انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 992/شوقيتان لم تنشرا في الديوان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 992/شوقيتان لم تنشرا في الديوان

مجلة الرسالة - العدد 992
شوقيتان لم تنشرا في الديوان
ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1952



للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

1 -

توطئة

يعلم قراء (الرسالة) الزاهرة مدى إعجابي بشعر أمير الشعراء المرحوم أحمد شوقي بيك، ويعلم القراء الكرام أيضاً تعصبي له وتفضيلي شعره على غيره من الفحول الكبار، ومن تحصيل الحاصل قولي أن نهضة مصر الأدبية الحديثة قامت على أكتاف ثلة نادرة من أفذاذ الرجال، كان على رأسهم شوقي الذي استطاع بما وهبه الله من عبقرية ملهمة وقريحة وقادة وعلم غزير، أن يثب بالشعر العربي إلى قمة الإبداع، بعد أن كان محنطا بقوالب من المحسنات اللفظية السخيفة، فهو بحق الحد الفاصل بين موت الشعر وحياته، لأنه رحمه الله لم يكن كغيره من شعراء القريحة، أمثال الرصافي وحافظ، يعتمد على محصوله اللغوي من الألفاظ والمرادفات، ومحفوظة من عيون شعر من سبقوه من الأفذاذ، كزميله سامي البارودي، بل كان نسيج وحده وطراز لا شبيه له، لأنه كان يغترف من بحر خضم متلاطم الأمواج، هو بحر العبقرية والإلهام والنبوغ، ولو لم يكن كذلك لما تقدم شاعر النيل لمبايعته هاتفاً:

أمير القوافي قد أتيت مبايعاً ... وهذي وفود الشعر قد بايعت معي

ولا أجد في معرض الحديث عنه وعن شعره أصدق ولا أكمل من قول المرحوم الرافعي؛ إذ قال فيه: (هذا الرجل انفلت من تاريخ الأدب لمصر وحدها كانفلات المطرة من سحابها المتساير في الجو، فأصبحت مصر به سيدة العالم العربي في الشعر، وهي لم تذكر في الأدب إلا بالنكتة والرقة وصناعات بديعة ملفقة، ولم يستفض لها ذكر بنابغة ولا عبقري. ولولا البارودي وصبري وحافظ في المتأخرين وكلهم أصحاب دواوين صغيرة لما ذكرت مصر بشعرها في العالم العربي. على أن كل هؤلاء لم يستطيعوا أن يضعوا تاج الشعر على مفرق مصر ووضعه شوقي وحده.

كل شاعر مصري هو عندي جزء من جزء ولكن شوقي جزء من كل. والفرق ب الجزأين أن الأخير في قوته وعظمته وتمكنه وأتساع شعره جزء عظيم كأنه بنفسه الكل. ولم يترك شاعر في مصر قديماً وحديثاً ما ترك شوقي، وقد اجتمع له ما لم يجتمع لسواه، وذلك من الأدلة على أنه هو المختار لبلاده فساوى الممتازين من شعراء عصره وارتفع عليهم. . أن شوقي من النفس المصرية بمنزلة المجد المكتوب لها في التاريخ بحرب ونصر. . الخ)

وإلا فدلوني على شاعر غير شوقي تمكن أن ينظم في كل الفنون والأبواب فيجيد ويبدع؟ أنا أعلم أن أكثر الشعراء في لون من ألوان الشعر فيشتهرون به كما حدث بالفعل. فأبو نواس مثلاً أجاد في الخمريات وأبو العتاهية في الزهديات والنابغة في الاعتذارات والمتنبي في الحكمة وهكذا. . أما أن يجيد الشاعر في كل باب فهذا لم يحدث في تاريخ الشعر العربي قط ولم يتح منذ الجاهلية حتى الآن إلا لشوقي؛ لأن شوقي لم يكن شاعر مصر فقط ولا العروبة وحدها ولا الإسلام خاصة، بل كان شاعر الشرق كله أو قل الإنسانية جميعها، وهكذا يكون الشعراء العالميون الخالدون. وشوقي بعد هذا كله جمع في رأسه ونفسه نفسيات جميع الشعراء وأفرغها بعد فحصها في ثوب جديد خاص به، وبذلك دل على أن أسلوبه لا يجاريه أسلوب، حتى ليستطيع المتذوق لشعره أن ينسب كل ما قال من الشعر له حتى ولو غالط مدح ونسبها إلى غيره؛ لأن ألفاظه وتعبيره وديباجته تنم عليه كما ينم العطر على الوردة ولو اختفت بين الأشواك، وهذه ميزة قلما ينفرد بها أحد غير العباقرة الملهمين.

وإذاً فمن تكرار القول وإعادة الحديث أن أبدي إعجابي بشوقي إلى هذه الدرجة من الإفراط والتطرف، ومن التبجح أن أذكر ذلك، ولكني في هذا الحديث مرغم لأنني أعجب غاية العجب من عدم عناية أدباء مصر بشعر سيد شعرائهم وخصوصاً شعره لم يدرج في كتاب ولم يضم إلى دواوينه الأربعة. ولما كنت أعتقد أن لشوقي قصائد كثيرة لم تنشر أخذت أعنى بجمع أكثر القصائد التي أعثر عليها في بطون الصحف الأدبية القديمة التي كانت تسعى إلى نشر ما يقوله أمير دولة الشعر وكرسي الأدب حتى تمكنت بعد جهد جهيد وسعي متواصل أن أحصل على عشر قصائد نشرت أثنين منها في الرسالة الغراء قبل عام وها أنا أتبعها الآن بقصيدتين من عيون شعره، على أن أقدم بعد ذلك ما لدى من شعره في كتاب صغير بعنوان (شوقيات لم تنشر) بعد أن أقدم لهذا الشعر مقدمة ضافية تليق بمكانة قائلة

عتاب لأنجاله:

لا أظن أن شاعراً في الدنيا أحب أنجاله وأولاده بقدر ما احب شوقي علياً وحسيناً، والمتتبع لقراءة شعره يلمس حنانه لهما في كل ما نطق به، حنان الأبوة الصادقة والقلب العطوف، فهل بعد ذلك الحنان بر أنجاله به، أنا لا أريد أن أتحامل عليهما إكراماً لأميرنا. . ولكني أود أن أقول ما سبب تقاعسهما عن جمع ما لديهما من شعر في ديوان جديد؟ المال موجود لديهما والحمد لله! دور النشر ما أكثرها في مصر! ثم ما ذنبنا نحن المعجبين بشوقي وبشعره أن نحرم منه! أين إذن مسرحية (البخيلة) ومسرحية (الست هدى) وهما تمثلان ذلك العصر أصدق تمثيل؟!

أين شعر والدهما الباقي؟! إني أهيب بكل أديب عربي يحمل بقلبه ذرة من الحب لشوقي ولمصر أن يحث الأستاذين الكريمين وهما أكبر أنجاله على طبع روايتيه الشعريتين (البخيلة) و (الست هدى) ليسديا بذلك إلى المسرح والشعر يداً تذكر فتشكر. كما أطالب أخواني الأدباء الذين يحرصون على قراءة شعر شوقي في ديوان جديد أن ينشروا ما لديهم من شعره المنسي على صفحات الرسالة الزاهرة أو يرسلوه إلي لأضمه إلى مجموعتي كي أستطيع أن أظهرها للوجود في القريب العاجل أن شاء الله.

الشوقية الأولى

قلت إنني عثرت بعد تنقيبي وبحثي في حنايا الصحف على بعض الشوقيات التي خلت منها دواوينه. . وأولى هذه النفحات عثرت عليها في الصفحة (270) من الجزء الرابع مجلد (5) من مجلة (الزهراء) القاهرية لسنة 1347 هـ - 1928 م والذي كان يصدرها في مصر الأستاذ محب الدين الخطيب خال صديقة الأستاذ الطنطاوي. . وهذه الدرة الشوقية نظمت في تكريم الشاعر الأستاذ المرحوم عبد الحميد بك الرافعي. . وقد قدمها محرر الزهراء بهذه الديباجة:

(أقيمت في طرابلس الشام حفلة تكريم عظيمة للشاعر الكبير الأستاذ عبد الحميد بك الرافعي في شوال الجاري (أي سنة 1347 هـ) ألقيت فيها قصيدة أمير الشعراء)

فمن هو هذا الشاعر الذي كرمه شوقي؟

لم أجد للشاعر عبد الحميد الرافعي ترجمة أعتمد عليها ولكن وجدت في (مختارات الزهور) كلمة عن شعره هي:

(عبد الحميد بك الرافعي من أدباء طرابلس الشام المعدودين، وسليل أسرة عريقة في النسب. مشهور عن أفراده العلم والفضل. أما شعره فشعر البداوة مع مسحة حضرية فصيح الألفاظ، جيد التراكيب. له ديوان حافل بغر المنظومات. .)

ومن شعره قوله في (المشيب)

يا شيب عجلت علي لمتي ... ظلماً، فيا ابن النور ما أظلمك

بدلت بالكافور مسكي وما ... أضواه في عيني وما أعتمك

من يقبل الفاضح في ساتر ... فهات ليلاك وخذ مريمك

غرك أن الشيب عند الورى ... يكرم، هل في الغيد من أكرمك

فليت أيام شبابي التي ... أرقتها غدراً، أراقت دمك

وإلى هنا أقف عن الشرح لأقدم للقراء وخصوصاً المعجبين بعبقرية أبي علي الخالد قصيدة كاملة وهي التي ألقاها في تكريم الرافعي

أعرني النجم أوهب لي يراعا ... يزيد (الرافعيين) ارتفاعا

مكان الشمس أضوء أن يحلى ... وأنبه في البرية أن يذاعا

بنوا الشرق الكرام الوارثوه ... خلال البر والشرف اليفاعا

تأمل شمسهم ومدى ضحاها ... تجد في كل ناحية شعاعا

قد اقتسموا ممالكه فكانت ... لهم وطن (الفصحى) مشاعا

هموا زادوا (الفضاء) جمال وجه ... وزادوا غرة (الفتيا) إلتماعا

أبو في محنة (الأخلاق) إلا ... لياذاً في العقيدة وامتناعا

أووا شيباً، وشباناً إليها ... تخالهم (الصحابة) والتباعا

إذا أسد الشرى شبعت فعقت ... رأيت شبابهم عفوا جياعا

فلم ترى (مصر) أصدق من (أمين) ... ولا أوفى إذا ريعت دفاعا فتى لم يعط مقوده زمانا ... شرى الأحرار بالدنيا وباعا

عظيم في الخصومة ما تجنى ... ولا ركب السباب ولا القذاعا

تمرس بالنضال فلست تدري ... أأقلاماً تناول أم نباعا

ويا ابن السابق المزري ارتجالا ... برواض القصائد وابتداعا

أما يكفي أباك السبق حتى ... أتى بك أطول الشعراء باعا

شدا الحادي بشعرك في الفيافي ... وحركت الرعاة به اليراعا

وفات الطير ألفاظاً فحامت ... على المعنى فصاغته صناعا

إذا حضر البلابل فيه لحن ... تبادرت له الحمام استماعا

مشى (لبنان) في عرس القوافي ... وأقبل ربوة واختال قاعا

وهز المنكبين لمهرجان ... زها كالباقة الحسنى وضاعا

وأقبلت الوفود عليه تترى ... كسرب النحل في الثمرات صاعا

غدا يزجي الركاب وراح حتى ... أظل (دمشق) وانتظم البقاعا

ترى ثم القرائح والروابي ... تبارين افتناناً واختراعاً

ربيع طبيعة وربيع شعر ... تخلل نفح طيبهما الرباعا

كأنك بالقبائل في (عكاظ) ... تجاذبت المنابر والتلاعا

بنت ملكا من (الفصحى) وشادت ... بوحدتها الحياة والاجتماعا

فعادت أمة عجباً وكانت ... رعاة الشاء والبدو والشعاعا

أمير المهرجان، وددت أني ... أرى في مهرجانك أو أراعا

عدت دون الخفوف له عواد ... تحدين المشيئة والزماعا

وما أنا حين سار الركب إلا ... كباغي الحج هم فما استطاعا

أقام بغبنه لم يقض حقا ... ولا بل الصبابة والنزاعا

(طرابلس) انثنى عطفي أديم ... وموجي ساحلا وثبي شراعا

كسا جنباتك الماضي جلالا ... وراق عليه ميسمه وراعا

وما من أمس للأقوام بد ... وإن ظنوا عن الماضي انقطاعا

ألم تسقى الجهاد وتطعميه ... وتحمي ظهره حقباً تباعا؟! شراعك في (الفنيقيين) جلى ... وذكرك في (الصلبين) شاعا

كأني بالسفين غدت وراحت ... حيالك تحمل العلم المطاعا

(صلاح الدين) يرسلها رياحاً ... وآونة يصففها قلاعا

أليس البحر كان لنا غديراً ... وكانت فلكنا (البجع) الرتاعا

غمرنا بالحضارة ساحلية ... فما عيا بحائطها اضطلاعا

توارثناه أبلج عبقريا ... ذلول المتن منبسطاً وساعا

ترى حافاته انفجرت عيوناً ... ورفت من جوانبه ضياعا

فما زدنا الكتاب الفخم حرفاً ... ولا زدنا العصور الزهر ساعا

عقدنا معقد الآباء منه ... فكنا البهم قد خلف السباعا

كأن الشمس مسلحة أصابت ... عفيفاً في طيالسه شجاعا

تحجب عن بحار الله حتى ... إذا خطرت به نضت القناعا

وما رأت العيون أجل منها ... على أجزاء هيكله اطلاعا

فما كشروقها منه نعيما ... ولا كغروبها فيه متاعا

هذه عصماء شوقي التي قالها في تكريم الشاعر الكبير المرحوم عبد الحميد بك الرافعي وهي كما يراها القارئ الكريم نفحة خالدة من نغمات شاعر الشرق الخالد الذي لم يك شاعر مصر وحدها بل شاعر الإنسانية برمتها وإن حدد هو فقال:

كان شعري الغناء في فرحة الشرق وكان البكاء في أحزانه ومثل شوقي يظل خالداً ما ظلت الشموس تدور في أفلاكها. وفي العدد القادم أن شاء الله أقدم (شوقية أخرى)