مجلة الرسالة/العدد 997/العبيد. .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 997/العبيد. .

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 08 - 1952


(هذا المقال منع من النشر في عهد الطغيان. وهو اليوم هدية

للأحرار الذين طهروا الوادي وكرموه)

للأستاذ سيد قطب

ليس العبيد هم الذين تقهرهم الأوضاع الاجتماعية، والظروف الاقتصادية، على أن يكونوا رقيقا، يتصرف فيهم السادة كما يتصرفون في السلع والحيوان، إنما العبيد الذين تعفيهم الأوضاع الاجتماعية والظروف الاقتصادية من الرق، ولكنهم يتهافتون عليه طائعين!

العبيد هم الذي يملكون القصور والضياع، وعندهم كفايتهم من المال، ولديهم وسائلهم للعمل والإنتاج، ولا سلطان لأحد في أموالهم أو أرواحهم. . وهم مع ذلك يتزاحمون على أبواب السادة، ويتهافتون على الرق والخدمة، ويضعون بأنفسهم الأغلال في أعناقهم، والسلاسل في أقدامهم، ويلبسون شارة العبودية في مباهاة واختيال!

العبيد هم الذين يقفون بباب السادة يتزاحمون وهم يرون بأعينهم كيف يركل السيد عبيده الأذلاء في الداخل بكعب حذائه. كيف يطردهم من خدمته دون إنذار أو إخطار. كيف يطأطئون هاماتهم له فيصفع أقفيتهم باستهانة، ويأمر بإلقائهم خراج الأعتاب، ولكنهم بعد هذا كله يظلون يتزاحمون على الأبواب، يعرضون خدماتهم بدل الخدم المطرودين، وكلما أمعن السيد في احتقارهم زادوا تهافتا كالذباب!

العبيد هم الذين يهربون من الحرية، فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر، لأن في نفوسهم حاجة ملحة إلى العبودية. لأن لهم حاسة سادسة. . أو سابعة، حاسة الذل. . لابد لهم من إروائها، فإذا لم يستعبدهم أحد أحست نفوسهم بالظمأ إلى الاستعباد، وتراموا على الأعتاب، يتمسحون بها، ولا ينتظرون حتى الإشارة من إصبع السيد، ليخروا ساجدين!

العبيد هم الذين إذا أعتقوا وأطلقوا حسدوا الأرقاء الباقين في الحظيرة، لا الأحرار المطلقي السراح، لأن الحرية تخيفهم، والكرامة تثقل كواهلهم، لأن حزام الخدمة في أوساطهم هو شارة الفخر التي يعتزون بها، ولأن القصب الذي يرصع ثياب الخدمة هو أبهى الأزياء التي يتعشقونها! العبيد هم الذين يحسون النير لا في الأعناق ولكن في الأرواح، الذين لا تلهب جلودهم سياط الجلد، ولكن تلهب نفوسهم سياط الذل، الذين لا يقودهم النخاس من حلقات في آذانهم، ولكنهم يقادون بلا نخاس، لأن النخاس كامن في دمائهم.

العبيد هم الذين لا يجدون أنفسهم إلا في سلاسل الرقيق، وفي حظائر النخاسين، فإذا انطلقوا تاهوا في خضم الحياة وضلوا في زحمة المجتمع، وفزعوا من مواجهة النور، وعادوا طائعين يدقون أبواب الحظيرة، ويتضرعون للحراس أن يفتحوا لهم الأبواب!

والعبيد - مع هذا - جبارون في الأرض، غلاظ على الأحرار شداد، يتطوعون للتنكيل بهم، ويلتذون إيذاءهم وتعذيبهم، ويتشوفون فيهم تشفي الجلادين العتاة!

إنهم لا يدركون بواعث الأحرار للتحرر، فيحسبون التحرر تمردا، والاستعلاء شذوذا، والعزة جريمة، ومن ثم يصبون نقمتهم الجامحة على الأحرار المعتزين، الذين لا يسيرون في قافلة الرقيق!

إنهم يتسابقون إلى ابتكار وسائل التنكيل بالأحرار، تسابقهم إلى إرضاء السادة، ولكن السادة مع هذا يملونهم ويطردونهم من الخدمة؛ لأن مزاج السادة يدركه السأم من تكرار اللعبة، فيغيرون اللاعبين ويستبدلون بهم بعض الواقفين على الأبواب.

ومع ذلك كله فالمستقبل للأحرار. المستقبل للأحرار لا للعبيد ولا للسادة الذين يتمرغ على أقدامهم العبيد. المستقبل للأحرار لأن كفاح الإنسانية كلها في سبيل الحرية لن يضيع. لأن حظائر الرقيق التي هدمت لن تقام، ولأن سلاسل الرقيق التي حطمت لن يعاد سبكها من جديد!

إن العبيد يتكاثرون نعم؛ ولكن نسبة الأحرار تتضاعف والشعوب بكاملها تنضم إلى مواكب الحرية، وتنفر من قوافل الرقيق؛ ولو شاء العبيد لانضموا إلى مواكب الحرية؛ لأن قبضة الجلادين لم تعد من القوة بحيث تمسك بالزمام، ولأن حطام العبيد لم يعد من القوة بحيث يقود القافلة؛ لولا أن العبيد كما قلت هم الذين يدقون باب الحظيرة، ليضعوا في أنوفهم الخطام!

ولكن مواكب الحرية تسير؛ وفي الطريق تنضم إليها الألوف والملايين. . وعبثاً يحاول الجلادون أن يعطلوا هذه المواكب أو يشتتوها بإطلاق العبيد عليها. عبثا تفلح سياط العبيد ولو مزقت جلود الأحرار. عبثا ترتد مواكب الحرية بعدما حطمت السدود؛ ورفعت الصخور، ولم يبق في طريقها إلا الأشواك!

إنما هي جولة بعد جولة. وقد دلت التجارب الماضية على أن النصر كان للحرية في كل معركة نشبت بينها وبين العبودية. لقد تدمى قبضة الحرية ولكن الضربة القاضية دائما تكون لها. وتلك سنة الله في الأرض، لأن الحرية هي الغاية البعيدة في قمة المستقبل، والعبودية هي النكسة الشاذة إلى حضيض الماضي!

إن قافلة الرقيق تحاول دائماً أن تعترض موكب الحرية. . ولكن هذه القافلة لم تملك أن تمزق المواكب يوم كانت تضم القطيع كله، والموكب ليس فيه إلا الطلائع؛ فهل تملك اليوم وهي لا تضم إلا بقايا من الأرقاء أن تعترض الموكب الذي يشمل البشرية جميعا؟

وعلى الرغم من ثبوت هذه الحقيقة، فإن هنالك حقيقة أخرى لا تقل عنها ثبوتا؛ إنه لابد لموكب الحريات من ضحايا. . لابد أن تمزق قافلة الرقيق بعض جوانب الموكب. لابد أن تصيب سياط العبيد بعض ظهور الأحرار. لابد للحرية من تكاليف. إن للعبودية ضحاياها وعي عبودية، أفلا يكون للحرية ضحاياها وهي الحرية؟

هذه حقيقة وتلك حقيقة. ولكن النهاية معروفة والغاية واضحة والطريق مكشوف والتجارب كثيرة، فلندع قافلة الرقيق وما فيها من عبيد تزين أوساطهم الأحزمة ويحلي صدورهم القصب، ولنتطلع إلى موكب الأحرار وما فيه من رؤوس تزين هاماتها مياسم التضحية، وتحلي صدورها أوسمة الكرامة. ولنتابع خطوات الموكب الوئيدة في الدرب المفروش بالشوك، ونحن على يقين من العاقبة، والعاقبة للصابرين. . .

سيد قطب