مجلة المقتبس/العدد 38/عبث الوليد
مجلة المقتبس/العدد 38/عبث الوليد
أبو تمام حبيب الطائي وأبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي وأبو عبادة البحتري هم الشعراء المعول على شعرهم في المولدين جمعوا إلى جزالة الألفاظ وحسن السبك معاني الحضارة وأساليب الحكمة ولذلك كانت دواوينهم من جملة ما يقضي على طالب الأدب أن يتدارسها ويستظهرها وكانت مما أوصى بتعلمه ضياء الدين بن الأثير صاحب المثل السائر كل مشتغل بالمنظوم والمنشور لأنها حوت عامة المزايا اللغوية والأدبية. ومن أجل هذا ترى هذه الدواوين قد خدمت أجل خدمة منذ القديم ولاسيما ديوان أبي تمام وديوان أبي الطيب فنظر فيهما مشاهير اللغويين والعلماء وتعاورتهما الأقلام بالشرح والنقد إلا ديوان أبي عبادة البحتري لم نسمع بأن أحداً من العلماء تصدى لنقده غير أبي العلاء المعري.
فإن هذا العلامة الحكيم اللغوي أبى أن يغفل كلام البحتري من وضعه على محك انتقاده بعد أن ألف في ديواني الطائي والمتنبي كتابين مستقلين دعا الأول ذكرى حبيب والثاني معجز أحمد ـ فألف في الثالث كتاباً سماه عبث الوليد قال في مقدمته: أثبت ما في ديوان البحتري ما أصلحُ من الغلط الذي وجد في النسخة المكتوب في آخرها أنها بخط ظفر بن عبد الله العجلي وإنما أثبت ذلك ليكون مولاي الشيخ الجليل أدام الله عزه كأنه حاضر للقراءة ولم يمكن إثبات جميع الأغلاط لأن أكثرها غير محيل وقد وُصل بذكر شيء مما جرى إليه أبو عبادة من الضرورات وما بجنبه أمثاله وبالله التوفيق.
قال أبو العلاء في الكلام على قول أبي عبادة:
إذا تشاكلت الأخلاق واقتربت ... دنت مسافة بين العجم والعرب
إذا وقعت بين في هذا الموقع فالاختبار خفضها وكذلك ترفع إذا وقعت في موقع وقع كما جاء في الكتاب العزيز لقد تقطع بينكم أكثر القراء على الرفع ويجوز النصب فقال قوم يكون الاسم مضمراً كأنه قال لقد تقطع الوصل بينكم وقال قوم يضمر ما كأنه قال لقد تقطع ما بينكم وحسن حذف ما ههنا كما حسن حذف لا إذا قيل والله أفعل أي والله لا أفعل قال امرؤ القيس:
كلاَّ يمين الإله يجمعنا ... شيءٌ وإخواننا بني جُشما
أي لا يجمعنا. وهذا البيت ينشد بخفض بين ونصبها.
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم فالخفض على الإضافة والنصب وعلى تقدير ما
وقال المعري في مكان آخر: وكان في النسخة هذه الأبيات التي أولها:
يا أمتا أبصرني راكب ... يسير في مسحنفر لاحب
والأبيات الثلثة منها مذكورة في أمالي قوم من العلماء المتقدمة ويجوز أن يكون غلط بها على أبي عبادة فنسبت إليه أو ظنها بعض الناس من شعر العرب فألحقها بما يحكى عنهم والبيت الثالث الثابت في هذه النسخة لا يوجد في الحكاية المتقدمة وقد اختلف في أشياء من هذا الجنس وربما حسد بعض فنسب شعره إلى المتقدمين ليُكاد بذلك وينقص من قدره. وحكى بعض الكتاب أنه رأى كتاباً قديماً قد كتب على ظهره أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب من الجآذر في زي الأعاريب. وذكر خمسة أبيات من أول هذه القصيدة وهذا كذب قبيح وافتراء بيّن. وإنما فعله مفرط الحسد قليل الخبرة بمظان الصواب غرضه أن يلبس على الجهال. وقد رويت أبيات أبي عبادة التي في صفة الذئب لبعض العرب ويجب أن يكون ذلك كذباً مثل ما تقدم في حديث البائية التي لأبي الطيب. وقد نسبوا الأبيات التي في صفة الذئب إلى عبد الله بن أنيس صاحب النبي ﷺ وهو من بني الترك راشد بن وبرة ولا ريب أن ذلك باطل والرواية التي يرويها أصحاب اللغة يجيئون بالبيتين الأولين فيجعلونهما من قول الجارية ثم يقول فأجابتها أمها:
الحصن أدنى لو تأَييته
على أن هذه الأبيات بعيدة من نمط أبي عبادة وإن كان الشاعر المغزر يجوز أن يأتي بكل فن من القول.
وقال المعري في الكلام على بيت البحتري الذي هو:
والحدود الحسان يبهى عليها ... جلنار الربيع طلقاً وورده
جلنار من أطراف كلام العامة وليس هو اسماً موجوداً في الكلام القديم ويجب أن يكون المراد به جل نار أي ما عظم من الجمر ثم كثر في كلام العامة حتى جعلوه كالاسم الواحد وأجروه مجرى الأسماء العربية غير المركبة. والشعراء والمولدون يعربون الراءَ فيقولون كأنه جلنار ورأيت جلناراً ولو أضافوه وقالوا جلَّ نار لكان أقيس ولو أنهم جعلوه بمنزلة حضرموت لوجب أن يقول هذا جلنار ورأيت جلنار ومررت بجلنار فلا يصرفون ولم يأخذوا به في هذا المنهاج بل أدخلوا عليه الألف واللام فقالوا الجلنار واجتروا على توحيده فقالوا جلنارة فأجروه مجرى تمر وتمرة وقال بعض المحدثين:
غدت في لباس لها أخضر ... كما تلبس الورق الجلنارا
ولا أعلم هذا الاسم جاء في شعر فصيح وإنما هو لفظ محدث وكأنه في الأصل جاء على معنى التشبيه شبهوا حمرته بحمرة الجمر وهو جل النار ثم تصرفوا فينقله وتغييره وقالوا في تسمية الطعام الفارسي نيرباج وزعموا أن نير بالفارسية رمان وفارس تنطق بالياء كأنها ألف والألف كأنها ياء فيجوز أن يكون نار في جل نار من هذا النحو فكأنهم أرادوا جل الرمان ويجوز أن يكون جل بلسانهم في غير هذا المعنى على أن لغتهم اختلطت بالعربية وصارت فيها حروف كثيرة من كلام العرب وهم يسمون الفارسية الخالصة الفهلوية والذين يتكلمون بها اليوم قليل تفتقر إليهم الملوك في تفسير سير المتقدمين.
وقال في كلامه على بيت:
أسند صدور اليعملات بوقفة ... في الماثلات كأنهن المسند
أشبه ما يجعل المسند ههنا أن يكون في معنى خط حمير لأن مذهب الشعراء في ذلك معروف وإياه قصد أبو عبادة كما قال ذؤيب:
عرفت الديار كرقم الدواة يزبرها الكاتب الحميري
وكانوا يسمون خطهم المسند وسموا هذا الخط العربي الجزم لأنه جزم من ذلك الفن أي قطع وقد يحتمل أن يعنى بالمسند الحديث المسند أي هذه المنازل قد صار حديثاً يذكر.
وقال في الكلام على بيت:
يغضون دون الاشتيام عيونهم ... فوق السماط للعظيم المؤَمر
الاشتيام كلمة لم يذكها المتقدمون من أهل اللغة فإذا سئل من ركب البحر عنها قال البحريون الذين يسلكون بحر الحجاز يسمون رئيس المركب الاشتيام فإن كانت هذه الكلمة عربية فهي الافتعال من شام البرق لأن رئيس المركب يكون عالماً بشؤون البروق والرياح ويعرف من ذلك ما لا يعرفه سواء فكأنه سمي بالمصدر من اشتئام كما قيل رجل زور وهو مصدر زار ودنف وهو مصدر دنف وفي البحر سمكة تعرف بالاشتيام وهي عظيمة ويجوز أن يكون سميت برئيس المركب كأنها رئيسة السمك وإذا أخذ بهذا القول فهمزة الاشتيام همزة وصل وإن صار في البيت زحاف قد جرت عادته باستعمال مثله وإن كان الاشتيام كلمة أعجمية فألفه ألف قطع كألف إبريسم وإبرهيم ونحو ذلك. وقال في قوله:
إن أتبع الشوق أزراءً عليه فقد ... جافى من النوم عن عيني ما جافا
قوله أزراءً عليه رديءٌ وإنما المعروف أزريت به وزريت عليه وقد عابوا على ابن دريد قوله في رسالة الجمهرة إلى الأزراء على علمائنا وقد حكى بعض أهل اللغة أزريت عليه وليس بمعروف وإنما الفصيح أزري به كما قال الأعشى:
فإن تعهدي لامرئٍ ملةً ... فإن الحوادث أزرى بها
ومثل هذا ما صححه للبحتري في قوله: إذا استقلته جرد الخيل فقال أنها غير مستعملة وإنما المعروف إذا استقلت به ويقولون استقل القوم إذا ساروا غير متعد وإنما أراد بقوله استقلته أقلته ولو قال أقلته لاستقام الوزن ولعل أبي عبادة كذلك قال: كما أنكر عليه لفظة البرطيل الذي تستعمله العامة في معنى الرشوة وقال أنه لا يعرف في الكلام القديم وكذلك وردت لفظة الأطروش فيشعر البحتري فأنكرها المعري وقال أنه لا أصل لها في العربية وقال في:
أخواله للرستمين بفارس ... وجدوده للتبعين بموكل
يروى للرمسين على الجمع وكذاك التبعين ويروى بالتثنية والجمع أشبه لأنه قال أخواله فجمع وكذلك قال جدوده فإن تكون الأخوال والجدود لملوك كثيرة أشبه من أن تكون لملكين وموكل اسم موضع باليمن ويقال أنها دار مملكة جمير وهو مفتوح الميم والكاف وكذلك نقل أهل اللغة وكان أبو عمرو والزاهد يقول الموكل قبة الملك فإن كان ذلك شيئاً قديماً سمعه فقد يجوز أن يكون حمل على أن هذا الموضع يقال له موكل وهو مقر مملكة القوم والذي يتهم به أبو عمرو يتخرج كثير منه على هذا النحو وكأن قبة الملك تسمى موكلاً لأنه يقعد فيها ويكل أموره إلى الخدم والحشم وقدم هذه البلاد رجل من أهل نجران ممن يسكن في البادية فصيح ينتمي إلى زبيد من مذحج فسمع فتى في المكتب ينشد هذه القصيدة فلما انتهى بموكل كسر الكاف فقال النجراني موكل وكذلك حكاه أهل العلم.
وقال في كلامه على:
وكنا نرى بعض الندى بعد بعضه ... فلما انتجعناه دفعنا إلى الكل كان المتقدمون من أهل العلم ينكرون إدخال الألف واللام على كل وبعض وروى الأصمعي أنه قال كلاماً معناه قرأت آداب ابن المقفع فلم أر فيها لحناً إلا في موضع واحد وهو قوله: العلم أكبر من أن يحاط بكله فخذوا البعض وكان أبو علي الفارسي يزعم أن سيبويه يجيز إدخال الألف واللام على كل لا أنه لفظ بذلك ولكنه يستدل عليه بغيره والقياس يوجب دخول الألف واللام على كل وبعض وقد أنشد بعض الناس قول سحيم عند بني الحسحاس:
رأيت الغني والفقير كليهما ... إلى الموت يأتي الموت للكلى معمدا
هذه نموذجات من كتاب عبث الوليد وقد وقع في 94 ورقة وحوى فوائد لغوية وأدبية قلما يعثر عليها في الكتب المتداولة وقد جاء في آخره تم الإملاء المعروف بعبث الوليد وهذه السمة موقوفة بين أمرين أحدهما أن يراد عبث الوليد الذي هو البحتري والآخر أن يعني الوليد الذي هو الصبي وكون الرجل سمي بالوليد يحتمل هذه التسمية.