مجلة الرسالة/العدد 998/ميثاقان لا ميثاق واحد
مجلة الرسالة/العدد 998/ميثاقان لا ميثاق واحد
للدكتور عمر حليق
لم يكن بد لهذه الناسكات السيئة التي منيت بها قضايا العرب والمسلمين وقضايا دولية أخرى في هيئة الأمم من أن تخلق في عقول الناس وأفئدتهم فتورا إزاء كل ما يصدر عن هذه الهيئة العالمية من نشاط.
وليس في ذلك من عجب. فهيئة الأمم المتحدة في ميثاقها وفي أهدافها نتاج فكري تحمست ليصاغته وتحديده في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة جماعة من أئمة الفكر السياسي المعاصر مزودين بمثالية عميقة ودراسة دقيقة لمشاكل الإنسانية وآمالها، ورغبة صادقة لإصلاح ما أفسدته الحروب وشرورها من دنيا الناس وفي عقولهم وأفئدتهم.
ولكن تاريخ الإنسانية منذ أقدم العهود يأبى إلا أن يتجاهل قوالب الفكر الصائب ودعائم المثالية الصادقة؛ ويندفع في صياغة الأحداث على نحو يراعي جنون السياسة وشذوذ أساليبها ومسالكها أكثر من مراعاته لاتزان الفكر وروحانية المثاليين من بناة المجتمع الذين تجردوا مما يتعرى السياسة العملية من انتهازية لا ترحم ومكر لا يرتدع.
وفي خضم هذه الجلبة التي تنبعث عن شقاق المعسكرين المتطاحنين الغربي والسوفيتي في حلقات الأمم المتحدة وصدى تراشق التهم ومساوئ السلوك الذي توجه به وفود هذين المعسكرين أعمال الأمم المتحدة وقراراتها. . . في هذا الخضم تندثر معالم جزء عام من العلاقات الإنسانية تعمل على خدمته هيئات اختصاصية متفرعة عن هيئة الأمم في واحدة أو أكثر من هذه القاعات الهادئة المكيفة بأحدث آلات التهوية والإضاءة والمزينة بفاخر الأثاث والتي تطل على النهر الشرقي التي تحيط بمقر الأمم المتحدة الدائم هنا في نيويورك. ولجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة واحدة من الهيئات الاختصاصية التي تعمل خلال انفضاض الجمعية العامة في فصل الربيع والصيف وهذه اللجنة هيئة لا تضم جميع الدول الأعضاء في هيئة الأمم - وهم ستون دولة - وإنما تقتصر على فئة مختارة تمثل نختلف النظم السياسية المعاصرة والمناطق الجغرافية التي تقسم إليها هذه المعمورة، ففيها الروس والأمريكان والبريطانيون والفرنسيون؛ وفيها من يمثل القارة الآسيوية والشرقي العربي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وقد أنشأت هذه اللجنة منذ أن استقر لهيئة الأمم كيانها الداخلي في السنتين الأوليين من عمر هذه المؤسسة العالمية. وكلفت هذه اللجنة في عام 1947 أن تصوغ ميثاقا عالميا يضمن للفرد في المجتمع ما وهبه الله من حقوق طبيعية وما اكتسبه من حقوق قانونية وسياسية واقتصادية واجتماعية وفرها لها تاريخ الفكر وصراع الناي وتطور المجتمع على مدى الأجيال.
إذن فمهمة اللجنة هي في الواقع مهمة مثالية المفروض فيها أن تستوحي العقل والروح؛ وإن تتجنب نزاعات السياسة الانتهازية وفوضى السلوك الدولي الذي يهيمن على أعمال معظم اللجان والهيئات والمجالس في الأمم المتحدة.
وكان من المنتظر أن يستغرق وضع هذا الميثاق العامل لصيانة حقوق الإنسان وقتا طويلا. لكل ثقافة ولكل كتلة سياسية تفسير خاص عن جوهر الحقوق والواجبات للفرد في المجتمع الأكبر، وهذا التباين مردة اختلاف اجتهاد الثقافات والنظم الفكرية وفلسفات السياسة والاقتصاد في إيضاح صلة المواطن بدولته والنظم القائمة عليها؛ وعلاقة الفرد بالجماعة الإنسانية التي تشاركه العيش في بقعة معينة من هذا العالم الواسع.
ومضت لجنة حقوق الإنسان تعمل في تؤده، فتوصلت في دورتها الأولى والثانية (1947 و1948) لوضع مسودة الميثاق وخطوطه الرئيسية، واتفقت مبدئياً على أن تنشر في الناس الأسس الفكرية وخلاصة المبادئ والنظريات التي تستند إليها في صياغة المواد التفصيلية لهذا الميثاق العالمي، ومن ثم وضعت وثيقتها الموجزة المعروفة (بإعلان حقوق الإنسان) وهي بيان قصير لا يعرض جوهر الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبني البشر، ولا يدخل في تفصيلها وتعريف الناس بنا يتصل بها من حقوق فرعية وصيانة ذلك والمطالبة به. وتركت هذه التفاصيل الجوهرية إلى الميثاق الشامل الذي قررت اللجنة متابعة الدارسة والبحث في مواده وفصوله إلى الدورات القادمة.
وفي سنة 1948 وافقت الجمعية العامة لهيئة الأمم على صيغة (إعلان حقوق الإنسان) كما صاغته اللجنة، وأوصت الجمعية العامة اللجنة بأن تتابع عملها لصياغة المواد التفصيلية لهذه الحقوق.
وأخذت اللجنة تعقد دورات متتابعة فاجتمعت في عامي 1949 و1950 وتوقفت عن العمل في عام 1951 بسبب تأخر بعض الدول عن الإجابة على الأسئلة التي وجهتها اللجنة إليها عن مدى انطباق التشريعات المعمول بها في تلك الدول على مبادئ حقوق الإنسان. ثم عادت اللجنة فعقدت دورة أخرى هذه السنة في المقر الدائم لهيئة الأمم هنا في نيويورك استغرقت تسعة أسابيع من 14 إبريل إلى 13 يونيو وترأس هذه الدورة الدكتور شارل مالك رئيس الوفد اللبناني الدائم لدى هيئة الأمم. وقد سبق للمسز روزفلت عقيلة رئيس الجمهورية الأمريكية الأسبق أن ترأست عددا من الدورات السابقة.
وفي خلال هذه السنوات التي انقضت على تألف لجنة حقوق الإنسان في عام 1947 ألم بالعلاقات الدولية من التوتر ما أتاح لجنون السياسة وشذوذها أن ينافس الاتزان والمثالية التي كان المفروض في اللجنة وأعضائها أن يهتدوا بها في اجتهادهم لصياغتهم لميثاق حقوق الإنسان كمعاهدة عالمية تتقيد بها الدول مترفعة عن المؤثرات والأهواء والنزعات السياسية ومتقيدة بالمثل الفكرية والوعي الثقافي واليقظة العاطفية التي تسود المجتمع المعاصر في عالم مرت به في الأزمنة الحديثة ألوان من التطور والتجارب ما أرهق احساسات الفرد وأذكى وعيه وفرض على الدولة نهجا في السلوك واجب في تهاد التشريع يتناسب مع يقظة هذا الشعور وشدة هذا الوعي.
ولذلك فقد سيطرت على جو اجتماعات لجنة حقوق الإنسان في دورتها الأخيرة اعتبارات سياسية زادت من شدة التباين بين الثقافات والنظم التي يمثلها أعضاء اللجنة.
فأصر المندوبون الروس وزملاؤهم من الدول التي تؤمن بالناظم الماركسي على ضرورة توكيد الحقوق الاقتصادية للفرد في الميثاق الدولي الذي تشغل به اللجنة توكيدا مفضلا على التوكيدات الأخرى؛ لأن العنصر الاقتصادي في رأيهم هو المهيمن على سلوك الفرد إزاء الدولة والمجتمع؛ وعلى اجتهاد الدولة والمجتمع في مجاراة هذا السلوك، ولم يأخذ المندوبون الأمريكان وحلفاؤهم - وهم كثرة بين أعضاء الأمم المتحدة - بهذا التفسير الماركسي، وأخذوا يشرحون - في كلام كثير وفي مقترحات عديدة وتعديلات متلاحقة - بأن الديمقراطية الحقة كما يفهمها الأمريكان ويمارسونها في أنظمتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي الضمان الوحيد لحقوق الإنسان وتنظيم علاقاته مع الدولة ومع إخوانه في الإنسانية. ومن ثم كان المنطق الأمريكي في النقاش وفي المقترحات والتعديلات التي وجهت إلى مواد الميثاق المقترح يتعمد توكيد الحقوق المدنية السياسية والأسس الديمقراطية (كما يفهمها الأمريكان) في الحكم وفي سلوك الفرد توكيدا مفضلا على سواه من التوكيدات.
وكان من الممكن أن تسود وجهة النظر الأمريكية في أعمال اللجنة بفضل ما للأمريكان من نفوذ في أعمال الأمم المتحدة لولا ظاهرة مستجدة في حاضر السلوك الدولي. . هذه الظاهرة يمثلها وتعبر عنها طائفة من الدول الصغرى في آسيا وأمريكا اللاتينية وهي دول إن فقدت النفوذ العسكري والسياسي في تسيار العلاقات الدولية فإن لها ضربا آخر من النفوذ يستند إلى تعداد أصواتها في المؤتمرات الدولية - وهو تعداد يرجح الكفة حين يتكتل ويجمع على اتخاذ خطوة يختلف عليها الكتلتين الرئيسيتين (السوفيتية والأوروبية - الأمريكية) التي تكثر اختلافاتها في حلقات التفاوض أو الخصومة الدولية.
وإزاء اختلاف الروس والأمريكان في وضع حجر الزاوية وتحديد نقطة الارتكاز في حقوق الإنسان وهي العنصر الاقتصادي أن الحرية السياسية والمدنية بأوسع معانيها نشط منودبو الدول الصغرى الذين يمثلوا آسيا (ومعهم مندوب مصر الدكتور محمد عزمي) وأمريكا اللاتينية إلى التكتل، أصروا على أن تجربتهم في عهود الاستعمار والسيطرة الأجنبية لم تقنعهم بأن توكيد الحرية السياسية كما فسرها الأوربيون والأمريكان كاف لأن يضمن للفرد حقوقه الطبيعية وحقوقه المكتسبة، وإن التطور الذي ألم يحاضر الفكر يفرض على اللجنة أن توازن موازنة عادلة بين فضائل الحرية السياسية بمعانيها الواسعة الشاملة وبين فضائل الضمان الاقتصادي والاجتماعي. فالناس في الشعوب الآسيوية والأفريقية واللاتينية التي لم يكتمل بعد نموها الاقتصادي والاجتماعي لا تستطيع أن تضمن حقوقها السياسية وتوطد حرياتها الديمقراطية ما لم يتوفر لديها من أسباب العدالة الاقتصادية والضمان الاجتماعي ما يساعدها على أن تنال حرياتها السياسية كاملة، فالفرد الذي لا يتوفر له فرص اقتصادية تعينه على ملء معدته، وطريق اجتماعية تساعده على تغذية عقله بالعلم والتحصيل، لا يحسن الانتفاع بحريته السياسية حتى لو تحققت له كاملة في الدساتير والتشريعات.
وتعمد مندوبو الدول الصغرى أن يفهموا اللجنة بأنهم في حماسهم لتوكيد التوازن بين الضمان الاقتصادي - الاجتماعي، وبين الحرية السياسية والمدنية؛ ليسوا مدفوعين بعداء أو ولاء لأي من النظم (السوفيتية أو الأوربية - الأمريكية) وإنما هم مقيدون بما يلمسونه من تباين في مجتمعاتهم والآسيوية والإفريقية اللاتينية وبين المجتمعات الأوربية والأمريكية في مدى التطور وفي مستوى الوعي وفي معاول الاجتهاد للحاق بهم في ميدان المساواة الدولية.
والدول كالأفراد فاقدة الحول بمفردها ولكنها شديدة البأس في تكتلها وتكافلها، وهكذا كان حال مندوبي الدول الصغرى في لجنة حقوق الإنسان، فقد فرضوا بفضل تآزرهم على الروس والأمريكان وجهة نظرهم، فلم يجد هؤلاء مفرا من أن يلاقوا رغبات الدول الصغرى. فاستنبطت العقلية الأنجلو سكسونية ما اعتقدت أنه حل وسط. وتقدم الوفد الأمريكي وحلفاؤه باقتراح يطلب من اللجنة أن تحصر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ميثاق؛ وإن تجمع الحقوق السياسية والمدنية في ميثاق ثان، ويترك للدول الخيار في قبول أي من الميثاقين أو قبولهما معا.
ورفضت أكثرية الدول الآسيوية واللاتينية قبول هذا الاقتراح الأمريكي؛ وقالت بأن الهدف من صياغة حقوق الإنسان في ميثاق عالمي توقعه جميع الدول هو ضمان الحريات الكاملة للفرد. فلا معنى لأن نفصل بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبين الحقوق السياسية والمدنية، فكلاهما متمم للآخر. فالخيار في مثل هذه الحالة يقضي على المبدأ الذي تستند إليه اللجنة وهو مبدأ الإجماع. فكما أن السيادة جزء لا يتجزأ فإن الحرية كذلك لا تتجزأ.
ورفض الوفد الروسي هذا الاقتراح الأمريكي وأخذ بوجهة نظر أكثرية الوفود الآسيوية واللاتينية لا لأنهم يشاركونه في الرأي - فالحقوق السياسية في روسيا نفسها مفصولة عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية - ولكن الوفود الشيوعية في الأمم المتحدة تعارض كل اقتراح أو فكرة يطرحها الأمريكان على بساط البحث في الأمم المتحدة مهما كان صائبا. وهذا الحال ينطبق كذلك على موقف الأمريكان من اقتراحات الروس وحلفائهم.
واستطاع الوفد الأمريكي أن يضمن الفوز لاقتراحه بوضع ميثاقين لحقوق الإنسان بدلا من ميثاق واحد. وجدير بالذكر أن الهند قد خرجت عن الوفود الآسيوية الأخرى في معارضة الاقتراح الأمريكي، وشاء بعض الخبثاء في هيئة الأمم أن يفسروا تراجع الهنود على ضوء المباحثات المالية التي كانت تقوم بها الهند مع أمريكا آنئذ والتي أدت فيما بعد إلى منح الهند معونة مالية سخية.
وكذلك خرجت لبنان إلى إجماع الدول العربية والآسيوية في معارضتها للاقتراح الأمريكي. ولرئيس وفد لبنان الدكتور شارل مالك غرام لا حد له بكل ما يمت إلى أمريكا بصلة.
ولم تجد اللجنة إزاء إقرار الاقتراح الأمريكي بأكثرية تافهة بدا من أن تتابع عملها لوضع ميثاقين بدلا من ميثاق واحد، وأكثريتها الساحقة مؤمنة بأنها ستستطيع في المراحل النهائية حمل الجمعية العامة لهيئة الأمم على دمج الميثاقين في ميثاق واحد بمؤازرة بقية الدول الصغرى التي ليست ممثلة في لجنة حقوق الإنسان والتي لها أكثرية الأصوات في الجمعية العامة.
أما المرحلة التي وصلت إليها اللجنة في دورتها الأخيرة فلا تتعدى مراجعة المواد الأساسية للميثاق الذي يسعى لأن يضمن الحقوق المدنية والسياسية، وإلقاء نظرة عابرة على الميثاق الثاني الذي يعتني بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولم تدقق اللجنة في المواد الإضافية التي صيغت في دورات سابقة لتخويل الأفراد حق رفع الشكوى، وتقديم المظالم ضد الدول التي تمتهن حقوقهم؛ وهناك محاولة تقوم بها الدول الشيوعية ونفر من الدول الأوربية والأمريكية لمنع الأفراد والهيئات والمؤسسات الشعبية من رفع الشكاوى والمظالم إلى لجنة حقوق الإنسان.
وقد صمدت وفود الدول الآسيوية لضغط شديد، وجهته الدولة الاستعمارية فيما يتعلق بإدخال مادة (حق تقرير المصير للشعوب التي لا تحكم نفسها بنفسها) في ميثاق الحقوق المدنية والسياسية، وهذا يعني اعتراف لجنة حقوق الإنسان بأن صراع الشعوب الخاضعة للحكم الأجنبي هو حق مشروع منصوص عليه في ميثاق حقوق الإنسان. وهذا طبعا أمر لا ترضى عنه الدول الاستعمارية، وقد أخذت الولايات المتحدة الأمريكية بوجهة نظر بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وغيرها من الدول المستعمرة، ولكن اللجنة لم تجد بدا من إدخال مادة (حق تقرير المصير) على الميثاق بعد جدل استغرق جلسات عاصفة، ساد فيها الرأي للوفود الصغرى من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
والفقرة الأولى من هذه المادة تنص على أن (لجميع السكان ولكل الشعوب حق تقرير مصيرهم؛ وهو حق يقرر في حرية تامة وضعيتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية).
والفقرة الثانية تطلب من جميع الدول أن تسعى لتثبيت حق تقرير المصير في جميع المناطق (الخاضعة لها) بموجب ما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة.
والفقرة الثالثة تؤكد بأن حق تقرير المصير يشمل سيادة الشعب وامتلاكه لثروته القومية وخيراته الطبيعية؛ ولا يصح في أية حالة من الحالات لأية دولة أو دول أن تتذرع بأي من الأعذار أو الحقوق (المفتعلة) لتحول بين الشعب وبين امتلاكه لأسباب العيش (الشريف).
وقد دافع مندوبو مصر والدول الآسيوية الأخرى عن هذه القرارات دفاعا مجديا إزاء معارضة الدول الاستعمارية، وفندوا بالنقد اللاذع الأعذار التي يتذرع بها الاستعمار للسيطرة على مصادر القوة في البلدان الصغيرة، سواء لسد الفراغ كما هو الحال في نزاع مصر وبريطانيا حول قناة السويس، أو تنفيذا لمعاهدات أبرمت في أوضاع شاذة، كما هو الحال في وضعية الحماية الفرنسية في تونس وبقية أقطار المغرب العربي، أو تحقيقا لوعد مزور، كوعد بلفور البريطاني للحركة الصهيونية في امتلاك بلد كفلسطين ليس لبريطانيا حق التصرف في مصيره.
أما الفوارق الجوهرية بين الميثاقين: ميثاق الحقوق المدنية والسياسية، وذلك الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فتتلخص فيما يلي:
(1) تعتبر اللجنة أن الحقوق المدنية والسياسية هي فوق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولذلك فإن تطبيقها يجب أن يتم فورا، بينما يصح أن تطبق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مراحل (تدريجية) تتماشى مع حالة البلد الاقتصادية ومبلغ وعيها الاجتماعي والثقافي.
(2) ميثاق الحقوق الاقتصادية (الخ. . .) يجب أن لا يطبق عن طريق التشريعات الحكومية فقط، وإنما عن طريق السعي الحر للفرد وللجماعة كذلك. وليس على الدولة إلا أن تساهم - ما استطاعت إلى ذلك سبيل - في توفير الإمكانيات الحسنة للفرد وللأمة للحصول على هذه الحقوق.
وهذه نقطة كانت مجال نقاش حاد. فقد أصر مندوبو الدول الشيوعية على أن ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا يتم إلا عن طريق التشريعات الحكومية، والحكومية وحدها.
(3) بينما تعمد ميثاق الحقوق المدنية والسياسية أن يشرح جوهر هذه الحقوق، وتفاصيلها الفرعية؛ أهمل ميثاق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هذا الشرح، وصاغ المواد في مبادئ عامة يشوبها الغموض وتكون مدعاة لسوء الاجتهاد أو للتطرف فيه.
وسبب هذا التباين في لغة الميثاقين ومضمونهما هو اختلاف فلسفات الحكم والنظم السياسية والمعوقات الثقافية التي تعيش عليها الكتل الدولية التي تهيمن على أعمال الأمم المتحدة هذه الأيام.
وبعد فهذا استعراض متواضع لموضوع خطير؛ فليس أنفع لمجرى العلاقات الإنسانية من أن يدرك الفرد ماله من حقوق تستند إلى وثائق دولية همها أن توفر له ذخيرة (قانونية) يستعين بها على توطيد حقوقه الطبيعية والمكتسبة حين يعصف بهذه الحقوق نظام غاشم، إن أفلح في طبت الرأي العام المحلي، فإنه أضعف من أن يقهر الرأي العام العالمي، بعد أن تشابكت عناصره في معظم ألوان النشاط الإنساني.
وما هذا الاتجاه الذي ساد في لجنة حقوق الإنسان لتجزئة الحقوق إلى مدنية سياسية، وأخرى اجتماعية ثقافية، إلا محاولة لإعادة عجلة الحياة والوعي الإنساني خطوة إلى الوراء؛ ولكن الحياة قطار يسير هذه الأيام بوقود الفكر الواعي والشعور المتقد، ومن خصائص المواصلات أن تسير قدما، لا أن تعود القهقري.
نيويورك
عمر حليق