مجلة المقتبس/العدد 10/النهضة الأميركية
مجلة المقتبس/العدد 10/النهضة الأميركية
معربة من مبحث لأحد علماء فرنسا
يقول بعض الباحثين أنه لم يعهد أن تحسنت الصلات السياسية بين الإسبانيين والأمريكيين في دور من أدوار التاريخ وأنه ما كانت صداقة بين الأمتين قط. حالة متسلسلة من عهد خريستوف كولمبس فاتح أميركا الأول فإنه اعتبر هذه القارة أرضاً مفتوحة فراح الاسبانيول من سهول قشتالة الوعرة والعجب أخذ من نفوسهم ينقضون على تلك الأراضي البكر ويسخرونها لأمرهم. فلم يحترموا معابد الشمس في بلاد الانكاس وربطوا خيولهم في قاعات القصور في المكسيك وراحوا يسفكون الدماء ويملؤون جيوبهم بالمال نهمين إلى أخذه وبذلك أصبحوا ملوكاً في العالم الجديد وأخضعوا أميركا الجنوبية إلا أقلها لسلطان قهرهم بالسيف والنار وأطاعتهم جزائر الأرخبيل الانتيل وجزءٌ عظيم من أميركا الشمالية حتى ساغ لشارلكان ملك إسبانيا أن يقول أن الشمس لا تغرب عن ممالكي ولكن لكل فجر شفق ولكل علو نزول. فقد تألفت في حجر البلاد المفتوحة على توالي القرون أجناس جديدة تنبه فيها فكر الاستقلال.
وبينما كان ملوك إسبانيا في قصر الأسكوريال غارقين في فسادهم (كما كان أسلافهم ملوك الأندلس لما طردهم الإسبانيون منها) غافلين عما يدبر في تلك الأصقاع النائية من بلاد أميركا كانت حركة الأفكار على أتمها في هذه البلاد. ولم يكد يجتاز نابليون جبال البرينيه الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا حتى قامت بلاد أميركا الجنوبية على ساق وقدم وحذت المكسيك حذوها فانسلخت عن إسبانيا تلك الزهرات واحدة بعد أخرى. وفي غضون ذلك كانت تنمو مملكة الشمال من أميركا قد تجسد فيها فكر التبسط والتوسع داعية إسبانيا عدوتها القديمة للقتال مستندة إلى طالع قوتها وكان نجماً ساطعاً على حين كان نجم إسبانيا قد خوى وهوى.
وكان غير مذهب مونرو كيان تلك البلاد كما حرر سيف بوليفار أرض الجنوب من رق العبودية للدول الغربية. ولم يبق للإسبانيين من تلك الأصقاع المتنائية الأطراف بأسرها غير جزيرة كوبا فكانت لهم بمثابة جوهرة بديعة من بين تلك الحلي التي أضاعتها. فكوبا لؤلؤة الأرخبيل بلاد الأحلام والخيالات التي يمتد فيها سماط من الذهب الأخضر من حقو قصب السكر وتختلط بنجوم الأرض وسهوبها المعشبة وبحقول التبغ التي يعبث بهال النسيم وترنحها نسمات الغدو والآصال وبالغابات الغلباء الغبياء حيث يدوي الجراد الوردي الحاد ويطير وهناك بحيرات صافية تضطجع فيها التماسيح مستلقاة على فرش من النيلوفر المزهر.
ظل العلم الأوربي خافقاً على تلك الجزيرة التي طالما تسكعت في العبودية ولم تبد نواجذ الشر وسكان الولايات المتحدة من وراء ذلك يحرقون الأرم غيظاً من ذلك. وما فتئ سكان الشمال منذ انتشر مذهب مونرو إلى أن انتشرت مذكرة ماكنلي سنة 1898 يتربصون الدوائر بالاسبانيول ولا يكتمونهم العداء وقد دارت سياستهم في تلك الجزيرة على منع أية دولة أوربية مهما كانت قوتها من الاستيلاء على كوبا. واغتنمت الولايات المتحدة فرصة ضعف إسبانيا لتأخذ منها كوبا بالمال مباشرة أو بمعاضدة الثوار أو إشهار الحرب بالواسطة ودامت إسبانيا سنين طويلة ترقب وقوع هذه القنيصة في كفها. وما أشبه أميركا في مراقبتها إسبانيا إلا بنسر بالغ أشده ممتع بقواه ينقض على باز هرم لا منقار له ولا مخلب.
وفي غضون ذلك تبايع الماسونيون في تلك الجزيرة على الموت أو الاستقلال وقامت من بعد ومن قبل ثورات طفيفة كان القائمون بأمرها يخافون لأول أمكرهم البوادر حتى إذا كان عام 1860 قام ثلاثة رجال ممن أشربت قلوبهم حب الحرية الحقيقية يحاولون استقلال بلادهم وقد خص كل منهم بمزية لا يشاركه فيها صاحبه وكان ثالثهم قائد جموع الزنوج وهم ثلث سكان الجزيرة فاشتعلت بهم جذوة الفتنة وكانوا النافخين في ضرامها من أقصى البلاد إلى أدناها. وبيعت الأسلحة للثائرين ودامت الحرب بين الثائرين والإسبانيين والولايات المتحدة ترقب من طرف خفي ما يحل بالجزيرة وتشهد إسبانيا تنفق أموالها وتمزق رجالها. ثم فسدت أحوال الموظفين والإسبانيين في كوبا وصاروا ينالون وظائفهم بالرشى والمحاباة فضج السكان وراحوا يتألفون عصابات تحت راية القائم هناك وأتتهم النجدات من كل الجهات. واتفق أن أرسلت إسبانيا عليهم أحد قوادها فأجرى من الفظائع والفضائح ما أسود له وجه إسبانيا أمام العالم المتمدن فزادت نفوس الكوبيين شموساً واشمئزازاً وقويت شكيمتهم على دفع صائل الإسبانيين وخلع نير سلطتهم.
وفي 12 أبريل (نيسان) سنة 1898 أصدر رئيس جمهورية الولايات المتحدة بلاغاً أخيراً إلى إسبانيا أعلن فيه الحرب عليها وحجته أن انتشار الفوضى في الجزيرة وطول أمدها وحب الإنسانية والأضرار التي لحقت بمصالح حكومته التجارية دعته أن يضع حداً لهذه الفتن لئلا يكدر صفاء الجزيرة. وقد عرف الكوبيون ما انطوت عليه صدور الأمريكان من الرغائب فخاطبهم أحد رجال السياسة بقوله: أنتم الدولة التي فسحت للأيرلنديين والبولونيين مجال الرجاء في الاستقلال وظهرت هذه المرة حكومة أميركا بمظهر العظمة وأن القول قولها فيما تريد لا تنازعها دولة أوربية فيما تنويه من حماية حقوقها. وكانت حرب الأمريكان مع الاسبانيول ذات بال وهي في الحقيقة لا خطر فيها عليهم ولم تمض أيام حتى حطم أسطولهم أسطول الإسبانيين في سانتياغو وعقدت عهدة الصلح في باريس فتخلت إسبانيا عن جزائر الفليبين لقاء عشرين مليون دولار وعن بورتوريكو وكوبا بدون أن تتعهد الولايات المتحدة بدين كوبا.
دخلت كوبا تحت حكم الولايات المتحدة سنة 1898 وخرجت منها سنة 1902 على وجه قل في الدول من يروقه العلم به. ذلك أنها لم ترغب في أن تحيد عن سنن الإنسانية فعملت بالحكمة المأثورة عن واشنطون مؤسسها الأول من أن المستقبل مضمون لأحسن الناس أخلاقاً فرأت أميركا أن ليس من الإنصاف أن يقاتل الأمريكان عن جزيرة تريد نزع السلطة الأجنبية ويأخذوها غنيمة باردة وهم أنصار الحرية الأقدمون ورجال السياسة المحنكون ولمستقبلهم باسمون وبعظمته مستبشرون. فمن ثم حافظوا على مصالحهم في الجزيرة وجعلوا لها حكومة جمهورية. ورفع تمثال إيزابيلا الكاثوليكية من المتنزه العام وكان قائماً فيه منذ مائتي سنة ونصب تمثال الحرية وغادر الحاكم الأميركي أرض الجزيرة بين الهتاف والدعاء لدولته بالنصر ولكوبا باشتداد الأزر (في الشهر الماضي اضطرت الولايات المتحدة أن تعود فتجهز جيشاً على كوبا لقمع ثائرة الثائرين).
دخلت الولايات المتحدة في مسألة فنزويلا سنة 1881 رغم إنكلترا ولم ترهب أساطيل هذه وعظمتها البحرية بل دفعها إلى ما تريد آمالها في النهضة الأميركية وما ترى لنفسها الحق فيه والاحتفاظ به من مثل مبدأ مونرو عدم مداخلة الأوربيين في أميركا تلك القارة التي لها حق التصدر فيها وأفضلية الحكم على سائر أقطارها وأهلها وأنها هي هي المرجع في كل المسائل الاجتماعية التي تعرض لأميركا والأمريكان يهددون إنكلترا ضمناً في المفاوضات السياسية الطويلة حتى ساغ لهم بها أن يجروا ما أرادوا في فنزويلا مشيعين أن المخترع أديسون الشهير قد اكتشف مدافع تطلق قنابل من الديناميت وسلاسل مهلكة وأدوات كهربائية تبيد جيوشاً. بمعنى أن أميركا إذا أعلنت حرباً على أية دولة من دول أوربا لابد أن ترجع مكللة بأكاليل النصر وتكون إنكلترا أو غيرها مثلاً في يد الولايات المتحدة كما كانت إسبانيا في يدها كالفارة بيد القط. ثم فضت المسائل وانتهت بدوي مدافع الأمريكان في كوبا على ما أرادت الولايات المتحدة وتخلصت إنكلترا من هذه الورطة أحسن تخلص خائفة أن يصيب مستعمرتها كندا ما أصاب مستعمرات غيرها في أميركا من قبل.
ثم قامت الفتن بين الأحرار والمحافظين في كولومبيا دامت إلى سنة 1900 فتداخلت الولايات المتحدة بواسطة أحد رجالها وكفت عوادي الشر فصار لها بذلك نفوذ أدبي متزايد وعلت مصلحتها فوق المصالح وكان لها الفضل في حقن الدماء وإغماد سيف الفتنة والعداء. وبينما كان الأمن يعود إلى نصابه في كولومبيا كانت حكومة فنزويلا تسيل دماً نجيعاً لاختلاف الكلمة على رئيسين لها يتنازعان السلطة. حرب قتل فيها نحو ثلاثين ألف رجل ومع هذا هونت بعض الجرائد أمر هذه الفتنة ودعتها بحرب الرواية الهزلية. وقد ساعدت الولايات المتحدة كولومبيا على فنزويلا في الباطن في مسألة التخوم بين تينك المملكتين وقامت أميركا الشمالية تدفع عادية من يريد كولومبيا بسوءٍ وحجتها أنها لا ترضى إلا باستتباب أسباب التجارة في برزخ باناما وأنها ما لجأت إلى القوة في هذا المعنى إلا لما عجزت كولومبيا عن ذلك.
قضت الفتن الأهلية وتجييش الجيوش والتعويضات والنهب أن تكون خزانة حكومة فنزويلا أفرغ من فؤاد أم موسى وماليتها أضعف من جسم العليل بعلة قديمة حتى تضرر من ذلك أرباب الأموال من الأجانب النازلين فيها ولاسيما الإنكليز والألمان والطليان بل تضررت ثروة الغرباء من الأوربيين كلهم ورعايا الولايات المتحدة أيضاً وأنذرت ألمانيا حكومة الولايات المتحدة بسوء المصير. وسنة 1901 أعلن سفير جرمانيا الولايات المتحدة أن دولته تضطر إلى استعمال القوة في فنزويلا إذا لم تجب هذه مطالب الماليين الأجانب ثم عادت تلك الدول الثلاث والغضب آخذ منها مأخذه لسلب حقوق رعاياها حتى اضطرت السفن الألمانية أن تغرق سفينتين فنزويليتين وعندها قامت الولايات المتحدة تقول أنها ترضى بتحصيل المطاليب من فنزويلا ولكنها لا ترضى بأن تضم دولة أوربية إلى حكمها أرضاً أميركية تغنمها في حرب تشهرها على فنزويلا. وأصبحت هذا البلاغ وعززته بثلاث وخمسين بارجة حربية وأربعة عشر ألف جندي لإيقانها بأن غاية تلك الدول وألمانيا في المقدمة أن يحصرن مرافئ فنزويلا ويحكمن فيها بعد بما أردن. ثم قر رأي كل من ألمانيا وإنكلترا وإيطاليا على أن يحكمن المستر روزفلت رئيس الولايات المتحدة في هذه المهمة فأبى إباء تلطف ثم عهد إلى أحد رجاله فحل الأشكال سنة 1903 وأرضى دول أوربا الثلاث الكبرى حتى اعترفن للولايات المتحدة بأنها صاحبة الشمال كما هي المسيطرة على الجنوب وأن بيدها تطبيق مفاصل مبدأ مونرو في كل ناحية من أنحاء القارة الأمريكية وأنها وإن كان منها الغيم والمطر في هذه الزعازع فقد أوردت الأشكال وجرى على يدها حله فحق لمونرو وأشياعه من بعده أن يهتزوا في قبورهم طرباً بهذا الظفر وبنجاح مبدأهم رغم أنف المعاند والحسود.