مجلة المقتبس/العدد 21/صدور المشارقة والمغاربة
مجلة المقتبس/العدد 21/صدور المشارقة والمغاربة
ابن زيدون
إذا انتشرت الآداب والعلوم في أمة وكادت تعم أفرادها كافة يأتي من بين أولئك المتعلمين الكثار صفوة من الرجال منهم ينشأ النوابغ لان ارتقاء العلوم في الخصوص يكون على نسبة ارتقائها في العموم. وصاحب الترجمة هو احد أفراد الأندلس المعدودين زكا أصله وسما عقله ورجح بيانه وانفتق لسانه وبعد صيته بين حملة رايات القريض وصواغ عقود الإنشاء جمع إلى تليد مجده طريفاً وإلى آدابه الوهبية آداباً كسبية وقد عد في الطبقة العالية بين شعراء الأندلس ونال من المنثور حظاً كبيراً فهو على التحقيق كما وصفه احد الأدباء (بحتري المغرب) لحسن ديباجته وسهولة معانيه ومتانة تراكيبه تقرأ في منظومة العواطف في أبهى مظاهرها وتتجلى لك أغراضه في أسمى معانيها فشعره جعبة الأدب البارع ودرج الذهب الرائع ومثال الظرف والرقة وعنوان الانسجام والإجادة حتى قال أحدهم فيه: من لبس البياض وتختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وروى شعر ابن زيدون فقد استكمل الظرف كله.
وصفه صاحب القلائد بقوله: زعيم الفئة القرطبية ونشأة الدولة الجهورية الذي بهر بنظامه وظهر كالبدر ليلة تمامه فجاء من القول بسحر وقلده أبهى نحر لم يصرفه إلا بين ريحان وراح ولم يطلعه إلا في سماء مؤانسات وأفراح ولا تعدى به الرؤساء والملوك ولا تروى منه إلا حظوة كالشمس عند الدلوك فشرف بضائعه وأرهف بدائعه وروائعه وكلفت به تلك الدولة حتى صار ملهج نسانيها وحل من عينها مكان إنسانها.
وفي بعض المجاميع أن الوزير آبا بكر بن عمار وأبا الوليد بن زيدون كانا في حسن الشعر فرسي رهان ورضيعي لبان وقد ذكرا أكثر الأدباء بالأندلس إنهما اشعر أهل عصرهما هذا ما ذكره العماد الكاتب وذكر له القصيدة التي أولها (أما في نسيم الريح عرف يعرف) والرسالة التي كتبها لأستاذه ابن جهور يستعطفه بها وقد اعتقله لما سمع أنه مال إلى المعتضد عباد وذكر لابن عمار الرائية التي استوزره لسببها ابن عباد وهي ادر الزجاجة الخ.
ولقد كان ابن زيدون آية في طلاقة لسانه كما كان غاية في حسن بيانه ويحكى أن ابنته توفيت وبعد الفراغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة ليتشكر لهم فقيل إنه ما أعاد في ذلك الوقت عبارة قالها لأحد الصفدي وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنين في أساليب الكلام وهو أمر صعب إلى الغاية وأرى أنه اشق مما يحكى عن علماء وأصل بن عطاءاته ما سمعت منه راء لإنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة قبيحة والسبب في تهوين هذا الأمر وعدم تهوينه أن وأصل بن عطاء كان يعدل إلى ما يرادف تلك الكلمة مما ليس فيه راء وهذا كثير في كلام العرب فإذا أراد العدول عن لفظ فرس قال جواد أو ساع أو صافن أو العدول عن رمح قال قناة أو صعدة أو يزنى أو غير ذلك أو العدول عن لفظ صارم قال حسام أو لهدم أو غير ذلك وأما ابن زيدون فأقول في حقه أقل ما كان في تلك الجنازة وهو وزير ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يتشكر له ويضطر إلى ذلك فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر وهذا كثير إلى الغاية لاسيما من محزون فقد قطعة من كبده
ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحاب
وقال ابن بسام في الذخيرة في ترجمة ذي الوزارتين الكاتب أبي الوليد ابن زيدون وصاحب الذخيرة خير من يصور الرجال ومناشئهم وأحوالهم:
كان أبو الوليد غاية منثور ومنظوم. وخاتمة شعراء مخزوم. احد من جر الأيام جرا.
وفات الأنام طرا. وصرف السلطان نفعاً وضراً. ووسع البيان نظماً ونثراً. إلى أدب ليس للجدول تدفقه. ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه. ولا النجوم الزهر اقترانه. وحظ من النثر غريب المباني. شعري الألفاظ والمعاني. اخبرني غير واحد من وزراء إشبيلية قال: لما خلص ابن عبد البر من يد عباد. خلوص الفرزدق من يد زياد. بقيت حضرته من أهل هذا الشان. أعرى من ظهر الأفعوان. وأخلى من صدر الجبان. فهم باستخلاف أبي محمد ابن الباجي المشهور أمره الآتي في القسم الثاني من هذا الديوان ذكره فكان أبا الوليد غص بذلك ووطأ أبا محمد بن الجد على الإشارة بالاستغناء عما هنالك فكأنت الكتب تنفذ من إنشاء أبي الوليد إلى شرق الأندلس فيقال: تأتي من إشبيلية كتب هي بالنظم أشبه منه بالنثر. وقد أجرى ذكره أبو مروان بن حيان في وصف من كان اصطنع ابن جهور من رجال دولته فقال: ونوه بفتى الأدب وعميد الظرف الشاعر البديع الوصف أبي الوليد احمد بن زيدون ذي الابوة النبيهة بقرطبة والوسامة والدراية وحلاوة المنظوم والسلاطة وقوة العارضة والافتنان في المعرفة وقدمه إلى النظر على أهل الذمة لبعض الأمور المعترضة وقصره بعد على مكانه من الخاصة والسفارة بينه وبين الرؤساء فأحسن التصرف في ذلك وغلب على قلوب الملوك. وقال ابو مروان وكان أبو الوليد من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة في أيام الجماعة والفتنة وبرع أدبه وجاد شعره وعلا شأنه وانطلق لسانه فذهب به العجب كل مذهب وهون عنده كل مطلب وكان علقه من عبد الله بن احمد احد حكام قرطبة ما اداه إلى السجن فالقى نفسه يومئذ على أبي الوليد بن جهور في حياة والده أبي الحزم فشفع له وانتشله من نكبته وصيره في صنائعه ولما ولي الأمر بعد والده نوّه به واسنى خطته وقدمه في الدين اصطنع لدولته واوسع رايته وجلله كرامته ولم يقنعه ذلك فيما زعموا فاتفق أن عن له مطلب بحضرة ادريس الحسني بمالقة فأطال الثواء هنالك واقترب من ادريس وخف على نفسه واحضره مجالس أنسه فعنف عليه ابن جهور وصرفه في السفارة بينه وبين أمراء الأندلس فيما يجري بينهم من التراسل والمداخلة فاستقل بذلك بفضل ما أوتيه من العارضة بالنسب والجاه والمنفعة ولم يغنه ذلك عن التهافت في الترقي لبعد الهمة فهوى عما قليل إلى عباد صاحب إشبيلية فهاجر عن وطنه إليه ونزل في كنفه وصار من خواصه وصحابته يجالسه في خلواته ويسفر له في مهم رسائله على حال من التوسعة وكان ذهابه لعباد سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.
قال أبو الحسن: فاما سعة ذرعه وتدفق طبعه وغزارة بيانه ورقة حاشية لسانه فالصبح الذي لا ينكر ولا يرد والرمل الذي لا يحصر ولا يعد اخبرني من لا ادفع خبره من وزراء إشبيلية قال: لعهدي بأبي الوليد قائماً على جنازة بعض حرمه والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم فما سمع يجيب أحداً بمثل ما أجاب به غيره لسعة ميدانه وحضور جنانه. وقد اخرجت من أشعاره التي هي حجول وغزر ونوادر أخباره التي هي مأثر وأثر ورسائله التي اخرست السنة الحفل (ما ستتلوه) ثم ذكر له ما يتعلق بذكر وفاة ذي الوزارتين فصل من تاريخ الشيخ أبي مروان ابن حيان رأيت اثباته لنبل مساقه وحسن اتساقه يقول فيه: وفي يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وأربعمائة سار الحاجب سراج الدولة عباد بن محمد إلى إشبيلية الحضرة الاثيرة لمطالعتها وتأنيس أهلها من وحشة خأمرت عامتهم من أجل عدوان رجل منهم على يهودي زعم أنه سب الشريعة فبطش به المسلم وسط السوق وجرحه وحرك عليه العامة فقبض عليه صاحب المدينة عبد الله بن سلام واعتقله فكان لعامة الناس في إنكار حبسه كلام وإكثار فخاطب السلطان بقرطبة بما كان منه ويستأمره في شأنه فعجل انفاذ ولده الحاجب سراج الدولة إلى إشبيلية في جيش كثيف من نخبة غلمانه ووجوه رجاله لمشارقة القصة والاحتياط على العامة وانفذ معه ذا الوزارتين أبا الوليد بن زيدون أحد الثلاثة كابري وزرائه المثناة وزارتهم مع الحاجب على بقية وعك كان متألماً منه ولم يعذره في التوقف من اجلها فمضى لطيته مسوقاً إلى منيته وخلف ولده ابا بكر الفذ الوزارة المرتسم بالكتابة وراء ساداً مكانه بالحضرة فأقر فيها أياماً ثم أمر بالمسير وراء والده لأمر كلفه فعجل بالانطلاق له فمضى غداة يوم السبت من ثمان خلون من المحرم سنة ثلاث وستين فخلت منهم منازلهم بقرطبة وصيرت على سواهم فتحدث الناس بيبو مكان الأديب ابن زيدون لدى السلطان وبما جرى من الحظيين لديه ابن مرتين وابن عمار في ابعاده وابعاد ابنه واحتوائهما على خاصة السلطان وتدبير دولته ولم يطل الأمد بابن زيدون بعد لحاق ابنه به ووجدانه إياه متزايداً في مرضه نازحاً عن ألافه على جهد في استدعائها على أنتهاء المدة وانتهاك القوة فاستقر به وجعه إلى أن قضى نحبه وهلك بدار هجرته إشبيلية صدر رجب سنة ثلاث وستين فدفن فيها مشهوداً مفتقداً واحتوى تربها عليه فيا بعد ما بين قبره وقبر ابنه لدينا رحمة الله عليهما.
ولقد اتصل خبر هلكه بعشيرته أهل قرطبة فتنازعوه وسيئوا لفقده وحزنوا عليه إذ كان منهم متعصباً لهم هاوياً إليهم حدباً عليهم والبقاء لمن تفرد به وحده. وقد عزى اخوانه عنه امتداد بقاء فتاه الندب أبي بكر ولده بعده ساداً ثلمه سامياً مسماه غائطاً عداه عاطياً منتهاه مع شماخة ودماثة وحصافة ونزاهة ومعرفة ووفور حظ من أدب بلاغة وكتابة وشركة في التعاليم المعلية واشتداد في رعاية متقادمي الذمة لم يفقد اخوان أبيه معها الا عينه هو.
اما شعره فمعروف سائر على الألسن. وقد افضنا في الكلام على ديوانه في غير هذا الموضع من هذا الجزء. واما نثره فقليل في الايدي لم يشتهر منه غير رسالتين مفردتين لم ينسج ناسج على منوالهما إحداهما رسالته في التنكيت على احد وزراء عصره وهي التي شرحها الأديب المشهور ابن نباته السعدي. والثانية رسالته التي كتبها وهو في الحبس يستعطف بها أمير مصره وقد شرحها صلاح الدين الصفدي (وطبع هذان الشرحان في الديار الأوروبية) ومتى ساعدنا الوقت نشرناهما لكثرة ما فيهما من التلميح للأمور التاريخية التي يجدر بكل أديب الوقوف عليها وقد أحببنا أن ننشر له بعض الرسائل التي ذكرها صاحب الذخيرة نقرأوها في باب الصحف المنسية.