مجلة المقتبس/العدد 18/الهجرة إلى مصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 18/الهجرة إلى مصر

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 7 - 1907


إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي

دحا الله الأرض ليعيش البشر عليها ويتناسلوا فيها فيعمروها ويحيوا مواتها ويسيطروا على المخلوقات كلها فالأرض هي المنزل العام يجلس أهله في أي ناحية منه أحبوها وراقتهم وينتقلون في بقاعها وأصقاعها ووهادها ونجادها وحزنها وبحرها وبرها على حسب ما تقضي أحوال الصحة وطبائع الأجسام وخواص النفوس.

فقد هاجر الفينيقيون قديماً وأقاموا قي قرطجنة وعمروها كغيرها من شواطئ البحر الرومي وهاجر الغوط من جرمانيا إلى جنوبي أوروبا ودأهموا المملكة الرومانية وهاجر الروم من بلادهم إلى شواطئ البحر المتوسط وجزره وشواطئ البحر الأسود وبلاده وعمروها. وكثير من الأمم أمثالهم غادروا مساقط رؤوسهم وأخذوا لهم بلاداً ثانية استعمروها.

وهاجرت في العهد الحديث أمم كثيرة وأمم وقعت هجرة الأوربيين إلى أمريكا عمروها بجنسهم الأبيض بعد أن كانت خربة بالجنس الأسود. وكذلك هجرة الهولنديين إلى جنوبي أفريقية وهجرة الروس إلى سيبيريا وهجرة القاتقاسيين والجراكسة إلى البلاد العثمانية وهجرة الإسرائيليين من بلاد روسيا وهجرة المسلمين الروسيين إلى أمريكا وغيرهم.

وللعرب حظ وافر من الهجرة والتنقل في الجاهلية والإسلام بل أن الهجرة من طبيعة جزيرتهم يغمدون إليها للكلأ والمراعي أو للاتجار بنتائج مواشيهم وحأصلاتها. وأول هجرة في الإسلام كانت هجرة عشرة من الصحابة وأربع نسوة وقيل أكثر أمرهم الرسول بالهجرة إلى الحبشة لما رأى ما يصيبهم من البلاء قائلاً لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكاً لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه فخرجوا ثم عادوا بعد سنين. وهكذا هاجرت العرب إلى فارس ومصر والشام وأفريقية والأندلس والسند وكشغر لما فتحت. ولولا أقدامهم على الهجرة ما رأينا الإسلام منتشراً في قلب آسيا وأفريقية.

ولا نزال إلى اليوم نشهد أثراً من أثار حب العرب للهجرة وقد زادها اليوم قرب الموأصلات وسهولة السفر. نرى أهل حضرموت في جنوب الجزيرة يهاجرون إلى حيدر أباد الدكن الهندية فيكون معظم جيش البلاد منهم ونرأهم يهاجرون إلى جاوة فيكثر فيها سوادهم ويغتني بعض أفرادهم. ونرى النجديين يهاجرون إلى الهند في التجارة ثم يستوطنوها ويصبحون فيها أصحاب كلمة ونفوذ. ونشهد السوريين يهاجرون إلى أمريك وأفريقية ونيرتاشون ويتأثلون.

وانهيال السوري على هذا القطر خاصة قديم جداً يصعب تعيين زمنه لاتصاله ببلاد الشام براً وبحراً ولم تكن القوافل في الإسلام تنقطع في البر كما أن المراكب لم تكن تنقطع عن السفر في البحر ولم تبرح بلاد الشام مصيف مصر وأحدهما مكملة لعمران جارتها. وقد وصف ابن فضل الله العمري في التعريف بالمصطلح الشريف طريق القوافل بين القطرين كما عقد القلقشندي في صبح الأعشى فضلاً في مراكب الثلج الوأصل من البلاد الشامية إلى الملوك بالديار المصرية. ومصر ما برحت كما وصفها ابن خلدون في القرن الثامن (بستأن العالم ومحشر الأمم ومدرج الذر من البشر).

نعم هي محشر الأمم ولاسيما المجاورة من البر أو المناوحة لها من سيف البحر. وذلك لأن عمرانها طبيعي مستبحر في معظم أدوارها فلا عجب إذا كانت مهاجر الأمم من أن تكون نقطة الاتصال بين قارات أوروبا وأفريقية وآسيا بفتح ترعة السويس فما بالك بعد أن تم لها ذلك.

فمصر والحالة هذه مقصودة من أقطار الأرض أكثر مما يقصد أهلها سائر الأقطار والأمة التي تكثر في الغالب خيرات بلادها لا يهون عليها مغادرتها. وطلب الحاجيات هو الباعث الأقوى على المهاجرة فإذا كفيها المرء يصاب بالوناء وضعف العزائم.

وما فتئ السوريون والرم والترك والمغاربة مذ كانت حكوماتهم تتغلب على مصر ينزلون بلاد النيل. فالروم حكموها زمناً طويلاً وكذلك الترك والعرب والجراكسة فكان من العناصر إن نزلتها بكثرة وأصبح أكثرهم عمالاً وحكاما وقضاة ورؤساء وجند وعلماء وأرباب صنائع وتجارة ولم تكثر هجرة الأوربيين إليها إلا عقيب الاحتلال الفرنسي عند ما بدأ الفرنسيس والطليان والمجر وغيرهم من أمم الغرب يهبطون إليها وقد كثر سوادهم على عهد الخديوي إسماعيل لأنه فتح أمامهم طرق الهجرة وأحسن معاملتهم ووفر لهم المغانم وطرق الكسب.

ولما قبض رجال الاحتلال من الإنكليز على أزمة الأعمال أخذ الناس يفدون على مصر من كل فج عميق حتى أنك لتجد فيها الآن من جميع الشعوب واللغات أناساً أسسوا فيها الأعمال التجارية والزراعية والمالية والعلمية وكثير منهم اغتنوا من خيراتها بفضل كدهم. وقد قدرت ثروة السوريين فيها بخمسين مليون جنيه أي بعشر ثروة القطر وهكذا سائر الأمم ولاسيما الروم والطليان ولفرنسيس فإن فيها من هذه الأجناس ألوفاً اغتنموا من خيراتها واتخذوها دار هجرتهم وطناً ثانياً لهم. وحال مصر اليوم مع المهاجرين إليها يختلف عن حالها مع أمثالهم في القرن الماضي لأن ثقة الأمم تزداد بها الحين بعد الآخر ولأن الأساس الذي قامت عليه حضارتها اليوم أساس مالي زراعي. خصوصاً وقد ظهرت الآن نتائج ما تعب القابضون على أزمة سياستها سنين في تأسيسه واشتهر ذلك عند الخاص والعام في الأقطار النائية بما يتصل بهم من أخيارها وأخبار من يغتنمون من المهاجرين إليها ممن توفرت لديهم رؤوس أموال أو كانوا من أرباب العقل والعمل فكانت مصر ميداناً لظهور أثارها. وربما لا يذكر الناس إلا من نجحوا وقلما يذكرون من أخفقوا. عادة في البشر ولعلها من موجبات أقدامهم على الكسب والكدح في هذه الدار.

ولقد ساعد على كثرة الهجرة إليها حال بعض البلاد المجاورة لها من حيث اجتماعها ومادتها. فترى سكان جنوبي إيطاليا القاحلة يهاجرون إليها من القاطنين في الشمال منها لأن شمالي إيطاليا مخصب وأهلها مكتفون بما تجود به عليهم أرضهم وسماؤهم. وكذلك تكثر إليها هجرة سكان جزائر البحر الرومي ولاسيما بلاد اليونان وأهل سواحل الشام وجبالها.

هذه مصر من حيث هي مهاجر الأرض فهي دولية كما يقول الساسة أو مشتركة بين أجناس وأديان شتى. والتاريخ يشهد أنها كانت رحبة الصدر بالوافدين عليها في كل العصور للين عريكة أهلها ولم يحدث هذا التمييز بين سكانها إلا عندما أراد مهاجروا الإفرنجة أن يستطيلوا على أهلها فأحدثوا لهم ما يقال له الأمتيازات الأجنبية التي تخولهم من الحقوق ما ليس للوطني مثله ثم كثر توارد الأخلاط عليها ولم يكن الوافدون إليها على غرار واحد بل كان منهم المنورون العالمون وهم الأفراد. ومنهم المتعلمون المهذبون وهم أكثر. ومنهم العامة الأميون وهم السواد الأعظم. ومنهم طلاب رزق وسوقة نازعوا ابن البلاد وربما غلبوه لأن من جاء في طلب غرض يحتال للوصول إليه. والغريب في الغالب يكون أجرأ وأنشط من الأصيل لأن الغربة في ذاتها إمارة من إمارات النشاط.

وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد والأمثلة على ذلك كثيرة في هذا الباب من القديم فليس للوافد ما للقاعد من الخمول والاتكال ويكفي أن في لندرا لهذا العهد وهي مهد الصناعات والارتقاء زهاء مائتي ألف رجل من رجال الألمان استولوا على أعمالهم المالية واستأثروا بها دون ابن البلاد المتعلم المنور الذي لا يقل عنه في مواهبه هذا في عاصمة إنكلترا فما الحال بمصر وأكثر الوافدين إليها من الشعوب القوية ومن أهل البلاد الباردة التي تبعث النشاط في قلوب أبنائها وأجسامهم وعقولهم فيتخذون عدتهم استعدادهم وكدهم رأس مالهم وعتادهم وذخرهم قصدهم واقتصادهم على حين قد أتت على الوطني أزمان من الفوضى ضعفت بها قواه فأصبح لا يقوى على العمل إلا عوده زمناً ولقنه بالتعليم والتربية وقد فاجأته الثروة والحرية مفاجأة بهرته وحيرته ثم أن ابن البلاد في الغالب لايسف إلى المكاسب التي يتنازل إليها للغريب فالأول يدل بأرومته ويعتز بأمته والثاني يذل في سد حاجته ونيل بغيته.

ولما رأت الحكومة المصرية على عهد الوزارة الرياضية أن الوطني يكاد يفنى في الدخيل سنت لائحة صعبت فيها على النازل في مصر أسباب الحصول على حقوق الوطني إلا بعد مقامه خمس عشر سنة على وأشعاره الحكومة بعزمه على تغيير جنسيته قبل حلول الوقت المعين بخمس سنين فكانت هذه اللائحة غريبة في بابها منعت بعض الطراء على القطر من ولوج باب الاستخدام في دواوين الحكومة وحظرت عليهم تعاطي الأعمال الإدارية والسياسية إلا أنها صرفت وجهتهم إلى اتخاذ الأعمال التجارية والزراعية والمالية والعلمية الحرة فافلحوا أكثر مما لو كانوا حصروا وكدهم في الوظائف الاتكالية ولم تحق عليهم كلمة مصر للمصريين. ومن هنا نشأ بغض النظر كثير من المصريين للغرباء. كان السبب في ذلك أول منافسة هؤلاء لأبناء البلاد في اجتياز الوظائف وهناك أسباب أخرى قواها أرباب الأهواء والغايات المسموعة فإنتقلت بالتقليد إلى العامة ومن نحا منحأهم من الخاصة.

وليست الشكوى التي يشكوها بعض الوطنيين من الوافدين في محلها كلها لأن من اغتنى بكده أو بطرق غير شريفة فإنما غنمه له وغرمه عليه. واو تسنى لابن البلاد أن يعمل عمله ما تأخر وياليت خاصة هذه البلاد يسعون إلى نزع هذه الأوهام من عقول العامة حتى لا يبغضوا غيرهم بسبب وبلا سبب ويمتزج بعضهم مع بعض لتحيل بودقة مصر ذاك الدخيل إلى المعدن الذي تريد أن يكونوا كلهم عليه. فقد ثبت أن ثبت أن هذه البودقة المصرية أحالت إليها فيما مضى التركي والجركسي والكردي واليماني والحجازي والعراقي والشامي والمغربي والفارسي فأتى منهم مقامهم قليلاً في هذا الوادي مصريون يغارون على مصلحة مصر وكثير منهم نفعوها وخدموها وأيديهم أكثر من ذلك خدمة أبنائها لها تحت اسم مصريين.

وما قط كانت لها بقعة من بقاع الأرض معلومة الحدود والمساحة وفقاً على جنس خاص من البشر لا ينازعها فيه منازع تسرح وتمرح فيها ما شاءت. فالأرض أرض الله والناس عباد الله وما أحلى بيت البحتري في هذا المعنى

ولا تقل أمم شتى ولا فرق ... فلأرض من ترابه والناس من رجل

وكل من نظر في نهوض الأمم لا يعتم أن يرى بأن كل أمة ربيت على كره غيرها وتجافت عن الاختلاط به وحسن الانتفاع منه وتجني من الخسارة أكثر من الربح. ولقد كانت بغداد من أكبر أمثلة التسامح في البلاد الإسلامية رفعت مقام الغريب وأحسنت الاستفادة منه فكان يعد بغدادياً كل من دخل بغداد. وتساوى في ذلك عجمها ودي لميها وعربيها وتركيها ونسطوريها وروميها ومجوسيها ومسلمها فجمع العدل من شملهم وآخت الراحة بينهم وعد سواء في النسبة إليها من نزلها اليوم منذ قرن وقد أعان على تكوين هذا المزج انتفاء الجنسية في الإسلام ورفق المسلمين بأهل ذمتهم ولولا ذلك ما قامت تلك الحضارة التي نسبت للمسلمين العرب مع أن أثرهم فيها أقل من أثر غيرهم من الأجناس والأديان. ولكن العمل مشترك وهو منسوب لقائدهم.

وأنا لا نزال نقول أن نقول أن من حظ مصر أن تكون البلاد المجاورة لها محتاجة حتى أشبهت فاس في القرون الوسطى لما تواتر عيث العرب على القيروان واضطربت قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت محمد بن أبي عأمر وابنه فرحل من قرطبة ومن القيروان من كان فيها من العلماء والفضلاء من كل طبقة فنزل أكثرهم مدينة فاس قال صاحب المعجب في الثلث الأول من المئة السابعة أن فاس اليوم على غاية الحضارة وأهلها في الكيس ونهاية الظرف ولغتهم أفصح اللغات في ذلك في ذلك الأقليم وما زلت أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب إليها ينسب وبحق ما قالوا ذلك وقال أن القيروان كانت منذ الفتح إلى أن خرابها الأعراب دار الخراب تفرق أهلها في كل وجه فمنهم من قصد مصر ومنهم من قصد صقلية والأندلس وقصدت منهم طائفة عظيمة أقصى المغرب فنزلوا مدينة فاس.

قصدوا فاس كما قصد الأندلسيون بلاد مراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والشام لما تأذن الله بانقراض دولتهم فعدوا من أهلها بل أهلها بل كما رحل الإيطالي والألماني والإسباني والإنكليزي والفرنسي إلى أمريكا لما ضاقت سبل الرزق في وجوههم فعدوا أميركيين وانشأوا يخدمون أميركا أكثر من خدمتهم لبلادهم حتى إذا تناسلوا فيها جاء أولادهم أمريكيين صرفاً. وكلما ارتقت الأمم تطال إلى إدماج غيرها في مجموعها والأمم الإفرنجية اليوم أكثر تسامحا في هذا المعنى من الأمم الشرقية كما يظهر بالاستقراء.

قال ابن حزم الأندلسي: إن جميع المؤرخين من أمتنا السالفين والباقين دون محاشاة أحد بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك متفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرية التي استقر بها ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكانها إلى أن مات فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهراً (قال ابن حجر صوابه أربعة أعوام) وقد بقي 58 عاماً وأشهراً بمكة والمدينة شرفها الله تعالى وكذلك أيضاً أكثر أعمار من ذكرنا وأن البصريين بدأ والعمران بن حصين وأنس ابن مالك وهشام بن عأمر وأبي بكرة وهؤلاء مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف وجمهرة أعمارهم خلت هنالك وأن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة بن الصامت وأبي الدر داء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم وكذلك في المصريين عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوى وفي المكيين عبد الله بن الزبير والحكم في هؤلاء كالحكم فيمن قصصنا فيمن هاجر إلينا من سائر البلاد فنحن أحق به وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا الذين إجماعهم فرض أتباعه وخلافه محرم اقترافه ومن هاجر منا إلى غبرنا فلاحظ لنا فيه والمكان الذي اختاره أسعد به.