مجلة الرسالة/العدد 995/الإسلام وحياتنا العامة
مجلة الرسالة/العدد 995/الإسلام وحياتنا العامة
للأستاذ محمود عبد العزيز محرم
إن أمتنا أمة مسلمة. غير أنها لا تستوحي الإسلام في تصرفاتها ونظرتها للحياة وأحداثها. ولا ترى أن من الخير الذي يعود عليها بأجزل النفع أن تنظر إلى الحياة من خلال الفكرة الإسلامية. وإن كثيراً من الكتاب يخرجون علينا بأفكار مختلفة، منهم من يرى أن حياتنا يجب أن تنهض على الإسلام، ومنهم من يرى أنه يجب أن ننحي الإسلام عن حياتنا هذه، وأن نشرع فيها على أسلوب جديد يوافق روح العصر، ويقطع كل ما يصلنا بهذا الدين العتيق.
والعجيب أن أكثر هذه الكتابات التي تنادي بفصل ديننا عن حياتنا إنما هي بأقلام كتاب مسلمين. والمفروض أن المسلم يكون أحرص على دينه، وأغير عليه من أي إنسان آخر، حتى يؤدي واجبه نحو نفسه، ووطنه، وربه، على خير الوجه وأكملها. وهؤلاء الكتاب بعملهم هذا ينهجون نهج أقوام آخرين لا تربطهم بالدين الإسلامي رابطة، لا يكادون يهادنونه ويدعونه يرسم صورة للحياة الناضجة القديمة، ويقفون له بالمرصاد ينتقصونه، ويسفهونه، ويزرون به، وينعون عليه أحكامه وآدابه وتوجيهاته.
وإذا استوحى المسلم غير الإسلام فهو وغير المسلم سواء. وهو حرب على دينه. وهو عون لأعدائه عليه. وهو دخيل علينا لا يجوز أن نركن إليه، ولا نأتمنه، ولا نهادنه. وعلينا أن نحذره ونتعرف على نياته ودخائله لأنه أخطر علينا من العدو الألد والمهاجم الصريح.
ليس ما نشكوه في هذه الحرب هو الأجانب وحدهم، بل نشكو المسلمين أيضاً؛ هؤلاء الذين يعملون لهدف غير هدفنا، ويسعون لمثل غير مثلنا، ويبنون حياة لا تتفق وحياتنا. وبعد ذلك تتخذ أقوالهم وأعمالهم حجة على الإسلام إن لم تتخذ على أنها الفكرة الإسلامية في ذاتها. ونعني من وراء هذا العسف الغليظ والضر الأليم. وننفق من قوانا في جهتين، إحداهما داخلية، والأخرى خارجية.
هذا الإسلام بعيد عنا. وكلما نادينا بالاقتراب منه، والاسترواح في ظله، والاستقاء من نبعه، خرجت علينا الذئاب العاوية لتقتنص منا الغنم الشاردة، فتفرق وحدتنا، وتضرب في صفوفنا، وتزعزع إيماننا برسالتنا وديننا وأهدافنا المنيرة الحقة. ومن هنا يظ بعيداً عنا أطول مدة ممكنة، حتى يمتص المستعمرون وأعوانهم الثمالة الباقية من ذخائرنا، ثم بعد ذلك نكون جسداً هامداً لا خير فيه.
إذا أردنا أن يكون الإسلام أسلوب حياتنا فعلى كل مسلم أن يكون صاحب دعوة وصاحب رسالة. عليه أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن الواجب لا يتم إلا به، فعليه جزء منه، وعليه أن يبذل في سبيله، لا فرق بين رجل دين وغيره. فالإسلام، والعمل له، والإيمان به، دعوة كل مسلم ورسالته. والمسلمون جميعاً مسئولون عنه لا فرق بين إنسان وإنسان. أما هذا الكلام المعلول في مسؤولية المسلمين فليس من الإسلام في شيء. ليس في الإسلام رجل دين ورجل دنيا، ولا رجل مسؤول ورجل غير مسؤول، ولا فرد يعمل وآخر يعتمد على عمل غيره، إذ كل المسلمين في نظر الإسلام سواء، وهم مكلفون العمل له والإيمان به، لا يغني بعضهم عن بعض شيئاً.
إذا أردنا أن يكون الإسلام أسلوب حياتنا فعلى كل مسلم أن يهتدي به في حياته، فيحققه في كل عمل وقول، ويتجه إلى وجهته. ويشيعه في حياته العامة والخاصة، ويعتنقه مبدأ لا يحيد عنه، ويشارك به فيما يرى من رأي أو يرغب من رغيبة
على كل مسلم أن يجعل حياته إسلامية، وأن يفيض من خيرها وبرها على الوجود من حوله، وأن يحمل غيره على ما يحبه له ولنفسه وللناس جميعاً، من خير لا ينقطع، وبركة زاكية، وحب شامل، وإخلاص عميق في كل ميادين الحياة، في التجارة والزراعة، في التعليم والسياسة، في الاجتماع والاقتصاد، في خاصة الرجل وخاصة المرأة وفي المشترك بينهما.
ليس في هذا مشقة على أحد. فكل إنسان يستطيع أن يرسم حياته بالطريقة التي تروقه وتحلو له. وحياة الفرد ليست غير تحقيق عملي لعواطفه وأفكاره. وحوافز النفس وخلجات الضمير هي أمهات جلائل الأحداث. وتاريخ الأبطال والعظماء ما هو إلا انعكاسات القلوب الكبيرة والنفوس النبيلة.
إننا ننعى على الحكومة موقفها من الإسلام. والواجب أن ننعى على أنفسنا مثل ما ننعاه على هذه الحكومات، لأننا نستطيع أن نعمل الكثير لأنفسنا وللإسلام من غير أن نلجأ إلى حكومة نسألها العون ونستجديها العطف، حياتنا المنزلية، وحياتنا مع أصدقائنا، وحياتنا في عملنا، وسلوكنا مع الناس عامة، وحياتنا الذاتية التي لا يطلع عليها إنسان - كل هذه مجالات مختلفة متفاوتة، نستطيع أن نحياها صحيحة وأن نبعثها إسلامية. وذلك متى ما تصورنا حياة سهلة سائغة سمحة واتخذنا هذا التصور هدفا لنا ومثالاً نسعى إليه.
وقد قرأت في مجلة الثقافة مقالاً لكاتب مسلم، هو الأستاذ محمد عبد الله عنان، وقد عنون الكاتب موضوعه بهذا العنوان (المرأة والحقوق الدستورية، لا محل للاحتكام بشأنها إلى الدين) ومن هذا العنوان وحده نستطيع أن نلمس حرص الكاتب على تخلي الدين على حياتنا العامة. مع أنه يجب أن نحتكم إلى الفكرة الإسلامية في كل شؤوننا العامة والخاصة، شؤون الفرد والجماعة، شؤون الرجال والنساء، شؤون الأطفال والبالغين، في عملنا السياسي أو الاجتماعي أو التهذيبي أو الذاتي، في سلوكنا الظاهر وسلوكنا الخفي. نحتكم إلى الفكرة الإسلامية في كل هذا حتى نتعرف على مواضع الرشاد ومواضع الزيغ في سلوكنا، وإذا ما نادى إنسان بمثل هذه الدعوة التي نادى بها الأستاذ عنان فإننا نعتبره أحد رجلين: إما أن يكون رجلا لا يعرف من أمر دينه الكثير، وإما أن يكون رجلا يعين غيرنا علينا. وهو على كلا الحالين غير محمود ولا مشكور.
يقول الأستاذ محمد عبد الله عنان في مقاله هذا (. . . ولا محل على الإطلاق أن يتخذ الدين أساساً لمثل هذا الموضوع، سواء لتوكيد التحريم أو الإباحة، وإذا كانت مصر دولة إسلامية فليس معنى هذا أنها دولة دينية، أو بعبارة أخرى أنها دولة تطبق أحكام الدين في سائر نواحي حياتها العامة. فالنظم الأساسية والقوانين المدنية والجنائية المصرية كلها نظم وقوانين تطبعها الصفة اللادينية. ولا يطبق في مصر شيء من أحكام الشريعة الإسلامية في العبادات أو المعاملات أو الحدود بصورة جبرية، فلا تقطع يد السارق ولا يرجم الزاني، ولا يعاقب شارب الخمر أو تارك الصلاة أو مفطر رمضان، وغير ذلك ولا يطبق منها إلا ما أمكن تطبيقه في شؤون الزواج والأسرة والميراث والوقف (القضاء الشرعي) وحتى هذا يعتبر قضاء استثنائياً بالنسبة للقضاء الوطني العام)
ويستطرد الكاتب قائلاً (فإذا ما تقرر ذلك، وهو أن النظم والقوانين المصرية هي نظم مدنية لا دينية، لأنها هي النظم والقوانين التي توافق روح العصر، ومقتضيات الحياة الاجتماعية الحديثة، فلا محل إذا لأن نجعل الدين حكماً في مسائل لا علاقة لها بالدين ولا تمس العقيدة الدينية ذاتها، ولا محل إذا لنرجع بمطالب المرأة السياسية والاجتماعية إلى أحكام الدين ما دامت هذه المطالب لا شأن لها بالعقيدة الدينية. . .).
وتخرج من هذا الاقتباس بثلاث نقاط هامة مؤلمة ومؤسفة في نفس الوقت:
مصر دولة مسلمة ولكنها لا دينية، فدينها الرسمي هو الإسلام، غير أنها لا تطبق أحكامه في حياته العامة. والنظم والقوانين المصرية مدنية موافقة لروح العصر ومقتضيات الحياة الاجتماعية الحديثة. ومعنى هذا أن الدين وأحكامه لا يوافق روح العصر ومقتضيات الحياة الاجتماعية الحديثة.
أن الدين قد ضاق مجاله، ولم نطبق منه إلا ما أمكن تطبيقه وهو شيء يسير في شؤون الزواج والأسرة والميراث والوقف بحيث أصبحت هذه الأحكام اليسيرة قضاء استثنائياً بالنسبة للقضاء الوطني العام.
يمثل هذا الأسلوب في الكتابة والتفكير يتناول بعض الكتاب الحديث عن دينهم وحياتهم العامة. وهم يخلطون ما يرونه في واقع حياتنا بآرائهم الخاصة ونظرياتهم في الإسلام وصلاحيته. وإذا كانت حياتنا قد انحسر ظل الإسلام عنها في كثير من نواحيها، فليس معنى هذا أن ندع الأمور تجري إلى غايتها المشئومة، بل علينا أن نعرف ما نحن فيه وما نطمح إليه والأسباب التي توصلنا إلى ما نتمنى، والأسباب التي أدت إلى ما نحن فيه الآن، وأن نقرن ذلك كله بما كان لنا من ماضي زاخر مجيد والأسباب التي دفعت إليه - كل ذلك لنستخلص العبرة التي تقوم على ضوئها أسلوب حياتنا الراهنة، ونعالج مشاكلنا المعقدة، وننهض من كبوتنا السياسية التي لا تجد منها مقيلا.
إن الأمم الغربية الاستعمارية تنتفض فزعاً كلما فكرنا في ديننا وفي إخراجه إلى مجال الوجود العملي. والسبب في هذا ليس خافياً على أحد إذ أن هذه الأمم الغربية على يقين راسخ من أن ديننا ينظم حياتنا ويهذب نفوسنا، ويبعث الكامن فينا من القوة الخفية، ويوحد وجهتنا، ويبلغنا رشداً. وإذا كان أمرنا كذلك، فإنها الحرب على الاستعمار والاستغلال والفساد، وإنه البعث الجديد الذي ننشط منه إلى قيادة العالم وصدارة الأمم، وحينئذ لا يبقى لأمم الغرب سبب واحد تطمئن إليه، وتعتمد عليه، في تثبيت أقدامها في أنحاء العالم الإسلامي لاستغلاله وتسخيره.
على أن الغريب حقاً هو فزع بعض المسلمين من تطبيق مبادئ الدين. ونحن لا ندري علة لفزعهم هذا. هل نقول إنهم عملاء للمستعمرين؟ هل نقول إنهم يجهلون من أحكام دينهم ما لا يصح أن يجهلوه، هل نقول إن معين ثقافتهم الذي استقوا منه يحارب الإسلام في خفية، ويعكر صفوه، ويطمر موارده النقية؟ انهم على أي حال يعملون غير ما نعمل، ويشخصون إلى غير أفقنا.
مثل واحد بسيط للدلالة على لون التفكير اللاديني الذي يسيطر على بعض المسلمين، وهو في الموضوع الذي أشرنا إليه من قبل واقتبسنا فقرات منه، إن الكاتب المسلم يستوحي دينه في إعطاء المرأة حقوقاً سياسية أو غيرها، ويرجع إلى أحكامه يستفتيها، وعليه أن يلتزم ما تفتيه به هذه الأحكام، فإن أفتته بالإباحة فهي الإباحة، وإلا فالتحريم الذي لا وجه فيه لحل بعد ذلك. والكاتب اللاديني، المسلم رسمياً، اللاديني عملياً، يسارع إلى أمم الغرب يسألها ماذا فعلت؟ وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟ ومن الذي أعانها؟ وعلى خطوة أو خطوتين أو خطوات؟ وهناك! عند تقاليد هذه الأمم، وميراثها، وشرائعها، يجد الجواب الشافي الذي لا يحس حرجاً في الأخذ به والاعتماد عليه!
(ففي إنجلترا لم تنل المرأة حقوقها الانتخابية لأول مرة إلا في سنة 1918 ونالتها عندئذ جزئية، محدودة، ولم تنلها كاملة إلا في سنة 1928. وفي أمريكا لم تمنح هذه الحقوق إلا في سنة 1920، وبعد محاولات عديدة متوالية شملت كل ولاية بمفردها. . . . . . والمرأة لم تحصل على حقوقها الدستورية في بعض الدول الأوربية العريقة مثل فرنسا وإيطاليا والنمسا إلا بعد الحرب العالمية الثانية. ولم تحصل عليها في بلجيكا إلا في سنة 1948، وفي ألمانيا الغربية في سنة 1949)
وعلى هذا فإنه لا يجوز أن تحرم المرأة الحقوق السياسية ما دامت هذه الدول الغربية العريقة قد أعطت المرأة هذه الحقوق. يجب أن تعطى هذه الحقوق، دون نظر إلى ما يقوله ديننا في هذا الموضوع، لأن أحكامه عتيقة لا توافق مقتضيات العصر ولا روح التقدم. المهم أن نكون كهذه الأمم التي قلدناها، وقصصنا آثرها، وأسلمنا زمامنا لآدابها وتقاليدها وروحها. . . أما أثر هذا التقليد فينا. . . وأما وقوعنا في قبضة هذه الأمم تستغلنا. . . وأما انهيارنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بسبب تشربنا روح هذه الأمم وآدابها - كل هذا ليس له عندنا كبير أثر. وهو حقيق أن ينسى ما دمنا ندور في فلك هذه الأمم ولو على حساب كرامتنا، وتقاليدنا، وديننا، وصالحنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي!
إن حياتنا بنت تصورنا وتفكيرنا. فإذا كان تصورنا إسلامياً، كانت حياتنا إسلامية. وإذا كنا لا دينيين في التصور والتفكير كانت حياتنا لا دينية. وعلينا الآن أن نختار، إما أن نتجه إلى الله الذي منحنا دستورناً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإما أن نتجه إلى هذه الدول (العريقة!) التي أذاقتنا المر، وألبستنا الهوان، وباعتنا في أسواق النخاسة الدولية - نعمل بدساتيرها، ونحتكم إلى قوانينها.
محمود عبد العزيز محرم