مجلة المقتبس/العدد 12/صدور المشارقة والمغاربة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 12/صدور المشارقة والمغاربة

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 1 - 1907


شيلر

1759_1805

المؤثرات في أخلاق الرجال كثيرة وأهمها التربية والمحيط فكلما حسن هذان العاملان جاءت منهما نفوس مجردة عن الشرور نازعة إلى خير الأمور وأكثر العلماء على أن من الأخلاق ما هو طبيعي ومنها ما هو كسبي يستفاد بالعادة والتدرب وربما كان مبدؤه بالروية والفكر ثم يستمر عليه أولاً فأولاً حتى يصير ملكة وخلقاً. قال بعضهم ليس شيءٌ من الأخلاق طبيعياً للإنسان ولا نقول أنه غير طبيعي وذلك أنا مطبوعون على قبول الخلق بل ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعاً أو بطيئاً. وهذا الرأي الأخير هو الذي اختاره العلماء المتأخرون وأكثر فلاسفة الإسلام ومنهم ابن مسكويه وأحسن ما جاء في تربية النفس والأخلاق قوله تعالى ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.

هذه القاعدة الكلية في التربية لا تكاد تتخلف ويشتد ظهورها في كبار رجال الخليقة مثل مترجمنا اليوم شيلر الألماني رافع علم الحرية والنهضة الأدبية في أمته والساعي إلى إعلاء شأنها وإبلاغها درجات الكمال فقد أثرت في التربية الأولى التي ينشأ عليها كل سليم الفطرة في الغالب من حب الخير المحض وكره الشر فاشمأز من أعمال البشر وسيئات الحياة ثم لما قذفت به أدوار الحياة إلى المدرسة الحقيقية وأعني بها مدرسة العالم وأخذ في مثافنة كبار أرباب العقول وحملة العلم المقرون بالعمل تحلى له الراجح من المرجوح وصرح له الحق عن محضه وكشف له أصحابه وجه الحقيقة في أمور كثيرة. وكل قرين بالمقارن يقتدي.

لم يكن شيلر كصاحبه كيتي رجلاً خدمه السعد وحالفه الرغد بل كان من شقاء الحياة وقلة ذات اليد المثل المضروب والرجل المحروب المحزوب. عزم والده أن يعلمه اللاهوت من أول أمره ليكون له مورد رزق في حياته ويعيش عيش الواعظين والمرشدين وإن شئت فقل عيش الزاهدين والمزهدين إلا أن الدوق شارل وجين دي ورتمبرغ أشار على والديه أن يبعثا به إلى مدرسة شارل لتي أسسها في استوتكارت وفيها درس الحقوق والط وانصرف مدة الدراسة إلى مطالعة الكتب المحظور تلاوتها على التلاميذ سراً وقراءة جانب من أسفار الأدب من سنة 1773 إلى سنة 1780.

ولما خرج من المدرسة عين جراحا في الجيش براتب 18 فلوريني في الشهر فضاقت به الدنيا بما رحبت إذ كان يقضي عليه أن يخضع لنظام الجندية وينثني صاغراً لأوامر أمير نكاد مستبد ولعة بكشف رعاياه عن أسرارهم الخالصة ومراقبة سيرهم عن أمم. فلم تمض عليه سنتان في خدمة الدوق دي ورتمبرغ حتى ضاق صدره بما يلقاه من جور القوانين النابية في الأغلب عن طور العقل فخاصمه لأنه كان يمنعه من نشر شيء من قلمه في الأدب وحبسه مرة خمسة عشر يوماً لأنه ذهب لحضور رواية تمثيلية بدون إذن فاضطر شيلر أن يفر بنفسه ليتمتع بحريته فتوارى مدة عن الأنظار مخافة أن يقبض عليه ويسلم للدوق في ورتمبرغ وظل سنتين بعد ترك الخدمة يقاسي صروف الحدثان لا ملجأ ولا مورد ولا مال ولا فراغ بال. أجول من قطرب وأفلس من ابن المذلق وأهون من قعيس على عمته يقذف به نجد إلى سهل وسهل إلى حزن وبؤسه متصل كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها إن راح ذات اليمين تطوح به الطوائح ذات الشمال وإن اتجه نحو الشرق صاح به صائح عليه بالغرب وكأن الطبيعة عاندته في جسمه وصحته كما عاندته في وفره وماله. فقد كان نحيفاً ضئيلاً يمشي كاللقلق حرم الذوق حتى يكاد يضحك منه من يراه ولطالما سخر منه أصحابه عند تمثيل رواياته إذ لم يكن يعتني بهندامه ولا بملابسه فكنت تراه رث الهيئة والسربال وبيل المسكن تنبعث من غرفته رائحة الدخان الذي يدخنه وتراها غاية في التشويش فمن سخ من مصنفاته مطروحة في كل ناحية ومن بطاطا ملقاة مبعثرة في الزوايا ومن صحاف فارغة وزجاجات وأوان وغيرها تجدها هنا وهناك. وكثيراً ما كان صديقه كيتي يضجر من مجالسته في غرفته على عهد صداقته الأولى ولما بحث عن سر النتانة تبين له أن شيلر يحفظ التفاح العفن في جرار مائدته.

وهكذا كانت فاتحة حياة شيلر بؤساً وشقاءً وعناءً. روح ملتهبة متحمسة محصورة في جسم سريع العطب لها اتصال بالعالم الخارجي ولكن على أردأ الوجوه والصور وحالته الداخلية مقيدة بأمور خارجية لا ترضيك بوادرها فكادت تكون تربيته وحشية تقتل فيه روح الاستقلال وذلك لما يعانيه من الشقاء الذي يكرهه على الجهاد المتواصل لتحصيل رزقه كل يوم وكاد ما يلقاه من الألاقي في صباه يقضي عليه بالتأخر في سبيل العلم وهو أبداً يتقاذفه عاملان أفكاره الفلسفية الخيالية وميله إلى الآراء الثورية.

وبالجملة فقد كان على فقره وضعفه لا يرضيك ظاهره لأنه لم يخلق ليعجب الناس ويذهب بفضل الشهرة بينهم مثل كيتي صديقه ولا ليعيش في العالم عيش السعداء ويستمتع بطيبات الحياة الاجتماعية ولذلك تخلى شيلر وهو في سن الفتوة عن العالم الخارجي وعمد إلى الغوص في عالم الفكر والخيال وقد ذكر أحد واصفيه الأدوار التي تغلبت عليه فقال: إنه كان لأول عهده بعيداً كل البعد عن العالم الحقيقي يشتعل ذكاءً ممزوجاً بالعجب وقد أثرت فيه كتابات جان جاك روسوا الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي وغيره من شعراء ألمانيا فأصبح عدو المجتمع اللدود وخصيم التمدن الحديث والقديم. عرف بالاشمئزاز من أحوال البشر وبسوء النظر في مستقبل العالم وبسلامة النية في دعوة الخلق إلى الكمال على ما تجلى ذلك في كتاباته التي نشرها في صباه ثم بدلته التربية وأثر فيه صحابه وعشراؤه فأخذ يحسن ظنه بالمدنية الحاضرة وارتأى أن يخرج الإنسان من طور الطبيعة أولاً ويدخل في ميدان الجهاد بعمله مقاماً أدبياً محموداً فيكون من ذلك سعادة الإنسانية.

وقالوا في وصف شيلر أيضاً إنه لم يكن يعشق الطبيعة مثل صاحبه كيتي وما كان ينظر للعالم والناس مثل هذا نظر الصبور الذي لا غرض له ولا هوى بل كان يهتم بحالته الداخلية أولاً ثم بأفكاره وما شعر بأنه كان يتخمر في نفسه ويغلو في صدره من الإحساس والشعور فما ذكره في شعره وألم به في نثره من أحوال العالم هو ما وقع في قلبه وقاسى منه بذاته واقتنع به اقتناع فيلسوف وأخلاقي. ومن أهم ما شعر به ميله إلى الحرية ولكنه كان ميلاً مجرداً ليس فيه أثر للعمل إذ1 لم تخلق مع شيلر تلك الخاصية من إثارة النفوس وإهاجة العواطف وقد منحته فرنسا عام 1792حق الوطنية الفرنسية لحريته وتحمسه. ولقد أشرب قلبه حب الحرية فيه من فطرة سليمة تأبى الظلم ولا تميل إلى الصغار. وكان هذا الاستعداد فيه رد فعل طبيعي لما قاساه من الضغط منذ دخل المدرسة بل إنه حجة له لنقض أساس الاستبداد الذي عرف به صغار أمراء ألمانيا ممن لقي منهم الشدائد. جاء في موسوعات العلوم الفرنسية: وفي سنة 1787 ذهب شيلر إلى مدينة ويمار رجاء نيل الزلفى من ثلاثة كتاب وهم ويلاند الشاعر الأديب وهردير الكاتب الفيلسوف وكبتي العالم الفيلسوف وكان الدوق شارل أغست قد استدعاهم إلى حماه وجعلهم من رجال قصره فأراد شيلر من تقربه منهم أن يسلك سبيلهم في تقوية جميع قواه مطلقة حرة بدون أن يهتم لغير ذلك من أسباب النجاح فخاب سعيه أولاً مكن الانضمام إليهم وتكثير سوادهم ولكنه بقي مقيماً في ويمار وإن كان بعيداً عنهم رغم إخفاق ما قصد له وانتهت به الحال بعد بضع سنين قضاها في أشق أنواع الصبر المحزن إن نال مرتبة ثابتة فعين أستاذاً في كلية اينا سنة 1789 وفي السنة التالية تزوج بشارلوت دي لانجلفلد فرأى منها رفيقة تفهم مغازيه ومراميه وتحبه وتعنى بأمره وتخلص في خدمته خصوصاً في أوقات مرضه.

فساعده حب زوجته له وإعجاب تلاميذه وأصحابه بمواهبه واحترامهم له على التفرغ للعمل براحة بال أكثر من ذي قبل فأخذ يتغير شيئاً فشيئاً وأخذت تهدأ أفكاره من اضطرابها وتلين نفسه بعد شموسها وتجلت له الغاية التي يرمي إليها ويقضي عليه بعد ذلك أن يقتحمها بعزم ومضاءٍ. فراح يبذل أقصى مجهوده في التأليف وكثيراً ما كان يفرط في النظر ويعمل في الكتابة عملاً يجاوز الطوق ثم دعته الحال أن يتوفر على دراسة التاريخ دراسة الخبير البصير ليزيد به خبرة ويلقح به شعره. وكان يكتب في صغره كيفما اتفق فرأى من الضروري أن يستكثر من المعارف التاريخية الثابتة المحسوسة وأيقن أن مادته لا تغزر وأفكاره لا تنضج إلا بالتخلي عن الشعر زمناً والانقطاع إلى درس التاريخ وأن يتعلم كما قال عن نفسه أموراً كثيراً هو في حاجة إليها ويزرع قبل أن يحصد. ثم درس العلم الإلهي وأمور الآخرة أي درس الفلسفة في كتب فلاسفة اليونان الأقدمين ويتحر في فلسفة كانت الحكيم الألماني الشهير فاستفاد من دراسته فلاسفة اليونان لطف الأداء وجلاء المعاني ووضوحها وسهولة المأخذ مما لم يكن له أثر في منظومه ومنثوره ورأى في كانت أعظم ممثل للأفكار الحديثة وراقه منه حكمه السامية التي ذهب بها مذهب زينون الفيلسوف اليوناني كما راقه بأفكاره في الجمال والفنون. وقد دفع المترجم به إلى درس كتب الفلسفة اليونانية ويلاند المشار إليه كما دفعه إلى التبحر في مصنفات كانت رينهولد الفيلسوف حتى أصبحت تآليفه التي صدرت عنه في تلك الحقبة من حياته كأنها توفيق من الفلسفة اليونانية والكانتية أي بين الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة.

وفي سنة 1794 استحكمت صلات الود بين شيلر وكيتي وكانا تعارفا سنة 1788 تعارفاً لم يؤد إلى إحكام علاقات القلوب فانتفع المترجم من صاحبه كثيراً وأقل ما استفاد منه أنه أراده على الرجوع إلى حظيرة الشعر وكان زهد فيه زمناً على ما تقدم وانصرف إلى التاريخ والفلسفة. عاد إليه بنشاط غريب بعد انقطاعه عنه ست سنين. ثم مرض سنة 1791 مرضاً كاد يودي بحياته فلما ابل آلى أن يغتنم الساعات الباقية من حياته ليبقي له آثاراً تنفع الناس فألف في مدة عشر سنين وهي المدة التي قضاها في عشرة كيتي تآليف كثيرة كأنه كان يسارق بها المنون وأكثرها في الشعر والأدب والنقل عن اللغات.

وقصارى القول فإن شيلر الأديب الشاعر المؤرخ الحكيم المفكر هو بعد كيتي أكبر رجل من أهل الأدب في ألمانيا وربما كان مشتهراً لدى الخاصة والعامة أكثر من صديقه. وقد حسده معاصروه ولم يعترفوا به حتى أن المحدثين من أهل الأدب الساعين إلى نزع قيود الإنشاء القديم ومنهم الفيلسوف نيتتش الألماني حمل عليه حملات منكرة ولعل حملات هذا الفيلسوف كانت على شيلر في الزمن الذي جن فيه وهو لا يقل عن عشر سنين وهذي بالفلسفة هذيان المحموم. وامتاز شعر كيتي على شعر شيلر بأنك تقرأ في الأول النبالة والترف وشعر الثاني يطرب به الشعب فكأن الأول لزعماء الأمة والثاني للأمة نفسها وإن شئت فسمهما شاعر الأغنياء وشاعر الفقراء.

وقد وصفت صاحب هذه الترجمة العقيلة دي ستايل الكاتبة الفرنسية في كتابها ألمانيا بما يأتي معرباً بقلم أحد أصدقائنا:

كان شيلر عظيم الذكاء ثابت الاعتقاد وهما خلتان قل أن يجتمعا في رجال الأدب. تقرأ بين عينيه ما يسري بين جنبيه وترى شخصه مصوراً في كتابته يوحي إليك ذلك الأدب الوافر والعلم والفضيلة النادرة. وما كان شيلر ممن يغيرون اعتقادهم تمويهاً وتضليلاً لغيرهم. بلى كان يحب الشرف ويشغف بالمجد فيسعى إليهما من كل سبيل. وما أجمل الذكاء الذي سرى في أعطافه الشرف وقوة النفس إذا امتزجت بصفاء السريرة. فقد كان شيلر صديقاً وفياً وأباً رحيماً وزوجاً باراً يحترم النساء ويعجب بالفنون الجميلة ويعبد البارئ تعالى على ما وهبه من ذكاءٍ نادر على ما ترى ذلك ماثلاً في مصنفاته لو قلبت تضاعيفها وحدقت في سطورها.

ولقد لقيت شيلر لأول مرة في قصر الدوق دي ويمار في مجلس حافل بأهل العلم فإذا هو يتوقد ذكاءً وبعد نظر. وكان يجيد قراءة الفرنسية وإن لم يتكلم بها وقد ناظرته في أفضلية طريقة التمثيل عندنا فقام يعارضني على ما يجد في لسانه من حبسة وعجز عن التكلم بالفرنسية وإبان عن فضل جم وعلم واسع فانقلبت من المجلس وأنا احترمه وأبجله.