعراق والجزيرة والحجاز واليمن وطرابلس الغرب غير بضع جرائد ومجلتين في مدينة بيروت ولبنان وواحدة في دمشق وأخرى في طرابلس الشام أما حلب والبصرة وبغداد واليمن والحجاز فكان يصدر في كل واحدة منها جريدة رسمية باسم ولايتها نصفها بالتركية والنصف الآخر بالعربية السقيمة وسائر قواعد البلاد خالية من الجرائد الرسمية وغير الرسمية لأن الجرائد كانت العدوة الكبرى للسلطان المخلوع فلم يكن يسمح بإصدارها إلا مضطراً أو بالاحتيال العظيم والبذل الكثير.
ولم تمض سنة على نشر القانون الأساسي حتى ظهرت بضع جرائد يومية جديد بيروت ودمشق وحلب وصدرت في الموصل وبغداد والبصرة ومكة وجدة وطرابلس الشام وطرابلس الغرب والقدس وحيفاء ويافا ومرج عيون واللاذقية جرائد أسبوعية متناسبة مع حال البلاد التي تصدر فيها وإن كانت جرائد سورية من حيث التركيب البياني واللغوي أرقى من جرائد غيرها من الأقطار لأن الملكة العربية مستحكمة من القائمين بها في بلاد الشام أكثر من غيرها ولكن تلك الجرائد الصادرة في الأقطار الأخرى نافعة على كل حال بما تأتي به من الأفكار والأخبار وسيكون منها بحول الله النفع العام لمن تنشر بين أظهرهم.
أما الجرائد التركية قبل الدستور فكانت عبارة عن مقتطفات من الصحف الأوروبية في السياسة الخارجية وتبليغات أوامر الحكومة الاستبدادية وأبواق خصصت لتأليه عبد الحميد الثاني وإطرائه إطراءً لم يعهد في لغة من اللغات ولا في أمة من الأمم وكانت تلك الجرائد متخومة بإنعامات السلطان السابق ورشى بعض الشركات لتساعدها على ابتزاز خيرات السلطنة، ومع كل هذه المساوئ كان الارتقاء بادياً على الصحافة التركية أكثر من غيرها لأن التركية لغة الحكومة وجرائدها مقروءة في بلاد الترك من آسيا وأوروبا كما تطالع في غيرها من البلاد لكثرة الموظفين وغيرهم ممن يعرفون التركية ويهتمون أن يطلعوا على قرارات حكومة العاصمة ومنشوراتها وأنبائها.
ثم إن الأتراك بمجموعهم أرقى بتربيتهم وتعليمهم من مجموع العرب ونظام الأسرة عندهم أمثل منه عند أكثر العرب والمرأة التركية والحق يقال أكثر تعليماً وتهذيباً من المرأة العربية، فقد تطوف البلد الكبير في هذه الديار ولا تجد إلا بضع بنات متعلمات ولو استقريت قواعد البلاد التي يغلب فيها العنصر التركي لرأيت المتعلمات من التركيات يبلغن المئات والألوف ولا سيما في العاصمة، وهذا هو أحد أسرار انتشار الجرائد في الأتراك أكثر من انتشارها هنا لكثرة سواد القارئين والقارئات عندهم وقلته عندنا.
وإذا أردنا المقارنة بين الصحف التركية وخصوصاً صحف العاصمة وبين الصحافة العربية في الولايات تكون للعربية الدرجة الأخيرة بين الصحافة العثمانية فيما نحسب ولذلك وجب أن نقابل الصحافة العربية كلها بالصحافة التركية كلها أي الصحف التركية التي تصدر في الأستانة وازمير وسلانيك وادرنة ومناستر وغيرها من البلاد العثمانية والصحف التركية التي تصدر في القريم والقافقاس مع الصحف العربية التي تصدر في الولايات العثمانية ومصر وتونس والجزائر والمغرب الأقصى وجرائد المهاجرين من السوريين في أميركا الشمالية والجنوبية، وهذه الصحف على اختلاف مصادرها مستمتعة بحريتها الفكرية ما خلا بعض صحف تونس والجزائر والقريم والقافقاس وإذ كانت درجة ارتقاء الشعوب التي تتلى عليها متفاوتة جاءت هي كذلك.
ولذا كان من اللائق إذاً أن نقيس صحف بلد معين بآخر معين لأن قوة الجرائد بقوة من تصدر بينهم كما قلنا وإذ كان أهل الأستانة أرقى من حيث المجموع من أهل سائر الولايات ومدينتهم عاصمة سلطنة عظمى من أعمالها ثلاثون ولاية عدا الايالات المستقلة وهي مهوى أفئدة الأمم الإسلامية كافة كانت صحافة الأستانة أرقى من صحافة القاهرة وهي عاصمة مملكة فيها نحو ثلث سكان الولايات العثمانية ولها السبق علينا بالاستمتاع بنعمة الحرية، ومركز القاهرة السياسي مهم أيضاً وأهلها عريقون في الحضارة منذ عشرات من السنين وهي في غناها الطبيعي أغنى من الأستانة في الحقيقة، فلا عجب إذا امتازت فروق من هذه الوجهة عن مصر.
تأملنا كثيراً في صحافة مصر والأستانة في العهد الأخير فرأينا أمهات الجرائد التركية أرقى من أمهات الجرائد المصرية مادة وأسلوباً وشكلاً ووضعاً وطبعاً، ولا أغالي إذا قلت أن جريدة طنين ويكي تصوير أفكار ويكي غزته وصباح وإقدام لا تفوقها الطان والديبا والفيغار والماتين والجورنال إلا بحوادثها الخارجية وما عدا ذلك من البحث في إدارة البلاد وسياستها الداخلية وأخبارها وأفكارها وآدابها واجتماعها فالجرائد التركية شقيقة الجرائد الفرنسوية بقيمتها إلا قليلاً هذا مع بعد عهد الفرنسيس بالحضارة وقدم جرائدهم وقرب عهد الترك بها وحداثة جرائدهم، وتفوق جرائد القاهرة كاللواء والمؤيد والجريدة والأهرام والمقطم مثلاً بأنها أمهر في الضرب على الوتر الحساس في الأمة أكثر من جرائد الأستانة.
أما المجلات الافرنسية فهي أرقى بلا جدال من المجلات التركية وتصدر تحت سماء الأستانة بضع مجلات مثل علوم اقتصادية واجتماعية مجموعة وملكية وشهبال وثروت فنون لا تقل في أبحاثها وتدقيقها في موضوعاتها عن المجلات العربية الكبرى في مصر والشام وهي أرقى منها من حيث الوضع والطبع وأشبه بالمجلات الأوروبية في أن أبحاثها تكتبها الأيدي المنوعة من أهل الإخصاء، ومن العجيب أن مصر على كثرة علمائها الأخصائيين لم يصدر فيها حتى الآن مجلات يكتبها المصريون أنفسهم ولولا مجلة الجامعة المصرية وصحيفة نادي دار العلوم وهما ابنتا هذه السنة لقلنا أن مصر لا تميل للعلميات ميلها إلى السياسات وأهل العلم والأدب فيها لا صبر لهم على المشاريع العلمية حتى تنضج كما صبر أرباب المشرق والمقتطف والمنار والهلال والمقتبس والجامعةوغيرهم من أرباب المجلات السورية الحديثة كالمباحث والنبراس والمنتقد والحسناء والكوثر والنعمة والعرفان وغيرهم ممن لا تحضرنا أسماؤهم في مصر والشام.
أما جرائد سورية اليومية فهي أشبه من كثير من الوجوه بالصحافة التونسية من حيث المواد وقلة البحث في حالة البلاد وإن كانت جرائد الشاميين أكثر حرية وأسلم عبارة بل أنضج أسلوباً من جرائد التونسيين والفضل في ذلك للمدارس التي تعلم آداب العربية في الشام أكثر من تونس على أن المملكة التونسية وإن كانت أصغر من الجزائر ومن مملكة مراكش فهي في هذا العهد أرقى لهجة وعربية منهما بل هي بالنسبة للجزائر كنسبة سويسرا إلى إسبانيا أو ألمانيا إلى روسيا ولعل كثيراً من فقهاء الجزائريين يحرمون حتى اليوم كبعض فقهاء المراكشيين ما يقال له الجرائد والمحلات وكم للجامدين من جنايات جنوها على الدنيا والدين.
وقصارى القول أن الصحافة التركية أرقى بمجموعها من الصحافة العربية ولا سيما في السياسات والإداريات والعسكريات، والترك منذ قرون هم أهل السياسة والإدارة والجندية وأدبياتهم أيضاً أقرب إلى الأدبيات الغربية من أدبيات العرب، وعسى أن يكون الترقي الذي يتناول كل أمة فينبلها حظها منه في ظل القانون الأساسي يجري التعادل بين البلاد فيعم الارتقاء أنحاءها كافة بعد جيل أو جيلين من الناس ويجدّ رجال صحافتنا في الولايات العربية في ترقية جرائدهم ومجلاتهم ويسهرون على إيداعها كل مفيد من الأبحاث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والإدارية والعلمية والأدبية بحيث يزول عن العقول صدؤها فتتحلى من حلي المدنية الحقيقية بما ينيلها السعادتين وينبطها عليه أهل الخافقين.