مجلة المقتبس/العدد 1/صدور المشارقة والمغاربة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 1/صدور المشارقة والمغاربة

​ابن حزم -- ولد سنة 384 وتوفي سنة 456هـ​
صدور المشارقة والمغاربة
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 2 - 1906


في الناس من يفادون بنفوسهم حباً بنفع يرجون أن يجنيه أهلهم وعشيرتهم ويتعزون عن ذلك بما يصيبونه من مغنم ديني أو دنيوي ومن هذه الفئة ابن حزم الأندلسي. فقد ترك وزارة المستظهر بالله اختياراً لما آنس من نفسه الغناء في العلم، وأقبل على القراءة وتقييد الآثار والسنن، فنال من ذلك ما لم ينله أحد قبله بالأندلس حتى عد قريع دهره، ووحيد قطره، وألف من كتب الأدب، والدين والنسب وغيرها، ما يبلغ نحو أربعمائة مجلد أو نحو ثمانين ألف ورقة.

كان أبو محمد بن حزم على كثرة علمه وعقله، شديد اللهجة، صعب الطريقة، ولعل ذلك ناتج من العلة الشديدة التي كانت أصابته كما قال عن نفسه فولدت عليه ربواً في الطحال شديداً فولد ذلك عليه من الضجر، وضيق الخلق، وقلة الصبر والنزق، أمراً جاشت نفسه فيه، إذ أنه أنكر تبدل خلقه، واشتد عجبه من مفارقته لطبعه، وصح عنده أن الطحال موضع الفرح: إذا فسد تولد ضده. قال، ولكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحيي فكري، وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف عظيمة النفع، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني، ما انبعثت لتلك التواليف.

وما يشاهد إذاً في كتابه الملل والنحل من إفحاش الطعن على من خالفه قد دفعه إليه مزاجه، وكان هو السبب الذي دعا إلى تألب خصومه عليه في حياته. قال أبو مروان بن حيان مؤرخ الأندلس: كان أبو محمد حافظاً فنوناً من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة. له في بعض تلك الفنون كتب كثيرة غير أنه لم يخلُ فيها من غلط وسقط، لجرأته في التسور على الفنون لاسيما المنطق، فإنهم زعموا أنه زلّ هنالك، وضلّ في تلك المسالك، وخالف أرسطاطا ليس واضعه مخالفة من لم يفهم غرضه، ولا أرتاض في كتبه.

ومال أولاً به النظر في الفقه إلى رأي محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله وناضل عن مذهبه، وانحرف عن مذهب سواه، حتى وُسم به، ونسب إليه، فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء، وعيب بالشذوذ، ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظاهر مذهب داود بن علي ومن اتبعه من فقهاء الأمصار، فنقحه ونهجه، وجادل عنه، ووضع الكتب في بسطه، وثبت عليه، إلى أن مضى لسبيله رحمه الله.

وكان يحمل علمه هذا ويجادل من خالفه فيه على استرسال في طباعه، ومذل (إفشاء) بأسراره، واستناد إلى العهد الذي أخذه الله على العلماء من عباده، ليبيننه للناس ولا يكتمونه. فلم يكُ يلطف صدعه، بما عنده، بتعريض ولا يزنه بتدريج، بل يصك به معارضه صكّ الجندل، وينشقه متلقنه انتشاق الخردل، فينفر عنه القلوب، ويوقع به الندوب، حتى استهدف إلى فقهاء وقته فتمالؤوا على بغضه، وردوا أقواله، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنه، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه، والأخذ عنه، فطفق الملوك يقصونه عن قربهم، ويسيرونه عن بلادهم، إلى أن انتهوا به منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة وبها توفي رحمه الله سنة ست وخمسين وأربعمائة وهو في ذلك غير مرتدع، ولا راجع إلى ما أرادوا به. يبث علمه في من ينتابه بباديته تلك من عامة المقتبسين منهم من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة يحدثهم ويفقههم، ويدارسهم، ولا يدع المثابرة على (التعليم) والمواظبة على التأليف والإكثار من التصنيف، حتى كمل من مصنفاته في فنون من العلم وقر بعير لم يعدُ أكثرها عتبة باديته بتزهيد الفقهاء وطلاب العلم فيها، حتى حرق بعضها باشبيلية، ومزقت علانية، لا يزيد مؤلفها في ذلك إلا بصيرة في نشرها، وجدالاً للمعاند فيها، إلى أن مضي لسبيله.

وأكثر معايبه زعموا عند المنصف له، جهله بسياسة العلم التي هي (أعوص) من إيعابه، وتخلفه عن ذلك على قوة سبحه في غماره، وعلى ذلك كله فلم يكن بالسليم من اضطراب رأيه، ومغيب شاهد علمه عنه عند لقائه، إلى أن يحرك بالسؤال فيفجر منه بحر لا يكدره الدلاء، ولا تقصر عنه الرشاء، له على كل ما ذكرناه دلائل ماثلة، وأخبار مأثورة، وكان مما يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم. . .

وبعد أن ذكر ابن حيان إدلال ابن حزم بأرومته ونسبه، مع أنه من عجم لبلة، وماله من المجالس مع أولي المذاهب المرفوضة من أهل الإسلام وأورد بعض تآليفه قال: ومن شعره يصف ما أحرق له من كتبه ابن عباد قوله:

فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رقّ وكاغد
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة
فكم دون ما تبغون لله من سر
وله: من ظلّ يبغي فروع علم
يُدرى ولم يدر منه أصلا
فكلما ازداد فيه سعياً
زاد لعمري بذاك جهلا
وقال: كأنك بالزوار لي قد تناذروا
وقيل لهم أودى عليّ بن أحمد
فيا ربّ محزون هناك وضاحك
وكم أدمع تذرى وخد مخدد
عفا الله عني يوم أرحل ظاعناً
عن الأهل محمولاً إلى بطن ملحد
واترك ما قد كنت مغتبطاً به
وألقى الذي آنست دهراً بمرصد
فوا راحتي إن كان زادي مقدماً
ويا نصيبي إن كنت لم أتزود

ويا لبدائع هذا الحبر عليّ وغرره ما أوضحها على كثرة الدافنين لها والطامسين لمحاسنها وعلى ذلك فليس ببدع فيما أضيع منه فأزهد الناس في عالم أهله. وقبله رُدي العلماء بتبريزهم على من يقصر عنهم والحسد داء لا دواء له - انتهى كلام ابن حيان في خبره.

قلت أنا (ابن بسام) ولعمري ما عقه، ولا بخسه حقه، وقال ابن بشكوال: كان أبو محمد أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة على توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار. وسننشر طرفاً صالحاً من جيد شعره.