مجلة الرسالة/العدد 996/هل المسيحية في ازدهار؟
مجلة الرسالة/العدد 996/هل المسيحية في ازدهار؟
للأستاذ الكبير الفاسي
هذا السؤال إذا اكتفينا في الجواب عنه بقبول ما يرد علينا في الإحصائيات على عواهنة، أجبنا عنه بالإيجاد، لأن الإحصائيات تزعم أن عدد المسيحيين في اطراد. على أنها تعتبر سكان أوربا كلهم مسيحيين كما تعتبر سكان أمريكا - جنوبا وشمالا كذلك مسيحيين. والإحصائيات لها منطوق ومفهوم وظاهر وباطن، ومن شأنها تصليح دليلا للمثبت ما دام لا ينفيها ناف يريد أن يثبت خلاف ما يدعيه المثبت.
والعبرة في كل شيء ليست بالعدد وإنما هي بحقيقة الواقع في الشيء المعدود؛ فإذا كانت المسيحية كثرة لأفراد فإن المسيحيين قليلو المسيحية، بعبارة أخرى فإن من يعتبرون في عدد المسيحيين سواء في أوربا أو في غيرها لا تسيطر المسيحية على أكثريتهم ألا بقدر ما تسيطر عليهم التقاليد والعوائد، بحيث أصبحت المسيحية في كثير من الأقطار ظاهرة اجتماعية أكثر منها معتقدات فلسفية وتعاليم وأخلاقا.
والناس طبقات، وأظهر هذه الطبقات طبقة المالكين وأصحاب رؤوس الأموال وطبقة العاملين لهم وهم العمال والمأجورون.
فالطبقة الأولى، وهي طبقة رؤوس الأموال، لا ترى في المسيحية ألا إطار يحسن فيه إقامة المهرجانات الاجتماعية من زواج ودفن. وتباهي في تلك المهرجانات ولا تترد في الإنفاق عليها. . ثم أنها عهد قريب كانت ترى في الدين أداة لتسكين غضب العامل والأجير والفلاح لما هم فيه من بؤس وشقاء؛ وترغيبهم في حياة الآخرة بما فيها من نعيم يعوضهم ما لم يدركوه من أنواع الخير والنعيم في هذه الحياة الدنيا. غير أن طبقة العملة استقطبت من سباتها وأدركت أن الدين شيء، وما هي عليه من بؤس وشقاء شيء أخر. وإن الدين، الذي هو إيمان وسلوه ورجاء، لا ينبغي أن يكون ذريعة لأصحاب رؤوس الأموال يتوسلون بها إلى استغلال عملهم الشاق المضني لجمع المال وتنميته ينفقون جزءا تافه منه على تشييد الكنائس وإقامة الصلوات ويتركونهم يعيشون هم وأولادهم في بؤرة الشقاء والمرض والبؤس
ولم تحصل هذه النتيجة في عقول العامل والفلاح والأجير بتعاليم الاشتراكية والشيوع طيلة القرن التاسع عشر فحسب، بل كان الفضل في ذلك لانتشار العليم أولا، ولفضائح الطبقات المالكة. ولفضائح الكنيسة الكاثوليكية الأخلاقية والمالية. بحيث اصبح العامل والقروي لا يغرهما بهرجة الدعاية وجمال المظهر وحسن الهندام، إذا يعلمون أن من يمثلون الدين لا يعيشون دائما حسب تعاليمه وإن أصحاب رؤوس الأموال لا يتأثرون من الدين بشء، فساءت الظنون وتبع ذلك ما هو ما هو اكثر منه أي فرار اكثر به العملة من حظيرة الكنيسة. وأحسن برهان على ذلك فقرات نسوقها للقارئ نقلا عن مجلة (إنكليزية) وهي لسان حال الكنيسة الأسبانية بقلم أسقف بلنسية جاء فيها:
(يتمنى العملة الإسبانيون استبدال الحكم في بلادهم ولكنهم يجهلون بأي شيء يستبدلونه، والعملة لا يخافون الكنيسة، وإنما يخافون رجال الجيش ويعتبرون ما يتقاضونه من الأجور لا يدفع عنهم البؤس وإنما هم مرغمون على تقاضيه من طبقة المترفين. والعملة من وجهة العلائق الجنسية مع نسائهم ليسوا من العفة في شيء: فالأعزب منهم لا يزيد الزواج والمتزوج منهم لا يرى في زوجه إلا أداة للمتعة الجنسية ويعمل على ألا يكون له من زوجه ولد. ويلاحظ أن حديث العملة فيما بينهم اكثر ما يدور حول النساء والشؤون الجنسية لا السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.)
ويختم الأسقف قائلاً: (لا يتورع العملة عن سرقة مستخدميهم كلما وجدوا لذلك سبيلا، وذلك أما بالقيام بالعمل أقل ما يمكن، وأما باختلاس بعض الأدوات. وهم يتصرفون هكذا كأنهم يقولون هذه بضاعتنا ردت ألينا! وما ذلك ألا انهم ملحدون).
ذلك ما يخص الشعب في أمة تعتبر أعرق الأمم الكاثوليكية ولا حاجة بنا لتعليق أو شرح إذ كلام الأسقف من حيث البيان قد بلغ الغاية القصوى. وإذا كان الأمر كذلك في مثل هذه الأمة فماذا يكون في غيرها من الأمم التي لعبت في عقول أفرادها التعاليم الماركسية والماسونية التي سيطرت على التعاليم في كثير من البلاد الأوربية وفرقت بينه وبين التربية الدينية. فحالة المسيحية في فرنسا لا تقل تحرجا عنها في غيرها. فقد نشرت جريدة رجعية كارفور في عددها الصادر في 30 أبريل الأخير مقالا بقلم أحد مساعديها الاختصاصيين في المسائل الدينية يقول فيه: (يمكن أن نؤكد من غير خشية الوقوع في الخطأ أن فرنسا في مجموعها تسير شيئا فشيئا في طريق العدول عن الأيمان بالله.
وإذا كان جمهور أهل البوادي لازال يقدم أولاده لماء المعمودية، ولا زال يتزوج ويقيم جنائز أمواته في الكنائس، مظهرا بذلك تشبثا بالكاثوليكية؛ فإن مجموع سكان المدن ألا من شذ - وحتى أفراد الطبقة الوسطى منهم وقسط من الطبقة البرجوازية العليا - كل هؤلاء أصبحوا يعتبرون الكاثوليكية كتحفة أثرية وعقيدة عتيقة دخلت في حكم التاريخ لا حاجة بالناس لإضاعة الوقت في مناقشتها والجدل فيها والخاصة في كل وسط من الأوساط الاجتماعية هي التي عدلت عن الأيمان بالله وهي التي قطعت علائقها بالكنيسة الرومانية متوجه نحو العلم والرقى العلمي، ونحو جميع الأوثان المزيفة التي نصبها العالم الحديث، وبذلك يحاولون تحقيق أهدافهم الإنسانية على أكمل وجوهها).
وبعد أن أطال الكاتب وأنبط في تصوير هذه الحالة التي تعتبر من صفحات الكاثوليكية السوداء في العصر الحاضر، زاد قائلا:
(أخذت فرنسا تبتعد عن المسيحية منذ القرن الثامن عشر ميلادي، وقد اصبح إغراقها في الإلحاد في الوقت الحاضر في أقصى درجة ممكنة، ويشمل ذلك عدداً كبيرا من الفرنسيين، وخصوصا أفاضلهم ممن ينعتون بكونهم محافظين ممن عرفوا بانتمائهم للنظريات التقدمية.
نعم أن الكاتب يقول بعد ذلك أن هناك رد فعل لا نزاع في وجوده من طرف الكاثوليكيين وخصوصا من الشباب لاسترداد ما فات الكنيسة من تأثير على النفوس، ونحن كذلك لا نناقش في هذا لأن الكاتب متفائل كل التفاؤل ونرجوا أن يكون موفقا في تفاؤله وإن تتوج تلك الجهود بالنجاح أو ببعض النجاح
ويختم مقاله المتشائم في بدايته المتفائل في نهايته بقوله: أن كنيسة فرنسا تتمتع بصحة جيدة 0
ونحن لا يسعنا ألا أن نبارك هذه الصيحة، لولا أننا فوجئنا بكتاب كتبة الراهب منتو كلار عنوانه: الحوادث والإيمان صادرته الكنيسة الكاثوليكية بعد ظهوره وحرمت قراءته على المسيحيين نظراً للأفكار التي يتضمنها والتي تعتبرها أفكار ثورية، وهذا الراهب من أولئك الرهبان الأذكياء الذين عرفوا أن من بواعث انتشار الإلحاد والكفر والابتعاد عن تعاليم المسيحية، كون من سبقوهم فيها - وخصوصا منذ فجر النهضة الصناعية في أوائل القرن المنصرم - لم يكونوا في صفوف العمال والفلاحين، بل كانوا في جانب الرأسماليين يباركون في تصرفاتهم لاستغلال المال والعملة، وكانت الكنيسة الكاثوليكية كلما قاموا من بينها ومن بين رجال الفكر والمنتمين أليها من يندد بأعمال الرأس ماليين ويدافع عن العملة مثل الأب لكوردير والأب لمنى وغيرهما تقاومه وتحرم النظر في كتبه لأنها تشتمل على أفكار وأراء تعتقدها مخالفة لتعاليمها وقد قام في فرنسا بعض صغار الرهبان، واغلبهم من الشعب وأخذوا على أنفسهم التقرب من العامل والفلاح لدرس حالته أولاً وأعانته في شدته وضيق عيشته والدعوى إلى رحمته ليخرج بذلك مما هو فيه من بؤس وشقاء.
وإذا خرج من ذلك أبتعد - في نظرهم - كل البعد عن حظيرة الشيوعيين. ولقبهم مناوئهم - بالآباء الحمر - لكونهم يعيشون في أواسط العمال ويعيشون عيشتهم، ومنهم من يخدم في المعامل. وإذا كان عددهم الآن قليلا جدا لكون الكنيسة لا تنظر إليهم بعين الرضا - فإن أثرهم ملموس في أواسط العمال الذين يحسون منهم بصدق وإخلاص في المأمورية الإنسانية التي يهدفون أليها.
والعجب كل العجب أن بعض هؤلاء (الآباء الحمر) قد توصلوا في درسهم حالة العمال إلى نتيجة هي نفسها النتيجة التي توصل أليها الباحثون قبلهم من أصحاب النظريات الاقتصادية في كل زمان ومكان، وهي أن مسألة العمال الفلاحين - أو ما نسميه العدالة الاجتماعية - تحتاج إلى قلب النظام في الاستهلاك والاستغلال وإعادة النظر في توزيع الأراضي الخ - وهم بوصولهم لهذه النتيجة كأنما كانوا على موعد عندها مع مفكري الماركسية احب ذلك أمكره! لذلك فأنهم يسخطون الكنيسة والرأسمالية على السواء غير انهم لا يخشون في الحق لومة لائم وإن كانوا ناقدين لأوامر الكنيسة
ولكي تعرف رأي أحد هؤلاء (الرهبان الحمر) نأتي إليك بفقرات من الكتاب المذكور، يقول صاحبه ما نصه:
(لقد قوضيت أيام من فصل الربيع الأخير مع جماعة من المبشرين في بادية فرنسا في أواسطها. ولقد أنسلخ سكان هذه الناحية عن المسيحية بحث لم يبقى عندهم من مظاهر المسيحية ألا ما علق بتقاليدهم الشعبية وما هو ممتزج بخرافاتهم وأوهامهم التي تسود فيها معتقدات هي ألصق بالسحر من غيره. وكان حاضرا معي في هذا الجمع عدد من الرهبان والخوريين يبلغ نحو العشرين - ففحصنا يوما لدرس هذه الحالة وأمامنا سؤال واحد وهو: ما العمل لرد أهل هذه الناحية إلى حظيرة المسيحية فكان جواب الجميع انه لا أمل لنا في ذلك قبل قلب نظام توزيع الأراضي واستغلالها، وهو نظام إنساني يعيش فيه الفلاح وهو ينظر للحياة نظرات لا آفاق فيها).
ورغما من كون هذه النظريات التي تشبع بها غير ما واحد من رجال الكنيسة وإن لم يتوصلا كلهم لنفس النتيجة أي قلب نظام الحالي في الامتلاك والاستهلاك، فإن الرجعيين من الفرنسيين وخصوصا أصحاب الحزب الملكي المنتمين لأحد زعمائه وهو موراس - يقولون في حكمهم على هذه النظريات: إن هذا دين جديد، مخالف لما كان عليه دين آبائنا لكونه لا يقر الحياة التقليدية التي عاش عليها الفلاح منذ قرون وتكونت منذ قرون، والذي يظهر من أمر هؤلاء الحوارين الصغار أن نظرياتهم لا تستند على كاثوليكية ولا على سياسة اجتماعية رشيدة، وإنما مبناها أقوال الماركسية!
ولا غرابة في هذا الحكم مادام مأتاه من قوم عرفوا بضيق الفكر وشذوذه في كل شيء. والعجب كل العجب أن متزعم الحركة الملكية في فرنسا يقول بخلاف ما يدعه من يزعمون الانتساب إليه، وقد عرف عن لوكنت دوباري أن له نظريات اجتماعية قد يرتضيها كثير من أحزاب العمال وهي مغايرة لكثير من نظريات أتباعه.
ولكن الذي لا نفهمه هو أن كثير من المسيحيين المترددين أو المتحجرين الحامدين أمام القضايا الاجتماعية سواء في فرنسا أو في إسبانيا أو إيطاليا - لم يعتبروا بما وقع لروسيا التي ترددت كثيرا وجمدت ما شاء لها من التعصب والجمود أن تفعل طوال القرن التاسع عشر، وعلى رأسها الأرستقراطية جبارة كانت تتصرف في الأراضي وما عليها من رقاب تصرف السادات والإقطاعيين، ولم تحاول حل المشاكل الاجتماعية بل لم يثبت أن قادتها أعاروا أذنا لسماع شكوى العامل والفلاح مما كانوا فيه من أنواع البؤس والشقاء. فنفس جواب الرجعيين في أوربا الغربية الآن كان يجيب به سادات روسيا العامل والفلاح ومن كان يتزعم حركتهما الإصلاحية مستندين في ذلك على سوء فهم الدين، وعلى تخدير الأعصاب الذي كان يقوم به رجاله المأجورون. ولكن ماذا كانت النتيجة سنة 1917؟
إنها كانت الشيوعية التي اكتسحت نصف أوربا وبعض من أسيا الآن، والتي ستضطر الإنسانية لصرف جميع ما تملكه في مقاومتها مع عدم تحقيق الغلبة عليها، لأن القضاء على الخطر الروسي ليس هو القضاء على الخطر الشيوعي!
كانت الشيوعية نتيجة لتحجر المسيحية والمسيحيين وكانت روسيا هي أكبر الدول المسيحية مساحا وأكثرها عدداً ولكن النتيجة هي ما نعلم.
وذلك لا تغتر بقول من يقول: أن المسيحية في ازدهار، بناء كل الإحصائيات.
على أن ما يقال في شأن التأثر بالدين وتعاليمه والتهذب بأخلاقه ومبادئه في حق المسيحية والمسيحيين، قد يقال مع مزيد الأسف والحسرة في حق الإسلام والمسلمين مع ما لابد منه من التفرقة التي تقتضيها الاعتبارات التاريخية والجغرافية والاجتماعية.
عبد الكبير الفاسي