مجلة الرسالة/العدد 998/الوثبة المباركة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 998/الوثبة المباركة

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 08 - 1952


لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد عبد الله السمان

مهداة إلى المجاهد الأكبر القائد العام

في أصيل الثلاثاء (2271952) جلسنا ثلة من الشباب الناضج

فكرا ووطنية، على مقربة من قصر المنتزه بالإسكندرية.

وبدأنا الحديث فيما يهم مصر وأماني شعبها المغلوب على

أمره، وما كانت أنسم الشاطئ العذبة، ولا أمواج البحر

المتراقصة، ولا أشعة الشمس الذهبية التي تخطف الأبصار

لتشغلنا عن الحديث عن مصر وآلام مصر. ولست أدري لم

كانت أنظارنا ترمق قصر المتنزه، متجهة إليه لا ترغب في

التحول عنه! لم تكن متجهة إلى هذا القصر باعتباره الحصن

الذي يعلق الشعب عليه كل آماله، لأن هذا الاعتبار كان بمثابة

نظرية ابتكرها النفاق والملق والصغار، وأثبت خرافتها ستة

عشر عاما حكمت مصر خلالها حكما إقطاعيا تسوده الأنانية

واللصوصية والاستهتار، حكمت بالحديد والنار دون رحمة

بأناتها وزفراتها، فرزحت تحت أعباء ثقال من الفاقة والحرمان

والبؤس والشقاء، وتجرعت كؤوسا فائضات من الكبت

والاستبداد. . .

إذن فما كانت أنظارنا خلال الحديث ترمق قصر المنتزه باعتباره حصن الأمل لمصر البئيسة، ولا باعتباره كعبة الرجاء التي يجب أن يرتكز عليها محور الجهاد والنضال في سبيل الوطن، ولا باعتباره أي معنى من المعاني التي يسر لها ويطمأن إليها، وإذا كان يطيب لأناس - زعماء كانوا أو غير زعماء - أن يسرفوا إسرافا بغيضا في صياغة العبارات التي تجعل هذا القصر وأخواته بمثابة قلاع حصينة لمصر، ومشاعل مضيئة لنهضتها، والتي تجعل ساكن القصر وحاشيته في صفوف الملائكة الأطهار، والمجاهدين الأخبار، والمخلصين الأبرار، فليس معنى هذا أنهم صادقون نزهاء ما دامت لهم مصالح يبذلون في سبيلها شرفهم وكرامتهم، إن كان فيهم بقية من الشرف والكرامة، ومادام تكوينهم الشخصي لا يؤهلهم إلا الحياة الذلة والملق والصغار. وإذا كان يطيب للشعراء أن يصوغوا الثناء والمديح في لآلئ من القصيد، ويضفوا على العرش وصاحبه (المفدى) ألقابا من صنع الخيال الفاسد، ونعوتا من الملق الزائف. فليس معنى هذا أنهم حجة فيما ينشدون وفيما يضفون من ألقاب ونعوت. . .

أخذنا نتحدث تارة همسا خفيفا، وتارة أخرى بأطراف الشفاه، وحديثنا يدور حول محور واحد، هو أن القصر موطن البلاء، وأساس الفساد والعقبة الكأداء في طريق كل نهضة من شأنها إلى أن تصل بمصر إلى القمة، وإن حاشيته لم يكونوا في يوم من الأيام سوى سماسرة على حساب البلد المنكوب؛ وعصابة مغامرة ستقذف بالعرش إلى الهاوية إن قريبات وإن بعيدا، وما جهاد الأحزاب وزعمائها إلا لوان من التخدير والتغرير بالشعب الصابر المصابر. وليس للأحزاب المصرية وزعمائها من هدف سوى التربع على كراسي الحكم ليتحكموا لا ليحكموا، وليستبدوا لا ليعدلوا، وليستغلوا لا ليبذلوا، وليجشعوا لا ليقنعوا. . .

قلت: إن عم الجالس على العرش هو الذي مهد للاحتلال ليحمى عرشه من غضبه الشعب، حين تلاشت شخصيته وسط أمواج متلاطمة من الفساد، وتلقى تهاني الصغار من المتزلفين وأشباههم حين انتصر الاحتلال الغاشم على شعب مصر، ووطئ بنعاله كرامة الوطن. ومن وقتها أصبح هذا الاحتلال لازما لعرش مصر يحميه من صولة الشعب حين يثأر لكرامته. وثقوا بأن المحتلين أنفسهم ليسوا بأرغب في بقاء الاحتلال من المجالس على العرش نفسه، لأن الاحتلال يمكنه من أن يستبد ويبطش، ويلعب ويستخف، دون أن يناقش أو يحاسب، والزعماء من خلفه يلهون ويعبثون ويرضون من الأمر بالحكم تارة وبالألقاب تارة أخرى، والشعب مغلوب على أمره يقنع بالرضا والتسليم. وثقوا مرة أخرى بأنه لن يخلص البلد من الشر بشتى ألوانه إلا إحدى وسيلتين لا ثالث لهما: زعيم صادق ينفخ في روح الشعب حتى يهب من نومته، أو ضابط شجاع يضع روحه فوق كفه، وإذا وجد الزعيم الصادق فليس من السهولة أن يحيي شعبا نكبه الحكم الإقطاعي حتى وهن وأثقلته أنات الاستبداد والبطش به حتى سكن، وإذا وجد الضابط الشجاع فليس من الميسور له أن يطبع الجيش على طابعه، بعد أن آل أمره إلى الجهلة المستغلين، وتغلغل بين صفوفه كثير من الوضعاء في أخلاقهم وشخصياتهم.

لقد طال بنا الحديث ولم يتصرف أنظارنا عن قصر المنتزه سوى منظر الشمس في لحظاتها الأخيرة. والبحر يتأهب ليفغر فاه فلتقمها في بطنه، أجل طال بنا الحديث ونحن لا ندري أننا كنا مع القدر حين سطر نهاية الظلم الجاثم فوق صدر مصر، وإن أنظارنا لم تتحول عن القصر إلا لتودع شمسا لن تشرق عليه مرة أخرى، وأننا حين كنا نتحدث عن آلام مصر وأنات شعبها، كان في العباسة بالقاهرة أسود تخفق نبضات قلوبهم من أجل مصر وشعب مصر، أصروا على أن يضعوا حدا للفساد الذي بلغ الذروة، والفوضى التي وصلت القمة، والهمجية التي فاقت همجية القرون الوسطى، ولم يكاد الليل أن ينتصف حتى منحت الدنيا مصر صبحا جديدا وعهدا مشرقا، كتب لها فيه الخلود، ولجيشها البطولة، ولشعبها الكرامة إلى الأبد. . .

كانت وثبة جريئة مباركة، أمدها الله بقوته، وشملها بعنايته، وهتف لها الشعب من صميم قلوبه وأعماق نفوسه، وأدهشت العالم بحسن تدبيرها، وحزم تنفيذها، وإيمان القائمين بها، وغيرت مجرى التاريخ في بلد ظل مجراه راكداً فيه سبعين عاما، ومحت عارا أسكن مصر الحضيض وأنزلها منزل الدول الراكدة المتخلفة عن الحضارات والنهضات. . .

إنها فرصة أوجدها جيش مصر الباسل للشعب لعله يخلق نفسه خلقاً آخر لا تشوبه شوائب الدعة، وللأحزاب لعلها تضع المناهج والبرامج التي تنهض بمصر، وللزعماء لعلهم يبدءون عهدا جديداً فيما يفيد الوطن، ولدعاة الإصلاح لعلهم يرسمون خطط الإصلاح الرشيدة في أمن وهدوء. . .

إن هذه الوثبة المباركة لنقطة تحول في تاريخ مصر، لن تنساها أبد الدهر لجيشها الباسل، حسبها تقديرا لها وفخراً بها أنها أذلت جبارا عنيدا خدعه الغرور حتى لم يحسب أن في الدنياذلا وظالماً غشوماً خدعه الحمق والسفه حتى لم يحسب أن في السماء قصاصا وعدلا، ومستخفا طائشا غرر به بطانة السوء وحاشية الشر فهوت به إلى الدرك الأسفل فاصبح في ذمته التاريخ. . .

إن في التاريخ عظات ولكنه لم يتعظ، وفي سلوك جده عبرة ولكنه لم يعتبر. كان يعيش في دينا غير دنيا الناس، وخيل إليه أنه إله يجب أن يعبده شعب مصر، (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) صدق الله العظيم

محمد عبد الله سمان