مجلة الرسالة/العدد 992/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 992/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 07 - 1952



تجربة قاسية

مترجمة عن الإنكليزية

إن التغير المستمر الذي طرأ على مركز المرأة قد سبب كثيراً من مصائبنا الاجتماعية، ولا تزال الحالة تزداد كل يوم سوءاً وما دامت المرأة ترى واجبها في الحياة أن تكون أماً وزوجة وربة منزل فهي شريكة الرجل في سروره وحزنه وغناه وفقره، ولكنها متى تركت هذا المجال فلا يمكن أن تكون إلا واحدة من اثنتين: إما خادماً للرجل وإما حاكمة له، ومن أجل ذلك كانت أتعس السيدات هن نساء الطبقة التي يدعونها بالطبقة الراقية واللواتي يقضين أيامهن كسالى بليدات ويعهدن بكل واجب من واجباتهن إلى أخريات، فإنهن اقل شعوراً بالسعادة من سائر النساء.

ولقد كانت بطلة هذه القصة من النوع الأخير. . فإنها نشأت وظلت طوال عمرها لا تقدر مسئولية لشيء، فهي تنتقل من يد المرضعة إلى يد المربية إلى معلم الموسيقى والرقص دون أن تشعر في هذه الأدوار إلا بأنها مخدومة، وأن على غيرها واجبات لها وليس عليها لأي إنسان أي واجب.

وتزوجت من رجل متقدم في العمر فمات وهي لم تبلغ الخامسة والعشرين، وقد وجدت نفسها عند موته غنية ذات معجبين كثيرين بجمالها وهي حرة في اختيار ما تريد وترك ما تشاء، فكانت نتيجة حياتها على هذا النمط أن بالسأم وأحست بأن الحياة عبء ثقيل عليها، فكان لذلك كل عملها أن تقتل الوقت كأنما هي لا تريد إلا التخلص من حياتها جزءاً فجزءاً. ولكنها مع هذا السأم من الحياة كانت زينة الحياة وبهجتها في أعين كثيرين، ومن الغلطات الشائعة أن الناس يحسبون أن جميلة العينين وسيمة الوجه تكون حتماً ذات ذكاء يتناسب مع جمالها وتكون ذات روح شعرية.

ولئن كان في السيدات من تجتمع فيهن هذه الصفات فإن صاحبتنا البارونة أديل لم تكن كذلك بل كانت روحها قاتمة مظلمة كانت متوسطة الطول نحيلة شديدة البياض بحيث يظهر في جلدها الناصع لون عروقها الزرقاء. وهي جميلة الوجه والأنف صغيرة الفم وردية الشفتين ذهبية الشعر، ولكن عينيها كانتا أجمل شيء فيها فقد كانت نظراتها الوسنى مث نظرات الحالم.

وقد قضت سنوات في الحداد على زوجها تتنقل بين البلدان فزارت إيطاليا وفرنسا الجنوبية وإسبانيا، وكان أحب أماكن الاصطياف إليها جبال التيرول حتى لقد جمعت كل صورها ومناظرها فوضعتها في غرفة استقبالها. وفي يوم من الأيام أرادت أن تتسلق إحدى قممها المكللة بالجليد فلبست ثوباً من الفرو وأمسكت بعصا غليظة وصعدت إلى الجبل قبيل الغروب، فلما وصلت إلى مكان مرتفع منه كانت الشمس قد غابت. ثم وجدت أنها ضلت الطريق وأصبحت محاطة بحفائر مكدسة بالثلج بحيث لا تستطيع العودة ولا الاستمرار في المشي.

وحاولت عبثاً أن تجد لها منقذاً، فرأت من المستحيل أن تتقدم أو تتأخر أو تعلو أو تهبط فاستغاثت بأعلى صوتها، ولكنها لم تسمع غير صدى صوتها فأخرجت من جيب معطفها مسدساً وأطلقته ولكنها لم تسمع غير دوي الطلقات، فخارت قواها وجلست على صخرة بعد أن أزالت ما عليها من الجليد وظلت تبكي. وبعد ربع ساعة مر عن كثب منها رجل يصفر فنادته وكلمته بلهجة لم تتكلم بها منذ سنوات وهي لهجة التوسل والضراعة، وطلبت إليه أن ينقذها فمشى نحوها رافعاً قبعته محيياً باحترام. وعرض عليها مساعدته فشكرته شكر الضارع الخاضع ورأت من ثيابه ومن الأسلحة التي يحملها أنه من هواة الرياضة والصيد. ودلتها هيئته على القوة والإعجاب.

قال لها: (اسمحي لي أن أحملك)

فقالت: (أخشى أن اسبب لك تعباً كثيراً)

قال: (لا داعي إلى مثل هذا القول)

ثم حمل البارونة بين يديه فشعرت وهي محمولة بشعور غريب لم تجربه من قبل. وكانت أنفاسه الحارة تدفئ خديها فتسائل نفسها أي شعور هو الذي تجده في نفسها في هذا الوقت، هل هو الحب؟

فلما وصل بها إلى الفندق الذي تقيم فيه شكرته ودعته إلى زيارتها ووعدها بأن يرافقها في فرصة أخرى إلى جبال التيرول. . وسألته عن اسمه فقال أنه فرديك فون فاردورف.

قالت: (أنت ذلك الروسي الشهير؟ لقد سمعت اسمك يتردد كثيراً في الأوساط العالية) فأخبرها فاردوروف بأنه من أسرة ألمانية تنتمي إلى أصل روسي، وأن ضياعه في كونترلاند ولكنه لم يزرها منذ سنوات لأنه كان في العهد الأخير يزور بقاعاً مختلفة من الأرض.

وفي اليوم التالي زارها فاردوروف ودار الحديث عن زياراته لأمريكا الجنوبية وأفريقيا الشمالية وقرأ لها قصة أو قصتين من قصص إيفان ترجنيف. وكانت تصغي إلى حديثه متلذذة وتدعوه إلى تكرار زيارته فكررها. وصارت بعد ذلك تخرج معه إلى جبال التيرول وإلى غيرها من المتنزهات وتدعوه للعشاء كل ليلة فأخذ الناس يتحدثون عن علاقاتهما وعن احتمال زواجهما قبل أن يتم التفاهم على شيء من ذلك.

وفي ليلة من الليالي كانا جالسين معاً في المنزل فقالت إديل

(إننا سنفترق سريعاً يا فاردوروف) فقال: (لماذا؟)

قالت: (لأنني تغيبت عن المنزلي طويلا وأريد العودة، فهل تزورني هناك؟) فقال: (ما الذي تعنين؟ هل تحبين ألا أزورك)

قالت: (ما الذي تعنيه أنت؟ إنني أتأثر كثيراً إذا ابتعدت عنك) فقال الروسي بلسان متلعثم: (هل تسمحين؟. . . ألا يغضبك. . .؟)

قالت: (تكلم! ما الذي يمنعك من الكلام) فقال: (إنني أحبك يا إديل)

فأطالت البارونة التحديق في وجهه فقال: (لا تمنعيني عن الكلام حتى أقول كل ما أريد)

قالت: (ولكنني لم أعد أؤمن بالحب) فقال الروسي: (أعرف ذلك ولم أعلل نفسي قط بأنك ستجازينني على حبي بمثله ولكنك قلت لي مراراً إنك تعيشين بغير غرض ولا تسرين من أي بواعث السرور فعيشي معي زوجة لي وأنا الكفيل بأن ينشأ في قلبك ميل لي بعد الزواج)

فنظرت إديل نظرة شاردة من النافذة دون أن تجيبه بأي جواب وسكت الروسي لحظة ثم قال. . (قرري يا سيدتي بكلمة منك إما حياتي وإما موتي)

فأجابته وهي تبتسم: (الحياة أو الموت؟)

قال: (نعم إنني أعني ما أقول فإني أفضل الموت إذا لم تحبيني. .

فقالت المرأة التي لا قلب لها: (هذا مجرد تعبير) قال: (كلا ولكنها الحقيقة فاختاري لي الحياة أو الموت)

فقالت: (إنني سأعطيك مهلة عام فإذا لم تستطيع في خلالها إقناعي بأنك تحبني حقيقة وإذا لم تستطيع أن تبعث في نفسي عاطفة الحب نحوك فإني سأقضي عليك بأن تقتل نفسك)

قالت ذلك ثم بدأت تضحك ضحكاً عالياً فقال الروسي وهو عابس مقطب: (إذا حكمت بعد انقضاء العام بأنه لا أمل في الحياة معك فإني أفعل كما تريدين ولكن يكون لي عندك رجاء آخر)

قالت: (ما هو؟) فقال: (أن تقتليني أنت)

قالت: (لك ذلك) فقال: (ولكن هل تستطيعين؟)

فقالت: (ولم لا؟ أنه يستوي عندي أنه يستوي عندي أنا أن تقتل عندي نفسك من أجلي أو أن أقتلك بيدي) فقال الروسي: (إذن فما هديني على أنه بعد انقضاء العام إما أن تقتليني أو تتزوجي مني)

قالت: (أعاهدك على ذلك ولكن يجب أن تتذكر أنت أيضاً تعهدك عند انقضاء العام وألا تنتظر مني رحمة)

فقال: (لا وسط بين الحالتين فإما أن تكوني لي وإما أن أموت)

ومد كلاهما يده إلى الآخر فتعاهدا على ذلك

ومضى العام وهما يعيشان معاً في منزلهما بفينا وكان الليل ساجياً من ليالي الربيع الجميلة وهي جالسة على نمرقة بجانب الشرفة وهو جالس عند قدميها فقالت: (هل نسيت)

قال: (نسيت ماذا؟) فقالت: (هل نسيت عهدنا؟ إن اليوم موعده) فعرت جسم الروسي رعشة باردة وقالت له همساً: (أدن مني وأخبرني ما هو رأيك اليوم قي تعهدك قبل أن تسمع حكمي)

قال: (إنني أرتعش. . .) فقالت: (إذن فاسمع الحكم: (إنك قد أقنعتني بأنك تحبني فليس عندي شك في ذلك. . .)

وهنا ارتمى الروسي على قدميها ليقبلها فقلت: (لا تتسرع فإنك لم تسمع بقية الحكم)

فقال: ما الذي تعنين؟ فقالت: (إنك أقنعتني بأنك تحبني ولكنك لم تستطع أن تجعلني أحبك)

قال: (ما أشد قسوتك يا إديل!) فقالت: (إنني أكلمك كلاماً صريحاً شريفاً)

قال الروسي: (أنا عند حكمك إذن فاقتليني)

فقالت: (هكذا سأفعل فإني ذاكرة عهدي. وروحك الآن في يدي ولن أتركها هبة لك. إنني لا أحب ولكنني أريد أن أكون محبوبة وأن يحبني من يحبني فيموت تحت قدمي وأنا أنظر إليه نظرة احتقار)

قال: (هل تجدين فيما تقولين؟) فقالت: (ألا تصدق؟ هل حبك لنفسك أكثر من حبك لي؟) قال: (كلا كلا: وإني مستعد للموت) فقامت وعادت وفي يدها زجاجة صغيرة مملوءة بسائل أسود وقالت: (إشرب هذا).

فتناولها وقال: أشرب في حبك يا إديل ثم قال: (ناوليني يدك فإن قواي تخونني).

ثم أظلمت الدنيا في عينيه. وبعد ساعتين أفاق فوجد رأسه على حجرها وهي تنظر إليه وعلى وجهها ابتسامة دالة على السعادة

قال: (ما الذي حدث؟) فنادته باسمة بصوت عذب فقال: (هل أنا أحلم الآن؟ ألم أمت؟) قالت: (كلا وستعيش وستكون لي زوجاً فإني أحبك كما تحبني) فقال: (وماذا كان السائل الأسود الذي في الزجاجة؟ ألم يكن سماً؟)

قالت: (كلا، ولكنه مخدر) فقال: (لماذا؟)

قالت: (لكي أجربك) فوقف الروسي مسرعاً وقال: (تقولين إنك تحبيني؛ ولكنك مع ذلك تتركيني أقاسي أشد الآلام بقصد اللهو والتسلية. إن المرأة التي تفعل ذلك لا تستطيع أن تملك قلبي) قالت إديل بصوت الخائف: (ألم تعد تحبني يا فاردورف؟ ما الذي جعلك تتغير هذا التغير الفجائي؟ ألم تعد تحبني؟) فقال: (إنني لا أحبك الآن ولن أحبك في المستقبل، وداعاً!)

فطوقت إديل عنقه بذراعها وقالت: (أستحلفك بحق السماء ألا تجعلني أتعس إنسانة في الوجود) فقال: (أنت التي أتعستني وأتعست نفسك. وداعاً)

قال ذلك ثم تخلص منها فارتمت على قدميه ولكن ذلك لم يفد وأظهر قوة إرادته فخرج مغضباً

ولما جاءت الخادمة وجدت إديل مستلقية على الأرض جثة هامدة ع. ق