مجلة المقتبس/العدد 18/فجائع البائسين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 18/فجائع البائسين

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 7 - 1907



تابع ما قبله

بعد ما قبرت شهيرة ابنها أنشأت تفكر فيما يؤول إليه أمرها لأنها أدركت انقطاع أجرة الحضانة وزوال العلاقة التي كانت تربطها بسعيد ولم يبق بينهما غير عقد الزوجية فأدركت أيضاً استصدار الحكم عليه بمائة ليرة يمنعه من الطلاق إذا أرادت أن يطلقها فما وجدت انفع من الرجوع إليه والرضا به وكان بلغها أنه يسعى في زواج غيرها فأعربت لأمها عما يخالج ضميرها وقالت لها أنها تود الرجوع إلى زوجها قبل أن يقترن بغيرها فأخذتها على أنكارها وطمأنتها بقولها: أنه لا يقدر على الزواج لأن الناس علموا بما جرى بينكما فيخافون على بناتهم من أن يصرن إلى ما صار إليه أمرك. ثم قالت: وليس مثلنا قليلي العقل والبصيرة.

ماذا جرى لي حتى يمتنع الناس عن تزويجه بناتهم أما كنت أنت السبب في تنافرنا ونحن كنا راضين من بعضنا وكان الصفاء ملازمنا والهناء يرأفقنا فأنت التي كدرت صفاءنا بتصوراتك الدنيئة فلو كنت تركتينا وشأننا لما حدث بيننا شيء ولكن طمعك الذي أدى بنا إلى الفراق وبعث فينا روح الشقاق فأسألك بأبيك ماذا تبغين مني؟ ألست بالغة الرشد والكمال؟ فلماذا لا تتركيني حرة في أعمالي أتصرف بها كما أشاء؟ فإن كان قصدك قتلي وهلاكي فبئست الأمهات اللواتي تبدلن سعادة بناتهن بالشقاء وأني لا أدرك غرضك من افتراقنا مع أننا كنا على وئام وسلام يحسدنا من سمع بما قامت عليه قواعد ائتلافنا.

ما لي أراك اليوم تشتاقين إلي زوجك الذي هو مطية العار فلا عاش الرجال؟

لم أر سبة بانتسأبي إليه إما أنت التي سعيت في زواجي به؟ وهل كان مجهول الأحوال لديك ولدى أخي الذي رأفقه ثماني سنين وأنا على علم من أنه لا يزال كما كان عليه من قبل وما يخيل لي أن أجد مثله بين الناس فهل رأيت أم سمعت برجل يعامل أمرأته بالمساواة ويسعى فيما يرضيها بكل ما أمكنه في هذه البلاد؟ من لي برجل يعاملني هذه المعاملة الحسن؟ على أني أعجب من أعمالك مع أصهارك. ألست أنت التي كنت السبب في طلاق أختي حتى أصبحت محرومة من الزواج؟ وهي لا تزال في كدر وأسف على زوجها مع أني أعلم ويعلم كل إنسان أن الأمهات تحب أصهارها أكثر من أبنائهن وأنت على العكس تبغضينهم فتنفر ينهم من بناتك حتى تحرميهن منهم. أما سمعت قول بديعة التي طلبت أختي الصغيرة أنها أعجبتها وودت تزويجها بابنها ولكنها خافت على ابنها منك فها أنت قد اشتهرت بين الناس بسوء الخلق ورديء الطباع.

لقد تجاوزت حدك يا شهيرة فإنت لا تزالين في سن الطفولية لا تميزين الصالح من الطالح وأنا أخطأت بقبول سعيد زوجاً لك ولكني سأجتهد في التكفير عن خطأي وإصلاحه فلا تأسفين على هذا الرجل الدنيء الأصل الفقير الحال وأيقني بأنه عندما يثبت طلاقك أزوجك وتعيشين معه عيشة لا يشوبها كدر ولا يتخللها شقاء. أو تحسبين أننا في قحط من الرجال؟

أما تتقي الله في سعيك لإثبات طلاق لا أصل له وهب أنك وفقت إلى إثباته بشهادة شهود زور والبهتان وحكم القاضي بتفريقنا وأعطاني إعلاما شرعياً بأني مطلقة فهل يكون الطلاق موافقاً لحقيقة الشرع الشريف.

لا! ولكن أخذنا لك مائة ليرة

فإذا كنت لا أزال على عصمته كيف يتسنى لي أن أزوج بغيره

تتزوجين بإعلام الحاكم وحكم الحاكم أمر مقضي يعمل به ويقوم مقام الطلاق.

في أي ديانة وأي شريعة وجدت هذا الجواز وهذا الحكم المعقول أو تحسين أني لا أخاف الله بانتقالي إلى عصمة رجل آخر وأنا على عصمة غيره فإذا كان طمعك بالمائة ليرة التي تودين أخذها زوراً وبهتاناً فلا حاجة لي بها ولا أود أن أعصي أمر الخالق طمعاً في حطام الدنيا أو نسيت أن من يغنمون الدراهم بطرق غير مشروعة لا يصرفونها إلا على أمراضهم ويدفعونها ثمن أدوية وأجرة أطباء وهم يقضون آخر حياتهم في أتعس الأحوال وقد يتمنون الموت فلا يجدونه وإذا تزوج زوجي وهجرني هجراً طويلاً كيف تصير حالي فهل لي حينئذ سوى البكاء والنحيب حتى تستولي علي الأمراض وارزح في فراش الأسقام والعلل فأموت شهيدة سوء تصرفك.

أنت تظنين أنه يتزوج ويطيق هجرك. سترين أنه متى يئس من الزواج يتوسط من يرجعك إليه ويدخل تحت حكمنا فنتصرف به كما نشاء.

أنت تحسبين أنه لا يتمكن من الزواج وأنا شعرت بأنه سيوفق لأن كثرة البنات وبقاءهن من غير زواج وفساد هذا العصر يدعو العقلاء للتسأهل في زواج بناتهم وأنا على يقين من أنه سيهجرني فإما أن أموت وإما أن أرجع إليه من هذا النشوز فأكون تحت سيطرة امرأة جديدة فإن مت تكونين الجانية علي وإن رجعت إليه تكونين سبب بؤسي وشقائي بعد ما كنت سعيدة.

لقد فهمت أنك تودين الرجوع إليه قاتل الله بنات هذا العصر اللواتي لا يطقن الهجر ساعة.

فليخطر ببالك ما تشائين فإني أعزه وأحب الرجوع إليه فبل أن يتزوج.

ثم قامت وتركت أمها ودخلت حجرتها وأغلقت الباب عليها وأخذت تبكي وتندب حظها وتلوم نفسها على إطاعة أمها.

مضت على هذه المحاورة هنيهة وجيزة فدخلت على شهيرة إحدى صويحباتها التي كانت تتنسم الأخبار عن زوجها وتأتها بها فقالت لها أتدرين ماذا جرى؟ فقالت: لا

إن سعيد عقد على جميلة خانم ابنة علي باشا فصاحت قائلة: آه. وأغمي عليها. فندمت هذه على أخبارها ثم أتت بالماء والعطريات ورشت على وجهها وجعلت تفرك يديها وتدلكها حتى تنبهت فأخذت تبكي وتلعن أمها التي سببت لها هذه النقمة وتفكر فيما حل بها فأيقنت أنها ستفارقه أبد الدهر وأنه سيحتفظ بعد الآن بود جميلة خانم ولا يسأل عنها وقد دخلت أمها فأخبرتها بواقعة الحال وقالت لها: كنت تظنين أن لا يتزوج فها هو قد اقترن بأحسن ابنة في بلدنا فإنقطع أملي بلقائه وأظن بأنه لا يطلقني ولا يأخذني إليه إلا إذا رقت لحالي زوجته فأكون تحت أمرها وأرادتها فهذه نتيجة أعمالك القبيحة.

فأدركت أمها خطأها وأخذت تلطفها بالكلام وتعدها بالأمال ثم دعت ابنها رفيقاً وعزموا على أقامة دعوى الطلاق مرة ثانية وأتوا بشهود غير الأوليين وعينوا يوم الجلسة يوم عرسه لينغصوه وظنوا أنهم يوفقون إلى أخذ الحكم عليه فيكون يوم عرسه يوم نحسه ولم يدر في خلدهم أن يوم عرس المرء في غالب الأحوال يوماً مباركاً ولا يخطر ببال العروسين سوى السعادة ففرح بما أتوه ولم يتنغص وأيقن أنه سينتصر عليهم لأنهم حصروا الدعوى في يوم كان عنده أشرف الأيام وأحسن يوم وصاله ونيل آماله فذهب رحيب الصدر عالي الهمة ودخل المحكمة فأقيمت الدعوى وضبطت الإفادات فشهد الشهود بما تعلموا لا بما علموا فجرح شهادتهم وأقام البراهين فإنتصر عليهم وأخذ الحكم مرة ثانية بوجود الزواج وعاد رابحاً ورجعوا خائبين وكان ما كان. فاستولى الكدر على شهيرة واعتراها الأرق ولازمها الحزن والبكاء فنحل جسمها وتبدلت ألوانها وضعفت قواها فسطت جراثيم السل على كرياتها البيضاء فعطل جهاز التنفس وخرب الرئتين فمنع تطهير الدم من الحامض الكاربونيك فتبدلت حمرة خدها بالأصفرار وأخذت وطأة المرض تزداد عليها يوماً فيوم فماتت شهيدة ضعف الأرادة وسوء التصرف وعلم أخوها خطأه ولكنه حمل الذنب على سعيد وعزم على الانتقام منه بدلً من أمه الجانية. ولما بلغ سعيد موت شهيرة أسف عليها وحزن عليها وبكى بكاءً دعا إلى كدر جميلة ولكن اعتذر لها وأقسم الإيمان على أن بكاءه كان من قبيل الأسف على ما عانته من العذاب والشقاء.

ولما تخلص سعيد من كل منغص أيقن أنه لم يبق عنده شك ولا شبهة في السعادة التي كأن يسعى إليها فاتسعت آماله وصار لا يفكر إلا في السعادة وصار لا يرى إلا ضاحكاً مسروراً وقد نسي ما أتى عليه من قبل وظن أنه خلق سعيداً وعاش سعيداً وسيموت سعيدا ولكن فاته قول الشاعر:

وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر

وذلك أن سعيداً بينما كان راكباً عربته يتجول بها على ساحل البحر في رأس بيروت ويتطلع إلى الأوانس اللواتي تتزين لتسحر الألباب وتطغي الشباب ممن يسابقونهن في الزينة والتبرج وسرعة الانتقال من زي إلى آخر وهما فريقان بين ساحر ومسحور وعاشق ومعشوق أو عاشق محروم وعجوز تفكر في أيام صباها يوم كان الشباب يلتفون من حولها متسابقين في استجلاب قلبها وكان صاحبنا يأسف لذلك العاشق المحروم ويضحك من تلك العجوز الشمطاء التي صبغت شعرها وبيضت وجهها بالذر ور ولونت خدودها بالصباغ الأحمر لترجع فتاة وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر ويلوم تلك الغادة الدعجاء التي زين الخالق جمالها بعيون نجل تكاد تفتت الأكباد على ما شوهت به نور وجهها من الذر ور لتجعله أبيض ولو تركته على طبيعته لكان أجمل وقد تؤثر فيها شدة حرارة بيروت فيكللها العرق ويرسم خطوطاً في غصون خدها المبيض بالبز موت فتشعر بذلك أو تنبهها رفيقتها فتخرج من جيبها منديلاً مليء بالذر ور فتمسح وجهها كانها تمسح العرق.

ويضحك من الشبأن الذين حرمهم الله من نعمة الجمال عندما يرأهم يرفعون سبلا تهم بشواربهم وينزلون طرأبيشهم ليستعطفوا قلوب الغادات وربما التفت إليهم واحدة من قبيل الصدقة والإحسأن فيظن ذلك أنه أعجبها بطوره وجماله.

ويزداد ضحكه عندما يرى ذلك الشاب الذي إذا رأى سيدة أحنت رأسها لحفرة في الأرض رفعت العربة فكان الانحناء اضطرارياً يظن أن ذلك كان للسلام عليه فيحني رأسه فتضحك من جهله ويحسب ذلك تبسماً والتفافاً ويذكر حينئذ قول شوقي

نظرة فابتسامة فسلام ... فكلام فموعد فلقاء

ويقول لرفيقه لم يبق بيني وبينها إلا الكلام والكلام يجر ما بعده. ويعجب لذلك الفتى الذي لو رأى الآنسة تصلح شعرها بيدها أو ترفع غرتها عن جبينها لظن ذلك سلاماً له ووضع على رأسه كانه يريد السلام بدون أن يشعر به أحد لحوقاً على مكانتها وهي لا تبالي به ولا تنظر إليه ويبكي أسفاً على المومسات اللواتي خرجن يقلدن كبيرات العقائل يلبسهن ليجلبن قلوب الشبان ويعشن بتمزيق ثوب عفتهن ونقدهن بدلها دراهم معدودة على أنهن يظهرن المحبة لمن لا يطقن أن يراه ولذلك لا يجدر بالعأقل أن ينظر إليهن بعين الكبر والغرور ويهينهن من أجل بيع شرفهن وعفتهن لمن يرنه أو لا يردنه فلو فحص عن الأسباب التي ساقتهن إلى أدنى المتاجر لما تأخر عن العذر ووجه سهام الملام نحو غيرهن.

ومما كان يأسف له سعيد ما يراه من الشبأن الذين لو رأيتهم ونظرت إلى لباسهم لحسبتهم من أبناء أغنى الأسر في بيروت على أنهم لا يملكون سوى راتبهم الذي لا يتجاوز ثلاث ليرات يأخذونها من الاستخدام في مخزن أو متجر ولا يجدون حرجاً في التشبه بالأغنياء وترأهم أبداً باكين من قلة الدراهم وقد يتخيلون وقد يتخيلون السعادة ولكنهم لا يجدون لها أثراً إلا في أمريكا فيهاجرون إليها وقد يموت الكثير منهم من الجوع أو يرجعون ملومين مدحورين.

بينما كان سعيد يفكر في الهيئة الاجتماعية ويتأمل هذا المعرض البديع أتاه الخادم مسرعاً فقال له أن الباشا أتى من سفره وهو مريض مرضاً شديداً فذعر لهذا الخبر ورجع إلى المنزل مسرعاً وكان الأطباء أتوا ومرضوه فلازم فراشه وأخذ سعيد يستقبل العواد ولكن المرض أخذ في ازدياد حتى قضى الباشا نحبه وانتقل إلى رحمة الله فجهزه وواره التراب واحتفل بمأتمه احتفال الابن البار بوالده الفقيد. وهنا انكشفت شمس آمال سعيد وخاف من رجوعه إلى البؤس والشقاء لأن الباشا كان مستقيم المبدأ فلم يترك لوارثيه سوى الدين وأثاث المنزل. وحسب صاحبنا الراتب الذي ستناله حماته زوجة الباشا فبلغ ألفي قرش فأطمأن بعض الاطمئنان وأدرك أنه لا يزال في عيشة راضية وكانت حملت منه جميلة فصار يفكر في ولده وصار البحث بينه وبينها على ابنهما الذي سيصرفإن في تربيته مزيد العناية ليأتي منه أنموذج الكمال ومثال الأدب ويعلمانه حقائق العلوم في طفولته ليشب على حب العلم ويتعرى من كل خرافة وقررا تلقينه تراجم أحوال أعاظم الرجال وأفعالهم وحقائق الكائنات وأنشآ يربآن به عن سماع القصص والحكايات المشوبة بالأكاذيب والعجائب ولما قرب وقت الوضع أخذ سعيد يستجلب الكتب المدونة في تربية الأطفال فيقرؤها هو وأمرأته ويعينأن الخطة التي يجريان عليها في تربية ثمرة غرامهما حتى وضعت له أنثى حسنة الخلق أشبه بأمها فسمياها (خبرية) لعلها تكون مبشرة بالخير وفرحا كثيراً ولكنه لم تمض هنيهة من الزمن حتى فاجأتهما وفاة الخانم الكبيرة وانقطع الراتب فأصبحت الأسرة حملاً على سعيد ولم يبق لها من إيراد سوى راتبه وهو ألف قرش فصرف ما جمعه واقتصده وباع الحصانين لعجزه عن القيام بنفقتهما ورجع إلى عالم الاقتصاد والإدارة ومع هذا كله كان يعلل نفسه بطهارة بيته من الأدناس ويرى نفسه في راحة من كل عناء.

في يوم سكنت نأمة القيظ وهب ريح الصبا اعترى صدر سعيد ضيق ساقه إلى التنزه فبحث عن صديق له ليذهب معه إلى قرية من القرى للنزهة وإذ لم يوفق إلى صاحب يرأفقه ذهب برأسه وأخبر جميلة بذهابه وكان خرج على حصان استأجره فبينما هو يجد في المسير فاجأه رجل كان يعرفه من أقارب رفيق فسلم عليه كانه أخ حميم ثم سأله عن سفره فأجابه بما قصد فطلب رفقته فقبله وشكر له فضله وقال إنه كان يود أن يجد له رفيقاً يتسلى معه فنعمت الصدفة ثم أخذا يقطعا الطريق رويداًَ رويداً وكان الحديث بينهما عن شهيرة فصار ذلك إلى الرفيق يؤأخذ سعيداً وينسب إليه القصور وهذا يعتذر ويرجع بالذنب إلى أمها وإلى رفيق فما كان من هذا الخبيث إلا أن أخرج غدارته وأطلق الرصاص عليه قائلاً خذها جزاء بعملتك بشهيرة فأصاب قلبه فوقع في الأرض يقول: آه قتلتني يا خائن. وكانت هذه العبارة آخر كلامه ثم ذهب ذلك اللعين إلى مدير الناحية وأخبره بأنه حدث قتل في هذا المحل الفلاني ففرح المدير لذلك بمجيء الرزق ولكنه لم يكن عنده من أنفار الدرك أحد لأنهم ذهبوا إلى القرى يستنشقون أخبار الوقوعات التي حدثت بين الأهالي لأنهم أصبحوا بفضل مديرهم يرضون بغدر يقع بينهم واعتداء بعضهم على الآخر لأنه لا يستنكف من أخذ الدراهم من الشاكي والمشتكى عليه وأصبح من أصابه حيف من جاره يغضي على القذى ويحتمل مصابه بالصبر فإنقطعت عنه الواردات فجعل يرسل الدرك والجواسيس ليستطلعوا طلع الوقائع ويأتي بأصحاب الحقوق ويدعوهم إلى أقامة القضايا فينكرون ذلك وهو بين مطمن لهم على حقوقهم ومهدد أن لم يقيموا الدعوى فأرسل يستدعي أنفار الدرك وأخذ يجمع من مر بالقتيل وتكلم معه أو رآه أو سمع به ويحبس من يشاء ويضرب من يشاء ويترك من يدفع له فدية النجاة وكان معظم مساعيه في جمع الدراهم لا في إثبات الجرم ولكن اعترف الجاني بإنه كان أخرج غدارته ليراها سعيد فخرجت خرطوشة من نفسها خطأ وكان سمع (لا علم كان أميالاً يقرأ ولا يكتب) أن المخطئ ينجو من العقاب فلم يسعه إلا إلقاء القبض عليه وإرساله إلى حاضرة الولاية مع محضر التحقيق. ونقل سعيد إلى داره مضرجاً بدمه فلما طرق الباب خرجت الخادمة وفتحت الباب فوجدت سيدها قتيلاً محمولاً في محفة فصاحت ووقعت على الأرض مغمى عليها فسمعت سيدتها صيحتها وشعرت باضطراب وارتعدت فرائضها فهمت لتذهب فما تمكنت لانحلال قواها ولكنها جسرت نفسها فسعت لترى ماذا جرى فوجدت رفيقها محمولاً على الأكتاف في لون أصفر والدم خضب وجهه وصبغ نباسه ولا حركة به فسقطت على الأرض لا حراك بها. وكان الجيران دخلوا البيت فأخذوا ينبهون جميلة من غشيتها وأدخلوا القتيل غرفته ووضعوه على فراشه وبدأ البكاء والنحيب وكان الناس هناك نساء ورجال يبكون دماً على هذا الفتى البائس الذي لم يسمع عنه إلا الفضائل وما عرف إلا بالكمال واللطف وحسن الخلق ولين العريكة وأتى طبيب البلدية والمستنطق ومعاون المدعي العمومي وعاينوه وأمروا بغسله ودفنه فغسلوه وكفنوه وحملوه على الأعناق ليواروه ترابه. لبؤسه حتى يوم مماته لم يكن في المدينة من أصدقائه أحد غير فتى قام بواجباته نحوه ومما ذكره ذلك الصديق أنه رأى وجه خيرية ابنة سعيد على يد الخادم تضحك وتقول (باء باء ئو ئو دح ئو ئو؟) كانها عرفت أن أباها نام نومه أبدية وعلمت أن الكفن لباساً جديداً وأنه دخل في حياة جديدة وانتقل من دار الفناء إلى دار البقاء فلسان حالها يهنئه على خلاصة من البؤس والشقاء وكانها تقول: أنت ذهبت وتركتني أنا وأمي وعمتي وجدتي في عذاب أليم فهنيئاً لك وبؤساً لنا وأسفاً علينا. قال الصديق لما تمثل لي ما حل بهذه الأسرة التعسة ورأيت ابتسامة تلك الفتاة زاد تأثيري وبكائي من مشاهدة هذه الفاجعة المدهشة. فهذا سعيد ولد شقياً فسعد بالخيال والأمال ومات تعساً فسعد بالخلاص من العناء والسقاء فرحمة الله على روحه الطاهرة.

أخذت العدلية تنظر في القضية فما وجدت بأوراق المدير ما يدل على ثبوت الجرم فشرعت بالتحقيقات وثبت لديها وجود عداوة وضغائن وعلمت بأن الفعل نتج عن قصد كما أدعت زوجة سعيد أن القاتل الحقيقي هو رفيق وذلك انتصاراًُ لأخته التي قتلها هو وأمه بسوء تصرفه ولكن نتيجة المحاكمة كان الحكم فيها بأكثرية الآراء على القاتل بالحبس ثلاث سنوات. والله يقتص من عباده بأعمالهم وهو العليم الحكيم.