مجلة المقتبس/العدد 2/الأمية في الغرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 2/الأمية في الغرب

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 3 - 1906



ليس لدينا ما يركن إليه من الإحصاءات في نسبة عدد الأميين في بلاد الغرب إلى المتعلمين من أبنائهم إذ أن إحصاء اليوم قد لا ينطبق عليه إحصاء غدٍ. والذي علم بالتحقيق أن الممالك الأوربية الصغرى كالدانمرك والبلجيك وهولندا واسوج ونروج وسويسرا هي أكثر أهل أوربا انغماساً في التعليم وأقل أهلها أميين حتى أن عدد هؤلاء بالنسبة إلى المتعلمين يكاد لا يذكر ويكفي أنه لا يوجد في سويسرا غير شخص واحد أمي في كل ألفين من السكان ذكورهم وإناثهم.

ولئن كان التعليم إجبارياً في بعض الممالك الكبرى بأوربا وأميركا فلا يزال عدد الأميين يذكر فيها وفرنسا هي في مقدمة الدول العظمى بقلة أمييها وكثرة متعلميها ومنوريها. وجميع الدول شاعرة بوجوب التعليم تتفنن كل يوم في بثه على أساليب لم يكن يحلم بها اليونان والرومان ولا العرب ولا غيرهم من الأمم العظيمة التي كان لها شأن في بعض أزمان التاريخ. وقد ارتقت المدارك في الغرب حتى أصبح ما كان يدعو إليه خاصته في أوائل القرن الماضي قضية مسلمة عند الخاصة والعامة في أوائل هذا القرن وصار عليه الفتوى والعمل. كل ذلك بفضل أهل العلم منهم وعلى حسب سنة الترقي قال: بنتام ذهب بعض قادة الأمم إلى أن انتشار المعارف مضر وظنوا بأن قيمة الناس تعلو بمقدار نقصهم في المعارف وأنه كلما نقصت معارفهم غابت عنهم معرفة الأشياء التي تبعثهم على الضرر أو علمهم بوسائل فعله. وهو غلط فإن انتشار المعارف ما كان ولن يكون سبباً في ازدياد الجرائم ولا مسهلاً لارتكابها ولكنه نوع الطرق في اقترافها فاستعملت وسائل أقل ضرراً من التي كانت قبلها. لنفرض أن الأشرار يستفيدون من كل أمر وأنه بقدر معارفهم يسهل عليهم الضرر فهل نتيجة ذلك بقاء الناس جميعاً في ظلمات الجهل ولو كان خيار الناس وشرارهم منقسمين إلى نوعين ممتازين كالأمة البيضاء والأمة السوداء لقصرنا المعارف على الأولى وأبقينا الثانية في الجهل لكن تعذر ذلك وملازمة الخير للشر في الشخص الواحد تدعونا إلى القول بجعل الكل تحت نظام واحد فإما جهل مطبق للجميع وإما علم للجميع ولا وسط بينهما.

على أن الدواء في الضرر نفسه لأن المعارف لا تساعد الأشرار على شرورهم إلا إذا اختصوا بها لكن إذا عمت سهل على غيرهم أن يعرفوا حبائلهم فيسقط تأثيرها. ألا ترى أن الأمم في أزمان الجهل ما كانت تعرف من السميات إلا ما تسقي به أسنة رماحها ولكن الأمم المتمدنة عرفت جميع أنواع السميات وعرفت أيضاً كيف تقابلها بما يدفع ضررها. كل إنسان يمكنه أن يفعل جريمة ما وذو المعارف وحده هو الذي يتمكن من وضع قانون لمنعها وكلما قصرت معارف المرء صار ميالاً إلى فصل منفعته عن منافع الغير وكلما ارتفعت مداركه وسمت معارفه علم الجامعة بين المنفعتين.

وبعد فإن من نالوا غايتهم حقيقة بجعل أممهم في حضيض الجهل إنما نالوها بنشر الأوهام وإذاعة الأغلاط فيهم ولقد كان أولئك الرؤساء أنفسهم طعمة في هذه السياسة الحرجة إذ صارت الأمم التي استمرت في السقوط تحظر قوانينها عليها أن تصعد في مراقي التقدم فريسة الأمم التي ارتقت معارفها فارتفعت قيمتها عليها. لأن الأولى شبت في الجهل وشابت في الطفولية تحت قيادة قوم أطالوا زمان خمولها ظناً بأنه يسهل عليهم تملكها لذلك سهلت تلك الأمم فتح أبوابها للطالبين إذ لا فرق عندها بين حاكمها والجديد فهي خاضعة وأولئك يحكمون.

هذا ما قاله المتشرع الإنكليزي وقال روبرتسون: كان الإفرنج في القرون الوسطى أميين لا يقرؤون ولا يكتبون فكان الأعيان لا يحسنون توقيع الكتب الصادرة عنهم فيكتفون برسم الصليب عليها بدلاً من التوقيع وقد شوهد كثير منها في الأزمنة الأخيرة بعضها صادر عن الملوك وبعضها عن الأعيان كما ذكر دوكنج بل وجد في القرن الرابع عشر أن أعظم أكابر عصرهم وقوادهم مثل دوغسقلين رئيس الجيوش الفرنسية أمياً. وكان معظم القديسين أرباب المناصب الدينية والدنيوية لا يحسنون كتابة أسمائهم على المقررات في المجالس وكان أعظم امتحان يجري على من يروم أن يتقلد وظيفة سؤاله عما إذا كان يحسن قراءة الإنجيل والمكاتبات ويفسر معناها كلمة كلمة.

ولطالما كان الملك الفريد الأكبر يشكو من أنه لا يوجد في البلاد الواقعة بين نهري هومبير والتايمس أحد من القديسين يفهم الدعوات القديسية بلغتها الأصلية ويتمكن من ترجمة العبارات السهلة من اللاتينية. وسبب ذلك ندرة الكتب وعدم انتشارها وذلك أن الرومانيين كانوا يكتبون كتبهم على جلود مصقولة أو على رق قشر البردي ويقال له أيضاً ورق النيل لأنه كان يأتي إليهم من مصر ولما كان ورق البردي أرخص كان استعماله عندهم أكثر من الجلود. وبعد أن فتح المسلمون بلاد مصر انقطعت الصلات بين أهل مصر وأهل إيطاليا وغيرهم عن أمم أوربا فاضطر الناس أن يكتبوا جميع الكتب على الجلود فأصبحت نادرة. وقد مضت القرون على أوربا والكتابة والكتب نادرة عزيزة في كل أقطارها حتى أن لويز الحادي عشر لما استعار من جمعية الطب البشري بباريس مؤلفات الفخر الرازي أحد فلاسفة المسلمين اضطر أن يرهن مقداراً جسيماً من أعلاقه.

وقصارى القول فقد أصبح الأوربيون بعد أن كان علماء الشرع والتاريخ منهم ينادون بما ينادون به على نحو ما تقدم آنفاً يعلمون اليوم ابن الزارع والتاجر والعامل والعالم والموظف ما لا غنية له عنه في هذه الحياة الدنيا من الكتابة والقراءة والحساب ومبادئ الجغرافية والتاريخ والشريعة البسيطة. وفي فرنسا مثلاً يتعلم الجميع إلا أنه ينقطع ناس تفردوا بالذكاء ومن كان أهلهم في سعة من العيش يستطيعون معها الإنفاق على أولادهم يدرسون الدروس العالية كالطب والصيدلة والمحاماة والهندسة والعلم والأدب وخدمة الحكومة بيد أن علماء الفرنسيين يشكون اليوم - وأي أمة لا تشكو من حالها حباً بالازدياد من الارتقاء - من المتعلمين على هذا النمط وأنهم فائضون عن الحاجة وينادي علماؤهم بأنهم لو ألغوا درس اليونانية واللاتينية القديمتين وكفوا بنيهم مؤونة ترجمة سوفقلس وفيرجيل وأنهم لو استعاضوا عنها بأن ذهبوا مثلاً إلى المستعمرات وزرعوا قصب السكر وباروا الألمان والإنكليز في الشؤون الاقتصادية لكان أنفع لهم وأجدى على مجتمعهم.

يقولون أن شهادة العالمية (بكالوريا) التي سماها أحد ظرفاء الفرنسيين جلد حمار قد أخرتهم عن اللحاق بالأمم وقد غشي على بصائر بعض العقلاء منهم فصاروا لا يرون الفضل والعقل إلا فيمن درس هذه الدراسة إلا أن أهل النقد منهم يقولون أن من أسس معملاً توفرت فيه الأعمال وجرت على أتمها وكثرت فيه الاختراعات والتفنن وتاجراً أسس بيتاً تجارياً نجح فيه ليس في نظر المجتمع الإنساني دون ذاك العالم الذي يحمل شهادته في العلم والأدب بل هو فوقه. وما صح منذ نحو ثلاثين سنة للفرنسيين لا يصح لهم أن يتعاطوه اليوم والحياة الاجتماعية في تبدل مستمر والحضارة تصير من يوم إلى يوم حضارة صناعية علمية. وقد قال جول سيمون أحد فلاسفة الفرنسيين ينبغي أن نكون أبناء أحرياء بهذا العصر كما قال العرب خلقوا أولادكم بغير أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم.