مجلة المقتبس/العدد 4/مصر ومستقبل إفريقية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 4/مصر ومستقبل إفريقية

مجلة المقتبس - العدد 4
مصر ومستقبل إفريقية
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 5 - 1906



مقتضب من كتاب تحرير مصر

لا ينكر أحد أن أتعاب المرسلين المسيحيين في إفريقية قد ذهبت أدراج الرياح وأن أهل إفريقية لا يزالون كلهم وثنيين عباد أصنام. وإنا لا نرى في أواسط إفريقية وشمالها ديناً مستحكماً غير الدين المحمدي. فكأن الإسلام فاز حيث خابت النصرانية لأن في الإسلام ما يجذب الإفريقي مما لا يوجد في النصرانية. وهنا نذكر أوربا وهي التي لم تر نور النصرانية إلا بعد أن اقتبست المدنية اليونانية الرومانية.

نقول ذلك ولعل الإفريقي لا يزال عاجزاً عن الأخذ بالمسيحية لأنه لم يستعد لها كل الاستعداد. وبعد فلا يخفى أنه لم تسكن إفريقية أمة أوربية سوى البوير فهي الأمة الوحيدة التي تمكنت من العيش في جو إفريقية وهوائها ولكنها على قدرتها وذكائها لم تفلح في مصادمة الوطنيين ولم تخضع منهم أحداً لدينها ولا لمدنيتها ذاك لأن المدنية الغربية لا تدخل إلا في مكان دخلته المسيحية. ولا حاجة أن نقول هنا بأن شعوب إفريقية لم تتعلم من أوربا شيئاً استفادت به أو ساعدها على التقدم في طريق المدنية على أن البيض لم يشدوا رحلهم إلى إفريقية إلا ليغنموا أو يربحوا فهم إذا نزحوا عن مستعمراتهم تركوها خالية خاوية وغادروا الدار تنعي من بناها.

وما ذلك إلا لأن بين الوطني والأجنبي حاجزاً منيعاً لا يمكن جوازه. ولاشك في أن هذا البغض والنفور السائدين بين الوطنيين والأجانب يؤديان أخيراً إلى انقراض سكان إفريقية الأصليين واستئصال شأفتهم لا محالة.

وإن الإنسانية في أوربا لترجو أن لا تعيد في إفريقية تمثيل الرواية المحزنة التي مثلتها في أميركا. فإن تاريخ استعمار العالم الجديد يحرج صدر الحليم ويسيل مدامع أجمد الناس عيناً ويلين فؤاد أقسى البشر قلباً. ولقد فشلت أوربا في أميركا فشلها في إفريقية لأنها لم تستطع الوقوف على أخلاق شعب الهنود الحمر وعاداته وديانته وصفاته. أضف إلى ذلك أن الأوربيين لم يحاولوا تغيير دين أهل أميركا الأصليين أو إدخال أقل إصلاح على حالهم. ولا ندري إذا كانوا ينجحون لو حاولوا إدخال النصرانية أم لا. ولكن ما نعلمه هو أنهم لم يحاولوا ذلك بل جاء الرجل الأبيض وأزاح بيده القوية كل ما يتمثل أمامه وتناول سيفه وذبح هنود الشمال والجنوب والشرق والغرب حتى أصبحت قارة أميركا بحراً من الدم الطاهر البريء. فكأن الرجل الأبيض يفرح لرؤية الدم ويطرب لإزهاق النفوس. ولما كان هؤلاء الوطنيون المساكين يخضعون للذل ويستسلمون للأوربيين كانت تصيبهم أمراض أوربا فيموتون كأنهم فروا من الموت إلى الردى.

رفع المستعمرون أو الطوارئ الأوربيون علماً كتبوا عليه لا رحمة عندنا ومن يقف في طريقنا فليس له إلا الموت الأحمر وأسفي لقد نجحت أوربا في إبادة ذلك الشعب الهندي الكريم فلا ترى منه الآن إلا أفراداً قلائل يراها الناس كما يرون النوادر والغرائب. وقد شمل الخوف وتمكن الجبن من بعض القبائل المنحطة ففرت إلى جنوب أميركا لاجئة إلى حراجها وغاباتها كما يلجأ الوحش الطريد. وإن قلبنا ليخفق عندما يخطر ببالنا أن ما تم في أميركا يتم في إفريقية سيما ونحن نرى ما نرى بين البيض والسود في تلك القارة من البغض والنفور. وما الداعي إليهما إلا أن المستعمر الأبيض عاجز عن فهم طبيعة الوطني الأسود فيعوقه جهله بطبيعته عن منحه نعمة المسيحية والمدنية. وأي دليل أصدق من قولنا أن نصف سكان جنوبي إفريقية فنوا أو نزحوا عن أرضهم. ويليق بأوربا المتمدنة أن يصبغ الخجل وجهها ألف مرة كلما سمعت الأخبار المعيبة والقصص الشائنة التي ينقلها البريد في كل يوم من أوساط إفريقية.

عندما يصل الأوربي إلى تلك البلاد ينسى نفسه ويسقط سقوطاً معيباً. فيحيا الحيوان القذر الساكن في جسمه وتموت عواطف العفة والشرف فيه كلها فلا ينظر إلى الوطنيين إلا نظراً شهوانياً محضاً ولا يعتبرهم إلا وسائل لتنفيذ أغراضه السافلة وإطفاء نار شهوته الحيوانية. إن أمثال تلك الأخبار لا تنقطع عن أوربا أسبوعاً واحداً وكثيراً ما تزيد ذنوب أحد هؤلاء المتمدنين المتوحشين فيسأل عن أمره ويحاكم ولا تحمل الصحف وصف الجرائم التي ارتكبها والذنوب التي اقترفها إلا وترتجف أوربا كلها من ذلك.

على أن لدينا في شمال إفريقية مثالاً واضحاً كل الوضوح يدل على عجز الأوربي عن ابتلاع الوطني أو جلبه إلى حظيرة المدنية الأوربية فإن الفرنسيين على ما هم عليه من الصفات التي تفردوا بها دون غيرهم خابوا في الجزائر كما خاب غيرهم في غيرها. وانقضت ثماني عشرة سنة والفرنسيون يجردون الحملات ويعبئون الجنود ويحشدون الجيوش حتى انتصروا على عرب الجزائر وقد مضى عليهم سبعون ستة في البلاد ولا يزال العرب يكرهونهم وينتظرون فرصة تمكنهم من خلع نير فرنسا عن بلادهم. ولطالما حاولت فرنسا بث النصرانية ففشلت فشلاً قبيحاً. فإذا أصر العرب على البقاء على دينهم ورفضوا المدنية المسيحية فإنهم لا محالة يبيدون.

وحيث نظرنا في إفريقية فإنا نرى مستقبل أهليها أسود قاتم إذ لا نرى في أوربا لإفريقية أملاً. وليس أمامنا إلا وسيلة واحدة وهي أن تهب قوة إسلامية وتختلط بتلك الشعوب فتستطيع بدينها أن تصل إلى أعماق قلوب الوطنيين وبذلك يمكن منحهم مدنية إن لم تكن أحسن مدنية فإنها بلا ريب يجهزهم إلى ما هو أرقى منها من المدنيات ولا نرى مدنية قادرة على القيام بذلك العمل الجليل إلا مصر بعد تحريرها.