مجلة المقتبس/العدد 1/صحف منسية
مجلة المقتبس/العدد 1/صحف منسية
نصائح ابن حزم
باب عظيم من أبواب العقل والراحة وهو طرح المبالاة بكلام الناس واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل بل هو العقل كله والراحة كلها. من قدر أنه يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. من حقق النظر وراض نفسه على السكون إلى الحقائق وأن المها في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه لأن مدحهم إياه إن كان بحق وبلغه مدحهم له أسرى ذلك فيه العجب فأفسد بذلك فضائله وإن كان بباطل فبلغه فسر فقد صار مسروراً بالكذب وهذا نقص شديد. وأما ذم الناس إياه فإن كان بحق فبلغه فربما كان ذلك سبباً إلى تجنبه ما يعاب عليه وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص. وإن كان بباطل فصبر اكتسب فضلاً زائداً بالحلم والصبر.
لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويحبونك وأن العلماء يحبونك ويكرمونك لكان ذلك سبباً إلى وجوب طلبه فكيف بسائر فضائله في الدنيا والآخرة. لو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء ويغبطه نظراؤه من الجهال لكان ذلك سبباً إلى وجوب الفرار منه فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة. لو لم يكن من فائدة العلم والاشتغال به إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساوس المضنية ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس لكان ذلك أعظم داع إليه.
من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه كان كزارع الذرة في الأرض التي يجود فيها البر وكغارس الشعراء (شجرة من الحمض ليس لها ورق ولها هدب تحرص عليها الإبل حرصاً شديداً تخرج عيداناً شداداً) حيث يزكو النخل والزيتون. نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك العسل والحلواء من به احتراق وحمى وكتشميمك المسك لمن به صداع من احتدام الصفراء. الباخل بالعلم ألوم من الباخل بالمال لأن الباخل بالمال أشفق من فناء ما بيده والباخل بالعلم بخل بما لا يفنى على النفقة ولا يفارقه مع البذل. من مال بطبعه إلى علم ما وإن كان أدنى من غيره فلا يشغلها بسواه فيكون كغارس النارجيل بالأندلس وكغارس الزيتون بالهند وكل ذلك لا ينجب.
احرص على أن توصف بسلامة الجانب وتحفظ من أن توصف بالدهاء فيكثر المتحفظو منك حتى ربما أضر ذلك بك وربما قتلك. وطن نفسك على ما تكره يقلُّ همك إذا أتاك ولم تتضر بتوطينك أولاً ويعظم سرورك ويتضاعف إذا أتاك ما تحب مما لم تكن قدرته. الوجع والفقر والنكبة والخوف لا يحس أذاها إلا من كان فيها ولا يعلم قيمتها إلا من كان خارجاً عنها وليس يراه من كان داخلاً فيها. الأمن والصحة والغنى لا يعرف حقها من كان فيها. وجودة الرأي والفضائل وعمل الآخرة لا يعرف فضلها إلا من كان من أهلها ولا يعرفه من لم يكن منها. التهويل بلزوم زي ما والاكفهرار وقلة الانبساط ستائر جعلها الجهال الذين مكنتهم الدنيا أمام جهلهم. ثق بالمتدين وإن كان على غير ديتك ولا تثق بالمستخف وإن أظهر أنه على دينك. من استخف بحرمات الله فلا تأمنه على شيء تشفق عليه. وجدت المشاركين بأرواحهم أكثر من المشاركين بأموالهم وعلة ذلك طبيعية في البشر إنما تأنس النفس بالنفس فأما الجسد فمستثقل مبروم به ودليل ذلك استعجال المرء بدفن حبيبه إذا فارقته نفسه وأسفه لذهاب النفس وإن كانت الجثة حاضرة بين يديه.
خطأ الواحد خير في تدبير الأمور من صواب الجماعة التي لا يجمعها واحد لأن خطأ الواحد في ذلك يستدرك وصواب الجماعة يضري على استدامة الإهمال وفي ذلك الهلاك. سوء الظن يعده قوم عيباً على الإطلاق وليس كذلك إلا إذا أدى صاحبه إلى ما لا يحل في الديانة أو إلى ما يقبح في المعاملة وإلا فهو حزم والحزم فضيلة. من عيب حب الذكر أنه يحبط الأعمال إذا أحب عاملها أن يذكر بها وكاد يكون شركاً لأنه يعمل لغير الله تعالى وهو يطمس الفضائل لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حباً للخير لكن ليذكر به فواجب على المرء ترداد النصح رضي المنصوح أو سخط تأذى الناصح بذلك أو لم يتأذ إذا نصحت فانصح سراً لا جهراً أو بتعريض لا تصريح إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك فلابد من التصريح ولا تنصح على شرط القبول منك فإن تعديت هذه الوجوه فأنت ظالم لا ناصح وطالب طاعة وملك لا مؤد حق ديانة وأخوة. . . لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه ولا ينتفع بمعرفته فهذا فعل الأرذال ولا تكتمه ما يستضر بجهله فهذا فعل الشر.
الناس في بعض أخلاقهم على تسع مراتب فطائفة تمدح في الوجه وتذم في المغيب وهذه صفة أهل النفاق والعيابين. وهذا خلق فاش في الناس غالب عليهم. وطائفة تذم في المشهد والمغيب وهذه صفة أهل السلاطة والوقاحة من العيابين. وطائفة تمدح في الوجه والغيب وهذه صفة أهل الملق والطمع. وطائفة تذم في المشهد وتمدح في المغيب وهذه صفة أهل السخف والنواكة. وأما أهل الفضل فيمسكون عن المدح والذم في المشاهد ويثنون بالخير في المغيب أو يمسكون عن الذم وأما العيابون البراء من النفاق والقحة فيمسكون عن المدح وعن الذم في المشهد والمغيب.
مما ينجع في الوعظ الثناء بحضرة المسيء على من فعل خلاف فعله فهذا داعية إلى عمل الخير وما أعلم لحب المدح فضلاً إلا هذا وحده وهو أن يقتدي به من يسمع الثناء ولهذا نوجب أن نؤرخ الفضائل والرذائل لينفر سامعها عن القبيح المأثور عن غيره ويرغب في الحسن المنقول عمن تقدمه ويتعظ بما سلف. وتأملت كل ما دون السماء وطالت فكرتي فوجدت كل شيء فيه من حي وغير حي طبعه إن قوي أن يقلع عن غيره من الأنواع كيفياته ويلبسه صفاته فترى الفاضل يودُّ لو كان الناس فضلاء وترى كل من ذكر شيئاً يحض عليه بقول أو فعل أمراً مداوماً وكل ذي مذهب يود لو كان الناس موافقين له وترى ذلك في الغياض إذا أحال بعضها على بعض أحاله إلى نوعيته وترى ذلك في تركيب الشجر وفي تغذي النبات والشجر والماء ورطوبة الأرض وإحالتها ذلك إلى نوعيتها.