مجلة المقتبس/العدد 3/مصر
مجلة المقتبس/العدد 3/مصر
معربة عن الفرنسية
بلادها - مصر عبارة عن وادي النيل وهي في مضطرب ضيق خصيب ممتد على ضفتي النهر بين سلسلتين من الصخور طولها 240 فرسخاً ويكاد عرضها لا يتجاوز خمسة فراسخ وعند منقطع الصخور تبدأ الدلتا. وهناك سهل واسع تتخلله شعب النيل وترعه. فمصر كما قال هيرودتس أبو التاريخ هبة من النيل.
النيل - يزخر النيل كل سنة في الانقلاب الصيفي بعصارات ثلوج بلاد الحبشة فيفيض على أراضي مصر العطشى يرتفع ثمانية أمتار وأحياناً عشرة فتصبح البلاد كالبحيرة وتبرز القرى المشيدة على الآكام كأنها جزيرات ثم تنخفض المياه في أيلول (سبتمبر) ويعود النهر في كانون الأول (ديسمبر) إلى مجراه الأصلي وقد ترك في كل مكان طبقة من الطين خصبة وهي الإبلز وتسمى الطمي. هذه الرواسب تقوم مقام السماد ويكاد يزرع في التربة الندية بدون حرث. فالنيل إذا يأتي مصر بالماء والتربة وإذا تحول عنها تعود مصر كالبلاد المحيطة بها قاعاً صفصفاً، ورمالاً مجدبة، ما أمطرتها السماء وابلاً ولا رذاذاً. ولم يجهل المصريون فيما مضى ما يجود به نيلهم من الخيرات الحسان وهاك نشيداً كانوا ينشدونه تعظيماً له: سلام عليك أيها النيل أنت الذي تتجلى على هذه الأرض وتأتي بسلام فتحيي موات مصر. أنت إذا انجليت تملأ الأرض طرباً، والقلوب بشراً، فينال كل مخلوق قوته، وكل سن ما تقضمه، رحماك إنك تأتي بالأرزق الطيبة وتنتج كل خير ومير وتنبت للبهائم مرعاها.
غنى هذه البلاد - مصر على التحقيق واحة في قفر إفريقية تنبت تربتها البر والفول والعدس وأنواع البقل. والنخيل فيها غابات وآجام. وفي تلك المروج التي يرويها النيل بمائه ترعى قطعان الغنم والثيران والعنز والإوز وتكاد مساحتها تساوي بلاد البلجيك (29400 كيلومتر مربع) ومصر اليوم تقوم بأود 11 مليوناً من السكان وهي نسبة لا تعهد في أوربا على أن مصر كانت آهلة بالسكان قديماً أكثر منها اليوم.
روايات هيرودتس - عرف اليونان مصر أحسن من معرفتهم سائر الممالك الشرقية فزارها هيرودتس أبو التاريخ في القرن الخامس ق. م ووصف في تاريخه فيضان النيل وأخلاق السكان وأزياءهم ودينهم وذكر حوادث من تاريخهم وحكايات لقنها من أدلائه. وتكلم ديودور وسترابون على مصر أيضاً. بيد أن كل من ذكروها رأوها في انحطاط فلم يتيسر لهم أن يعرفوا شيئاً عن قدماء المصريين.
شامبوليون - دعت حملة الفرنسيين على مصر (1798_1801) إلى فتح أبواب الديار المصرية للعلماء فهرعوا إليها يزورون الأهرام وخرائب ثيبة عن أمم ويعودون منها وقد حفل وطابهم بالصور والآثار. ولم يكن لأحد أن يحل الخط المصري المسمى بالهيروغليفي. وتوهم الناس أن كل خط من هذه الكتابة يقوم مقام كلمة حتى إذا كان عام 1821 خالفهم شامبوليون أحد علماء الفرنسيين وعمد إلى طريقة أخرى وجاء أحد الضباط من رشيد بأثر ذي خطوط ثلاثة كانت الخطوط الهيروغليفية المسطورة بها مترجمة إلى الرومية. وهذا الأثر يمثل الملك بطليموس محاطاً بدائرة. فتوصل شامبوليون بهذا الاسم إلى الاطلاع على حروف ولدى مقابلتها بأسماء ملوك أخر وكانت أيضاً محاطة بدائرة اكتشفت حروف الهجاء. ولما تيسرت له قراءة الخطوط الهيروغليفية ظهر له أنها كتبت بلغة تشبه القبطية وهي اللغة التي شاعت بمصر على عهد الرومان وعرفت حق معرفتها.
علماء الآثار المصرية - جاء بعد شامبوليون زمرة من العلماء توفروا على دراسة أحوال مصر واكتشاف جليها وخفيها وتدعى هذه الفئة من العلماء اجبتولوك أي المشتغلون بالآثار المصرية ولهم رصفاء في ممالك أوربا كافة. وقد أجرى ماريت (1821_1881) من المشتغلين بالآثار المصرية على نفقة خديوي مصر ما يقتضي من الحفريات وأحدث متحف بولاق. وأنشأت فرنسا في القاهرة مدرسة لتعليم الآثار المصرية ناطت إدارتها بالمسيو ماسبرو.
الاكتشافات الحديثة - لا يعثر في بلد من بلدان الأرض على خبايا ثمينة كخبايا مصر ودفائنها لأن المصريين كانوا يبنون قبورهم أشبه بدور يضعون فيها ما يقتضي للميت من ضروب الأمتعة والأثاث والرياش والسلاح والطعام وقد غصت البلاد بالقبور الطافحة بهذه الذخائر والأعلاق. وساعد إقليم مصر الجاف الهواء على حفظ هذه الأمتعة سالمة بعد مضي أربعة أو خمسة آلاف سنة. فلم يترك شعب من الشعوب القديمة أثراً كآثار قدماء المصريين وما عرفنا شعباً معرفتنا له.
المملكة المصرية
قدم الشعب المصري - قال كاهن مصري لهيرودتس: أنتم معاشر اليونان أطفال. كلام يفهم منه أن المصريين كانوا يرون أنفسهم أقدم أمم العالم فقد قامت ست وعشرون سلالة ملكية إلى عهد الفاتح الفارسي سنة 520ق. م ترتقي أولاها إلى أربعة آلاف سنة. وكانت مصر دولة في خلال هذه الأربعين قرناً فجعلت منفيس في بلاد الصعيد عاصمتها أولاً إلى عهد السلالة العاشرة (وهو دور الدولة القديمة) ثم صارت مدينة ثيبة في مصر العليا (وهو دور الدولة الحديثة).
منفيس والأهرام - بنى مدينة منفيس أول من ملك مصر وسورها بسور منيع فبقيت سالمة من بوائق الأيام زهاء خمسة آلاف سنة ثم أخذ السكان أحجار أنقاضها في القرن الثالث عشر وبنوا بها مساكن القاهرة وما تركوه منها أتى عليه النيل وسدل دونه حجاباً أما الأهرام فلا تبعد كثيراً عن منفيس ويرد عهدها أيضاً إلى الدور القديم وهي قبور ثلاثة ملوك من السلالة الرابعة وعلو أعظمها 147 متراً عمل في بنائه مائة ألف عامل مدة ثلاثين سنة. وقد أقيمت سدود منحدرة قليلاً لرفع الأحجار إلى شاهق ثم خربت.
التمدن المصري - يدل ما يستخرج من قبور تلك الأعصر من هياكل وصور وأدوات على أن هناك شعباً متمدناً. فقد عرف المصريون قبل ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة للميلاد حراثة الأرض ونسج الثياب وتطريق المعادن والنقش والرسم والخط وكانت لهم ديانة منظمة وملك وإدارة. على حين كانت الأمم النبيهة وهم الهنود والفرس واليهود واليونان والرومان في حالة الهمجية مأثورة مذكورة.
ثيبة - خلفت ثيبة مدينة منفيس فصارت عاصمة البلاد على عهد السلالة الحادية عشرة ولم تزل خرائبها المدهشة في لوح الوجود وهي ممتدة على ضفتي النيل ومحيطها نحو اثني عشر كيلومتراً. وعلى الشاطئ الشمالي صف من القصور وهي لقصر والكرنك تبعد بعضها عن بعض نصف ساعة بنيت كلتاهما وسط الخرائب ويجمع بينهما شارع ذو صفين من تماثيل أبي الهول وكان هناك قديماً أكثر من ألف أبي الهول. وأعظم هذه المعابد الحربة معبد عمون في الكرنك أحيط به سور محيطه 2300 متر. وأن طول أشهر قصر (ايبوستيل) وأعظمه في العالم مائة ومتران وعمقه 53 متراً وهو حجم عمود فاندوم.
وكانت ثيبة عاصمة ومدينة مقدسة ومقر الملوك ومسكن الكهنة نحو ألف وخمسمائة سنة.
فرعون - يعتبر ملك مصر المعروف بفرعون ابن رب الشمس ومثاله على الأرض ويزعمون أنه كان هورباً. وقد شوهدت صورة الملك رعمسيس الثاني جالساً بين ملكين. فالملك يتعبد إنساناً ويعبد ملكاً ولفرعون سلطة مطلقة على البشر لربوبيته فيحكم حكم المولى على كبار سادات قصره وعلى المقاتلة ورعاياه كافة والكهنة في عبادتهم إياه يلتفون من حوله ويحرسونه فيكون رئيسهم الكاهن الأعظم للرب عمون المستأثر بالحول والطول دونه وقد يحكم باسم الملك ويخلفه في الأحايين.
الرعايا - يملك مصر من أعلاها إلى أسفلها الملك والكهنة والجند والموالي وما عداهم فوصفاء يستخدمونهم في حرث الأرض وعمال الملك يلاحظونهم ويقبضون ثمار عملهم بضرب العصي أحياناً وإليك ما كتبه أحد هؤلاء الموظفين إلى صديق له: ألا تذكر حالة الفلاح الذي يحرث الأرض فإن جابي الأموال يقف على الرصيف المعد لجباية عشر الغلات وثلة من العمال بعصيهم يتبعونه وزنوج ماسكون بأيديهم سعفات النخل يصرخون بصوت واحد: البدار البدار إلى تسليم الحبوب. وإذا لم يكن للفلاح ما يؤديه من الغلات يلقونه على الأرض ويشدون وثاقه ويجرونه في الترعة رأسه إلى تحت وقدماه إلى فوق.
كيفية حكم مصر - كان الشعب المصري أبداً ولم يزل بعد فرحاً لا يهتم خاضعاً خانعاً أشبه بالطفل المستسلم إلى ظالمه. وكانت العصافي هذه البلاد أداة التربية والحكومة حتى كان أعوان الملك يقولون: (خلق ظهر الفتى ليضرب فهو لا يمتثل الأمر إلا إذا ضرب) ذكر أحد سياح الفرنسيين أنه كان واقفاً ذات يوم أمام خرائب ثيبة فهتف قائلاً: ليت شعري كيف بنوا كل هذا. فاستضحك دليله وقال ماسكاً بيده مشيراً إلى نخلة: بهذه بنوا هذا أجمع اعلم يا مولاي أنه إذا كسرت مائة ألف سعفة من سعف النخل على ظهر من أكتافهم عريانة أبداً تبنى قصور كثيرة ومعابد.
اعتزال المصريين - قلما خرج المصريون من بلادهم لما أنهم حاذروا ركوب البحر ولذلك لم تكن لهم ملاحة وما اتجروا والشعوب الأخرى ولم تعرف لهم بحرية إلا على عهد الدولة السادسة والعشرين وما كانوا أمة حربية قط. ولقد قاد ملوكهم الجند في حروبهم واتخذوا القتال دينهم فبعثوا البعوث إلى زنوج الحبش تارة وإلى القبائل السورية أخرى فإذا غلبوا صوروا صورة النصر على جدران قصورهم ومتى قفلوا راجعين من غزاتهم يأتون بالأسارى فيستخدمونهم في بناء المعاهد على أنهم ما أحرزوا قط نصراً مؤزراً ولا فتحوا فتحاً مبيناً فدهم الأغيار مصر أكثر مما حمل المصريون على الأغيار.