مجلة المقتبس/العدد 38/ضراء العلماء
مجلة المقتبس/العدد 38/ضراء العلماء
يلد الإصلاح بادئَ بدءٍ غريباً لا يأنس به إلا ذوو الاستعداد الفطري للمبادئ العالية وأبناء العلم والتهذيب من رجال الأمة والبقية منهم يناهضونه إما بدافع جهلهم وتعصبهم أو لعدم انطباقه مع ما ينزعون إليه من التقاليد التي وجدوا عليها آباءهم ولهذا تعترضه قبل أن يدرج من عشه قوتان متناقضتان: الواحدة تسعى لإنمائه والأخرى تعمل على تلاشيه ويساعد الثانية في الغالب مال وخول في ملك ضخم البنيان وجاء منبسط الظلال. . .
بين هاتين القوتين تشهر حرب شعواء يضطرب لها فلك الإصلاح ولا بد أن تنجلي وقد أزهق الحق الباطل لأن القوة الحقيقية بجانبه. ولقوة الحق حركة كبرى في ميدان تنازع البقاء.
إلا وأن أنصار الباطل كانوا وما زالوا في كل عصرٍ ومصر يوقظون الفتنة ويضرمون جذوة الثورة فيقومون بدعوى الغيرة على الدين مرة وخدمة النفع العام تارة أخرى وما يريدون بذلك كما يشهد الحق إلا منافعهم الشخصية فهي قبلة آمالهم التي يولون شطرها وكعبة أميالهم التي يسوقون نحوها مطايا همهم وهممهم.
وليس أضر شيئاً على العلم والدين من هؤلاء فبمثلهم كسد سوق العلم وراجت بضاعة الجهل المزجاة وهم بما يختلقونه من الأوهام مثلوا الدين بأقبح صورة مشوهة يفر منها الناظر فرار السليم من الأجرب وفسحوا للدين مجالاً واسعاً أمام الأغيار فأخذوا يسلقونه بالسنة حداد وينزلونه في غير المنزلة التي وضعها السلف الصالح أيام كانوا على بيضاء نقية لا يضرهم من خالفهم إذا كانوا هم المهتدين.
منيت الأمم الإسلامية جمعاء بمثل هؤلاء منذ ثلاثة عشر قرناً أو ما يزيد. بيد أنه مع وجود هذه الطغمة بين ظهرانيهم وارتفاع جلبتهم وضوضائهم وعملهم على إطفاء شعاع الأماني الذهبية في مهب تلك العواصف لم تعدم رجالاً توفرت على الأخذ بناصر الحق وسلبت قرارها رغبة فيشد أزره ممن تمحضوا للعلم الخالص واغترفوا من معينه وشلا فكانت القوة بجانبهم ينافحون بها أعداء العلم الألداء ويكافحونهم والغلبة لهم وإن تألبت عليهم الجموع الكثيفة وتحلقت أمامهم الصفوف كالبنيان المرصوص ممن تجمعهم جامعة الجهل تحت لواء الحسد اللئيم.
شهد شيخنا التاريخ منذ نشأ الفكر البشري هذه الأعمال البربرية ولم تزل صفحاته ندية بعد فلم يجف ما أريق من الدماء في سبيل نصرة الحق ولم يتبخر ما أذرف من الدموع الصافية المصدر والمورد على تلك العقول الرصينة التي بينما ترصد فضاء السماء الفسيح إذا بها تفحص أعماق هذه الأرض وتجتهد في استكناه أسرار الحياة المطوية طي كتل تلك الطبقات الصماء. وها هو قد حشد في صدره ألوفاً مؤلفة ممن ذهبوا ضحية الجهل والحسد ما لو جمع وأُفرد بمؤَلفات خاصة لأخرجت للناس مجلدات ضخمة في محكمة التفتيش الإسلامية الكبرى.
وليس بالنزر القليل ما نال الأئمة المصلحين من النكبات التي يسود لها وجه الإنسانية فكم كفر من هو أشد تمسكاً بدين الله وأتوا على من هو أعظم اعتصاماً بحبله المتين وحكم بالزندقة على من كان يحارب الدهريين وضلل من كان يجاهد في سبيل الشرك واضطهد من كان يعمل فكرته للاجتهاد والعمل في كتاب الله وسنة رسوله.
ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد فلم يتخطوا دائرة الإنسانية بتمثيلهم عباد الله المصلحين أقبح تمثيل وضربهم بالأسواط حتى تشل الأطراف أو تعتل إحدى الأعضاء فتفقد وظيفتها وسلخهم جلودهم وهم أحياء مما لم يعهد نظيره إلا بين ظهراني الأمم العريقة في التوحش والعمجية.
وأمامي الآن كثيرٌ من أمثال تلك الحوادث في بطون عدة من التواريخ التي تضم تراجم مشاهير المشارقة والمغاربة آتي على شيءٍ منها مقتصراً على رجال الفريق الأول ممن ذاقوا الأرم ولقوا من معاصريهم إلا لاقي لقآء بث فكرةٍ إصلاحية أو القيام بمشروع جديد ليعلم أن التاريخ هو المحشر الذي ينسل إليه الناس من كل حدب وأنه لا يفلت أحداً دون أن يناقشه الحساب:
هذا مالك بن أنس سعي به إلى جعفر بن علي بن عم أبي جعفر المنصور فدعا به وجرده وضربه سبعين سوطاً ومدت يداه حتى انخلع كتفاه وذلك جزاء قوله الحق حين سئل عن مبايعة محمد بن عبد الله بن حسن وقولهم له: إن في أعناقنا مبايعة أبي جعفر فقال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين فأسرع الناس إلى محمد فسعى به فضرب لذلك.
قال صاحب الفلاكة: ثم لم يزل بعد في علو ورفعة كأنما تلك السياط حلياً تحلى بها. وهذا أبو حنيفة النعمان الفقيه الكوفي ضربه يزيد بن عمر بن هبيرة الفرازي وكان أمير العراقيين مائة سوط وعشرة أسواط وكل يوم عشرة أسواط أيضاً وذلك لما أراده لقضاء الكوفة أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية فأبى وبقي على الامتناع وسجنه فتوفي في السجن في أحد القولين. وقيل: أن سبب سجنه الأبدي ما ذكره الزمخشري وهو من كبار الحنفية في تفسير آية: لا ينال عهدي الظالمين إن أبا حنيفة رحمه الله كان يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علي رضوان الله عليهما وحمل المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب المسمى بالإمام والخليفة كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل فقال: ليتني مكان ابنك وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على بناء آجره لما فعلت اهـ. وحينئذ بعلم الباحث المدقق أن سبب سجنه أمر سياسي.
ومثله أحمد بن حنبل بن هلال الشيباني المروزي ثم البغدادي أمر المعتصم بضربه فأخذ وجيء بالعقابين والسياط وضربه ضرباً مبرحاً حتى أغمي عليه وغاب عقله ثم أمر بإطلاقه إلى أهله فنقل وهو لا يشعر وذلك أنه أبى أن يقول خلاف ما يعلم أو يعتقد حين أجلسه المعتصم ودعاه إلى القول بخلق القرآن فامتنع وقال للمعتصم ما قال ذلك ابن عمك رسول الله ﷺ. فقد دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن القرآن علم الله ومن علم أن علم الله مخلوق فقد كفر. فناظره أحمد بن أبي دؤاد وغيره وأنكروا عليه الآثار التي أوردها وقالوا للمعتصم هذا كفرك وأكفرنا وقال له إسحق بن إبراهيم نائب بغداد: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين فعند ذلك حمي واشتد غضبه وكان ما كان.
وكذلك يوسف بن يحيى البويطي صاحب الإمام الشافعي كان الشافعي يسأل عن الشيء فيحيل عليه فإذا أجاب قال: هو كما أجاب وقال عنه الشافعي هو لساني حمل إلى بغداد في أيام الواثق بالله من مصر وفي عنقه غل وأرادوه على القول بخلق القرآن فامتنع ومات بالسجن في قيوده.
وضم إلى هؤلاء الأئمة من أساطين العلم والعمل من لم يرفعوا الأعمال المفسدين رأساً ولم يقيموا لها وزناً وليس ما أصابهم من المصائب بأقل مما نال الأغمار من معاصري الأخير أن تألبوا عليه وكادوه واستظهروا عليه بالأمراء فأحرقوا كتبه الثمينة ومصنفاته وفي ذلك قال:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القطراس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل أن أنزل ويدفن في قبري إلخ.
وإنك لترى العجب العجاب حينما تأتي على تراجم المشاهير وما تجد في غضونها من المحن والإحن التي قصد من إيقاعها بهم غمط فضلهم والحط من كرامتهم ووضعهم أمام سيل شهرتهم الجارف سوراً من الجمود أركانه التعصب الأعمى ودعائمه الجهل المطبق.
ولقد أفضت ضراء العلماء والوقيعة بهم إلى الطعن بالمذاهب وقيام طائفة على أخرى كلما لاح لها من الفرصة بارق. ومن ذلك قيام الأكابر على محمد بن هبة الله بن محمد بن الحسين الملقب بلقب أبيه جمال الإسلام وحدهم له فإنهم خاصموه واستظهروا بالسلطان عليه وعلى أصحابه وصارت الأشعرية مقصودين بالإهانة والمنع عن الوعظ والتدريس وعزلوا من خطابة المجامع وتبع من الحنفية طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال والتشيع فخيلوا إلى ولي الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عموماً وبالأشعرية خصوصاً قال السبكي: وهذه هي الفتنة التي طار شررها وطال ضررها وعظم خطبها وقام في أهل السنة خطيبها فإن هذا الأمر أدى إلى التصريح يلعن أهل السنة في الجمع وتوظيف سبهم على المنابر وضار لأبي الحسن الأشعري بها أسوة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه واستعلى أولئك في المجامع فقام أبو سهل في نصر السنة قياماً مؤَزراً إلخ. . .
ومما يجدر ذكره في هذا الباب من المتأخرين الشيخ عبد الغني النابلسي فإن أهل الشام تألبوا عليه ووصموه بوصمات لم تكن من الشيخ رحمه الله في شيء. وما دعا أولئك الرعاع إلا حسدهم لمنزلة الشيخ حتى اضطروه إلى مغادرة دمشق والسكنى بالصالحية حيث دفن ثمة. وفي ذلك يقول من قصيدة مطلعها:
يا من تكلم فينا بالذي فيه ... وقعت في كف ضرغام وفي فيه
إلى أن قال:
فقد جحدت الغيور الحق ملته ... هيهات أنك تنجو من أياديه
وإن جهلت فما بالكفر يعذر ذو ... جهل لذي الشرع والشيطان يطغيه
دم في ظنونك مفتوناً فسوف ترى ... من الذي منه قبح الفعل يرديه ولا تقل أي جاهٍ للضعيف يرى ... فإن للبيت رباً سوف يحميه
يا مستبيحين أعراضاً محرمةً ... بسوء ظن وتلبيس وتمويه
أهكذا ملة الإسلام تأمركم؟ ... أم قد سلكتم عن الإسلام في تيه؟
تباً لكم ولمن قد عاد يتبعكم ... والعبد مولاه في الأعداء يكفيه
وبعد فإن التاريخ يعيد نفسه والحوادث لا تفتأ تتعاقب على ممر الأيام وإن الحال صورة من الماضي وإن طرأ عليه من مؤثرات التجديد ما أدخله في طور جديد ولا يخلو كل عصر من شرذمة نفاق واختلاق حتى في هذا العصر يعترضون كل عمل نافع يقوم به المصلحون في مصر وسورية والعراق ويعينهم فيما يطلبون تلكم الرعاع الذين هم أتباع كل ناعق.
ألا فليعلم أولئك الأغرار أن موت المصلحين في سبيل نصرة الحق بعث ونثور وأن رمي الآخرين بالكفر والزندقة هو حياة لهم وذكرى. ولقد كانت لأولئكم الجهلة الأغمار حياة مادية ولكن كانوا يتجرعون منها الحنظل ويموتون في كل يوم مراراً. وكانت لهؤلاء العلماء المصلحين شعلة حياة مادية أطفأها الحسدة فحلت محلها حياةٌ أدبية مملوءةٌ ضياءً ونوراً! دمشق ـ
صلاح الدين القاسمي