مجلة المقتبس/العدد 29/الفتوة والفتيان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 29/الفتوة والفتيان

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1908



قرأت ما نقلتموه عن تاريخ ابن الساعي من أمر الفتوة والفتيان وذهبتم إلى أنها بجمعية سياسية والأليق أن يقال أنها جمعية للإنسانية تعاهد المنتظمون في سلوكها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقويم المعوج وإغاثة الملهوف وقرى الضيف وما أشبه ذلك من مكارم الأخلاق ولما كان لا بد لمن نصب نفسه للقيام بهذه المقاصد من فرط القوة والنجدة وتوفر الحمية والحفيظة فكان لا بد في هذه الحالة من أن تثور تلك الحمية التي قد تنقلب أحياناً حمية جاهلية وتدخل فيها المنافسات والمناظرات والتساجل بقوة الساعد ووثاقة العضل أو حسن الرماية أو إتقان المضاربة والمطاعنة مما قد يبعد بالجمعية عن أصل وضعها ويصيرها نوعاً مما يقال له مشيخة شباب في بلادنا فيلبس الفتيان سراويلات مخصوصة ويتنافسون في أمور هي محض جهالة ودعارة وإن كان أصل المقصد سامياً شريفاً فقد احتوت هذه الجمعية في وقتها على ما يمدح ويذم شأن سواها من الجمعيات وقد كان يعاب على الخليفة الناصر العباسي اشتغاله بهذه المسائل فقرأت في تاريخ أبي الفداء صاحب حماه في حوادث سنة سبع وستمائة أنه وردت في تلك السنة رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف أن يشربوا له كأس الفتوة ويلبسوا لها سراويلها وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق ويجعلوه قدوتهم أهـ لا جرم أن هذا مما يترفع عنه الخلفاء ولا يليق بأصحاب هاتيك المقامات ثم أنه يقول عند ذكر وفاة الخليفة المذكور أنه كان قبيح السيرة منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور المناسيب ويلبس سراويلات الفتوة ومنع رمي البندق لا من ينسب إليه فأجابه الناس إلى ذلك إلا إنساناً واحداً يقال له ابن السفت وهرب من بغداد إلى الشام أهـ ثم أننا وجدنا آثار هذه الجمعية في القرون المتأخرة فقد أخبر ابن بطوطة من أهل القرن الثامن بوجودها في الأناضول وهي متلونة هناك بلون أبنائها من كرم الخلق وحسن السريرة فإن الجمعيات تدخل كل البلاد فتتلون في كل بلد بأخلاق أهله وتحمل طباعهم ولهذا امتدحها السائح الطنجي امتداحاً فائقاً في رحلته الشهيرة فقال: ذكر الأخية الفتيان واحد الأخية أخي على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية في كل بلد ومدينة وقرية ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالاً بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط ومن لحق بهم من أهل الشر والأخي عندهم رجل يجتمع أهل صناعته وغيرهم من الشبان الأعزاب والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم وتلك هي الفتوة أيضاً ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معايشهم ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية فإن ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم وكان ذلك ضيافة لديهم ولا يزال عندهم حتى ينصرف وإن لم يرد وارد اجتمعوا هم على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا وانصرفوا إلى صناعتهم بالغدو وأتوا بعد العصر إلى مقدمهم بما اجتمع لهم ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم كما ذكرنا الأخي ولم أر في الدنيا أجمل من أفعالهم ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر وأعظمهم إكراماً له وشفقة عليه وفي الثاني من يوم وصولنا إلى هذه المدينة أتى أحد هؤلاء الفتيان إلى الشيخ شهاب الدين الحموي وتكلم معه باللسان التركي ولم أكن يومئذ أفهمه وكان عليه أثواب خلقة وعلى رأسه قلنسوة لبد فقال لي الشيخ: أتعلم ما يقول هذا الرجل فقلت: لا أعلم ما قال فقال لي: إنه يدعوك لضيافته أنت وأصحابك فعجبت منه وقلت له: نعم فلما انصرف قلت للشيخ: هذا رجل ضعيف ولا قدرة له على تضييفنا ولا نريد أن نكلفه فضحك الشيخ وقال لي: هذا أحد شيوخ الفتيان الأخية وهو من الخرازين وفيه كرم نفس وأصحابه نحو مائتين من أهل الصناعات قد قدموه على أنفسهم وبنوا زاوية للضيافة وما يجتمع لهم بالنهار أنفقوه بالليل فلما صليت المغرب عاد إلينا ذلك الرجل وذهبنا معه إلى زاويته فوجدناها زاوية حسنة مفروشة باليسط الرومية الحسان وبها الكثير من ثريات الزجاج العراقي وفي المجلس خمسة متن البياسيس والبيسوس شبه المنارة من النحاس له أرجل ثلاث وعلى رأسه شبه جلاس من النحاس وفي وسطه أنبوب للفتيلة ويملأ من الشحم المذاب وإلى جانبه آنية من نحاس ملآنة بالشحم وفيها مقراض لإصلاح الفتيل وأحدهم موكل بها ويسمى عندهم الخراجي (الجراغجي) وقد اصطف في المجلس جماعة من الشبان ولباسهم الأقبية وفي أرجلهم الأخفاف وكل واحد منهم متحزم وعلى وسطه سكين في طول ذراعين وعلى رؤوسهم قلانس بيض من الصوف بأعلى كل قلنسوة قطعة موصولة بها في طول ذراع وعرض إصبعين فإذا استقر بهم المجلس نزع كل واحد منهم قلنسوته ووضعها بين يديه وتبقى على رأسه قلنسوة أخرى من الزردحاني وسواه حسنة المنظر وفي وسط مجلسهم شبه مرتبة موضوعة للواردين ولما استقر بنا المجلس عندهم أتوا بالطعام الكثير والفاكهة والحلواء ثم أخذوا في الغناء والرقص فراقنا حالهم وطال عجبنا من سماحهم وكرم أنفسهم وانصرفنا عنهم آخر الليل وتركناهم بزاويتهم.

بيروت

ش