مجلة الرسالة/العدد 994/دراسة وتحليل
مجلة الرسالة/العدد 994/دراسة وتحليل
الجواهري شاعر العراق
للأستاذ محمد رجب بيومي
- تتمة -
فنه الشعري:
لابد لنا من كلمة عن مذهب الشاعر في فنه، وطريقته الأدبية في بيانه، وفيما تقدم في شعره لإيضاح الرأي. ويمكننا أن نلمح ميزات ثلاث يتسم بها شعره، وتظهر مشتبكة متعانقة في قريضه، فلا تتخلف واحدة عن أختيها بحال، هذه الميزات الثلاث هي، صدق الأحاسيس، وقوة التعبير، وواقيعة التفكير.
فصدق الإحساس يخلع عن أدب الشاعر عاطفة قوية حارة، تشتمل وتتقد في سطوع وبريق، وتدفع صاحبها إلى الإجادة والتأثير، كما يكون لها سحر أخاذ في نفوس القراء، فما يكاد القارئ يتلو إحدى القصائد حتى ينفعل بانفعال ناظمها، ويسير في نياره حيث اتجه، وتصل الأبيات إلى القلب فتحرك كوامنه وتهيج أحاسيسه) وهنا يكون الأثر المنشود للأدب بوجه عام، والشعر بوجه خاص، بل أن الصدق ذاته يجعلك تحس في أعماق نفسك بخواطر متشابهة لما تقرأ، وكان الشاعر يعبر عن عواطفك انت، فقد سلط أشعته على قلبك، ونفذ إلى أغوارك فرأى الخوالج المستترة، والكوامن الموغلة، فجمع أشتاتها المتنافرةواتخذ منها مادة شهية لأدبه، وقد تكون خواطر الشاعر الصاد بعيدة عن شعورك ونبضك، ولكنك تجدها محببة أثيرة لديك وكأنك كنت تحسها قبل ذلك! وأمامك أبيات يقولها الجواهري: في رثاء بعض أصدقائه الشعراء، تجد فيها الكثير مما تحب أن تسمعه سواءأحسست به قبل ذلك أم بعد عن إحساسك فهو رائع خلاب.
أصخت لمن نعاك على ذهول ... كأني قد أصخت لمن نعاني
وكنت أحس أن هناك رزءا ... واجهل كنه حتى دهاني
لعنت اللفظ، ما أقسى وأطغى ... وما أعطى كل صور المعاني
تتقاضاني بيومك ترجمانا ... وكنت ألوذ منه بترجمان وصدق الإحساس بلبس حلة زاهية إذا اقترن بقوة التعبير وهي الميزة الثانية للشاعر. والناس من قوة التعبير في ليل مشكل فقد فهمها الكثيرون على غير وجهها الصحيح، فرأوها في ترادفه الغرابة في اللفظ، والقعقعة في الصوت، فكل بيت تحتاج فيفهمه إلى معجم لغوي فهو قوى كمعلقة لبيد، وكل شاعر يطحن في سمعك قرونا صلبة فهو متين رصين كابن هانئ الأندلسي في رأي آبي العلاء. وليست قوة التعبير لدى الجواهري من هذا الطراز العجيب، ولكنها تظهر في تماسك الألفاظ، وترابط المعاني مع الوضوح والإشراق. وهي بوضوحها لا تناسق مع السلاسة والسهولة، فقد تكون القصيدة من السهل الممتنع وهي آية في قوة التعبير، ورصانة التركيب، بل أن السلاسة طريق الشاعر المبتدئ إلى المقدرة والإبداع، فإذا سار في ميدان خطوات وجد قوة التعبير تأخذ بناصره وتشد أزره، مع أحتفاضه بالرونق الخالب والانسجام المترابط. وقد بدأ الجواهري قصائده سهلا رقيقاً وكلف بشعراء السلاسة كلفا زائد، وتغن بروائع الوليد وابن زيدون في القديم، وحافظ والرصافي في الحديث ونسج على منوالهم الرقيق المبدع في نظمه. وقد قرأت له بعض القصائد التي نظمها في صدر شبابه، فكدت أنسبها إلى البحتري بعينه، وأخص قصيدة (سامرا) الرقيقة العذبة التي قالها البحتري في القرن العشرين على لسان الجواهري ومنها:
إيه أحباي الذين ترعرعوا ... ما بين أوضاح الصبا وحجوله
إني وإن غلب السلو صبابتي ... وأعتضت عن نجم الهوى بأفوله
لتشوقني ذكراكمو ويهزني ... طرب إلى قال الشباب وقيله
أحبابنا بين الفرات تمتعوا ... بالعيش بين مياهه ونخله
بلد تساوي الحسن فيه، فليله ... كنهاره، وضحاه كأصيله
ساجى الرياح كأنما حلف الصبا ... ألا يمر عليه غير عليله
وكفاك من بلد جمالا أنه ... حدب على إنعاش قلب نزيله
وقد سار الجواهري مع سلالته الرقيقة عدة أشواط، حتى صاحبته القوة والتماسك. فأنفق له من ذلك كله الحان عذبة صادحة تختلف انخفاضا وارتفاعا باختلاف ما يعالج في شعره من الأغراض، وقد نسمع له بعض الجلبة الصاخبة في قصائده السياسية وهي صدى لما يهتز في نفسه من انفعال ثائر يأخذ مظهره في جو من الصخب والضجيج، وفيما أسلفناه من الشعر دليل لما نقول.
هذا وقد تعثر في شعرة على ألفاظ يسيرة تنكرها معاجم اللغة أو القواعد النحوية والعروضية كقولهولن تجدي كإيان نصيرا=يدق من الأسى راح براح
وقوله
أعقما وأمات البلاد والودة ... أنك يا أم الفراتين أنجب
وقوله
وأتى زمان من مكارم أهله ... النفي والتشريد والإعدام
هذه الأبيات وأمثالها تجد نقدا صاخبا من المتتبعين للأخطاء المطبعية والهنات الغوية - وكثير ما هم في بريد الرسالة - ويحسبون انهم ظفروا بصيد ثمين يجر إليهم نصيبا من الذبوع والحقيقة أن شاعر كبير كالجواهري ومن على شاكلته من أنداده الأفذاذ لا يجهلون قواعد النحو، ومسائل اللغة، ولكن يهملون بعض القيود التي تحد من تدفقهم المزبد، وقد يرفضون قاعدة علمية، فيقطعون همزة الوصل، ويضعون ضمير النصب في غير مكانه، وهم يعرفون جميع ما يقوله النحاة واللغويون، ولست أوقفهم على مذهبهم في الاستهانة بالقواعد العلمية، ولكني أدعو سادتنا المتعقبين الأفاضل أن يريحوا أنفسهم من النقد اللغوي المكشوف، لان التعقيب يكون واجبا إذا جهل المنقود حقيقة خطئه؛ أما إذا كان الخطأ معرفا لطلبة المدارس الثانوية - والابتدائية أحيانا فلماذا نشغل به الناس.
ونمضي إلى ميزة الشاعر الثالثة، وهي واقعية التفكير والشعر العربي في شتى عصوره يصطبغ بالواقعية ويسايرهافي كل مكان وزمان ولكن الهائمين بآداب الغرب وروائعه سنوا في الشعر مذاهب جديدة، فأصبحنا نرى الشعر الرمزي الغامض، والخيالي الطائر المتذبذب، وصار لكل أبطاله ورواده، ولكن هناك حقيقة واحدة لا يستطيع أن ينكرها منكر، تلك الحقيقة تنبئ أن رواد المذاهب الشعرية الحديثة لم يستطيعوا أن يفرضوا مذاهبهم على قراء الشعر العربي، وأعوزهم أن يجدوا الشاعر الوثاب الذي يجذب الأنظار إلى مذاهبه، ويخلق له فريقا من الأشياع والتلاميذ، وبهذا بقيت الواقعية صفة ملازمة للشعر العربي على أن هناك أغراضاً شعرية يتحتم على المتجه إليها من الشعراء أنيكون واقعيا فالشعر السياسي والاجتماعي يتطلب الواقعية المحيطة الشاملة، ولاسيما إذا كان الشاعر ذات رسالة خاصة في الإصلاح والتوجيه، فهو مضطر إلى إلهاب العواطف واستحثاث الجماهير، ولن يكون ذلك بغير الحديث الواضح المعقولوهب شاعر مصلحا كالجواهري لجأ إلى الرموز الغامضة، والخيالات التائهة، والأشواق البعيدة، والسبحات الحالمة، واتخذ منها مادة لرسالته في البعث والإصلاح، أفيجد من القراء من يستجيب لصرخاته أو يحس بإحساسه وشعوره؟ هذا ما لا يعقل بحال. ويجب ألا نغفل من حسابنا أن الشعر الرمزي يحتاج إلى عقل يغوص، وذهن يعلل، مما يجعل القصيدة شبيهة بمسألة حسابية أو معادلة جبرية، وبذلك تفقد تأثيرها الساحر وتعجز عن أداء رسالة الشعر في التأثير والانجذاب. وأنا لا أنكر بعض الاهتزازات الغامضة التي تختلج في النفس حين يقرأ الإنسان بعض القطع الرمزية. ولكن هذه الاهتزازات الغامضة التي تخلق مزيجا غريبا من الحيرة والقنوط والتساؤل، وتغرق القارئ في بحر لحى لا ساحل له، وهيهات أن يرحب بالغرق عاقل حصيف، فمتى يجد هواء الحالمون الواهمون شاعرا كبيرا يقود الأذواق إلى مذاهبهم الجديدة فيمهد له سبيل الذيوع.
على أن الواقعية قد أصيبت بكارثة فادحة، تحاول أن تبغها إلى الأذواق والقلوب، فقد داب بعض المتشاعرين أن يتخذوا من الحوادث اليومية، والأخبار الصحفية مادة للنظم الواقعي فيصدموا القراء بما هو شبيه بقول حافظ إبراهيم.
ثلاثة من رجال النيل قد وقفوا ... على مدارسنا سبعين فدانا
ثم يدعون انهم يعيشون في الحياة ويسيرون مع الواقع، ويعبرون عما يجدون في البيئة من شؤون. ويجب أن يفهم هؤلاء السادة أن رسالة الشاعر الواقعي ليست هي التعبير عن الأخبار الصحفية بكلمات موزونة مقفاة، ولكنه يرى الحادثة فيتأثر بها، وتثير في نفسه انفعالات خاصة، وتصل إلى ذهنه فتوحي أليه فيضا من الإلهام الصادق، ثم تجول في خاطره ثائرة حائرة، فلا ينقذه منها غير التعبير عما تخلقه من انفعالات، وما توحي به من الهام يبرق بالومض والألتماع. وهنا تكون الحادثة نواة صغيرة لما يدور حولها من ذبذبة وانفعال؛ أما أن تكون الحادثة وحدها مصبوبة في القوالب العروضية. فالأجدر بالقارئ أن يغفلها تمام الإغفال، كتفيا بما قرأه عنها في الصحف والمجلات.
وقد نأخذ على الجواهري إخلاله بوحدة القصيدة، وأرى أنها تتعذر على الشاعر السياسي الذي تتمدد أمامه مظاهر الفساد فيريد أن يلم بها وينبه عليها فوق كل منبر يعتليه، فإذا تركنا الشعر السياسي إلى غيره وجدنا الشاعر يلتزم الوحدة في اكثر ما قال، وللقارئ أن يطلع قصائده الوصفية مثل دجلة في الخريف أو الفرات الطافي؛ أو الأصيل في دجلة أو سامرا، فسيجد ما يرضيه من وحدة الموضوع، وترابط المعاني، وتناسق الأفكار. ويهمنا أن نشير إلى مقطوعاته الغزلية الرقيقة التي نظمها في حبيبته الباريسية (أنيت) فقد ظهر فيها الشاعر جديد في أخيلته ومعانية، جديد في أوزانه وقوافية، جديد في نظراته الباسمة للحياة، مع انه لم يفارق ميزاته الثلاث، فكان صادق الإحساس، قوى التعبير، واقعي التفكير، فوق طرافة الابتكار، وجدة السياق، واختلاف الإيقاع. وأرى أن ادع الشاعر - في ختام هذا البحث لسريع - بأبيات من قصيدته الجميلة التي نظمها في وداع صديقته (أنيت) لتمتع القارئ ببعض غزله الرائق، ولنتصيد المناسبة الموهوبة بين وداع ووداع.
(أنيت) نزلنا بوادي السباع
بواد يذيب حديد الصراع
يعير فيه الجبان الشجاع
(أنيت) لقد حان يوم الوداع
إلى إلى حبيبتي (أنيت)
إلى إلى بجيد وليت!
كأن عروقهما النافرات!
ضروب من الكلم الساحرات
إلي بذاك الجبين الصليت
تخافق عن جانبيه الشعر
يبث إلى أريج الزهر
سيعبق في خاطري ما حييت
ويذكرني صبوتي لو نسيت
إلى إلى حبيبتي (أنيت) (تم البحث)
محمد رجب البيومي