انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 991/شخصية الرشيد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 991/شخصية الرشيد

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 06 - 1952



على ضوء علم النفس الحديث

للأستاذ أنور الجندي

يقف (هارون الرشيد) على رأس القمة التي بلغتها الدولة العباسية، بل التي بلغها تاريخ الإمبراطورية الإسلامية كلها. .، هذا المجد الذي لم يلبث طويلا بعد ذلك، والذي كان خلال عهد المأمون امتدادا للدفعة القوية التي بلغها الملك في عهد الرشيد. وحسبك بالخليفة الذي روى عنه أنه قال للسحابة المارة (أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك)

اختلف المؤرخون حول الرشيد اختلافا شديدا، فذهب بعضهم إلى أنه كان يصلي مائة ركعة كل يوم، وأنه كان يتصدق بمائة ألف درهم، وأنه كان يحج عاما وغزو عاما. وذهب البعض الآخر إلى القول بأن قصره كان صورة صحيحة لقصص (ألف ليلة)، وأنه كان مرحاً طروبا يقيم مجالس الغناء والأنس تنتظمها أكواب الراح، وأنه كان يقضي غالب وقته بين الغناء والموسيقى، والمغنيات والقيان.

على أنه ليس من الغريب أن يجمع الرشيد بين الصورتين المتباعدتين اللتين يجمعهما دلاله الشخصي القوي الحيوية، الدافق الشباب، البالغ الفتوة.

وليس على الرشيد من بأس على ضوء طبعه هذا من أن يعيش هاتين الحياتين معا، ويمتزجهما على نحو من الاعتدال فهما؛ قريبان جدا، يلتقيان دائما، إذا بعدت عنهما مبالغات القصاص وأحاجي الرواة.

وليس على الرشيد من ضير أن يعقد مجالسه فيستمع إلى السمر والغناء والموسيقى. .، ولا يمنعه ذلك من أن يصلي لله مائة ركعة، وان يمضي إلى الحج عاما والغزو عاما.

وكل وقائع حياة الرشيد الصحيحة التي بين أيدينا، تدل على أنه أمضى حياة جادة كل الجد فقد حفلت حياته القصيرة بالغزو والجهاد، فما كان ينتهي من غزاة حتى يفترع أخرى،. .

كذلك كان منذ شبابه الغض إلى اليوم الأخير من حياته.

وأبرز ظاهر حياته أنه رجل حرب وقتال، أشربت روحه بالجهاد وقيادة الجيوش ونضال العدو، وكانت أغلب غزواته في أرض الدولة البيزنطية، فلما ولي الملك نظم الشواتي والصوائف وحرض على إرسالها، ثم خرج بنفسه إلى قتال الروم بعد أن نقضوا المعاهدة، ومنعوا الجزية.

وقد كان حفيا بمغالبة الخصوم والأعداء، لا يهدأ ولا يستريح إلا لنصر يكسبه من وراء نصر، فلا يلبث أن ينتهي من صراع الأعداء على حدود الدولة البيزنطية حتى يعاود الصراع مع العلويين الذين يظهرون هنا أو هناك محاولين الفتنة أو منازعين على الملك،. . وهو في هذا كله صلب العزيمة، قوي العود، على غاية من البسالة والحيوية. .، وهي صفات لا تجعل صاحبها بحال في صف المنقطعين للهو أو العاكفين على الهوى. .

وفي هذا يقول الشاعر:

ومن يطلب لقاءك أو يرده ... ففي الحرمين أو أقصى الثغور

وقد بدت هذه النفسية المصارعة الجارفة. . على أوضح صورها وأقواها حين استبان له غدر البرامكة. . فصرعهم في ليلة واحدة، على أسلوب غاية في الجرأة والحسم والبتر، ولم يقبل فيهم شفاعة، حتى شفاعة ظئره التي أرضعته وربته. . وكانت عنده في مقدمة الشافعين المشفعين.

وليس شك في هذا التصرف الجريء بالنسبة للبرامكة. . بعد أن أطلق أيديهم في أمور الملك سبعة عشر عاما، حتى بلغوا مكانا عاليا، واستطار اسمهم، وعلا صيتهم. . وفي الوقت الذي كان يعلم انهم هم الذين أوصلوه إلى الملك ومكنوا له منه، لدليل أكيد على قوة نفسية الرشيد، قوة تزري بما عرف عن جده المنصور. .

وإن ظلت نفس الرشيد تحتفظ بطابعها الخالص من السماحة والرقة واللين والمراح والإشراق.

. . وآية ذلك الذي نذهب إليه في نفسية الرشيد، أنه في رحلته الأخيرة إلى خرا سان، حمل إليه أحد الخوارج، وكان في أشد حالات المرض، وفي سكرات الموت، فأمرهم بقتله أمامه، وظل يملأ نظره من دمه المهدر، وهو مسجى على وشك أن يبلغ الأجل من علته.

وكان الرشيد خلال حياته التي لم تتجاوز الخامسة والأربعين، حامل لواء الحضارة الإسلامية في الشرق - بالإضافة إلى منصبه كخليفة للإمبراطورية -، فقد احتضن الثقافة والفن، وشجع رجال الشعر والموسيقى والغناء. . وأفسح لهم وكنهم من الابتكار والتجديد والإبداع، وعنى بالتأليف، وأعان الفقهاء، وفتح لهم أبواب التحدث والقضاء، وعقد لهم مجالس البحث والمساجلة والمناقشة في مختلف المسائل.

. . واتصل بعميد الغرب في عهده، شارلمان ملك فرنسا وجرمانيا وإيطاليا. . وأرسل إليه وفداً. . وأهدى إليه مفاتيح بيت المقدس، علامة على الود بين الشرق والمغرب والشرق، وبين الإسلام والمسيحية.

ثلاث نجوم: كانت تدور في فلك الرشيد، أمه الخيزران، وزوجه زبيده، ووزيره جعفر.

أما الخيزران فقد كرهت الهادي، لأنه كان يصرفها عما تبغي من مظاهر السلطة والنفوذ، وأما الرشيد فقد أباح لها ما تشاء منه، وإليها يرجع بعض الفضل في أن يقفز إلى الخلافة، قبل أن يجيء دوره في ترتيب الوراثة وولاية العهد.

وأما زبيدة فزوجه الأولى، التي كان يؤثرها على كل زوجاته وسراريه وجواريه، وهي أم الأمين وكانت ذات رأي وتدبير، فكان الرشيد لا يرى بدا من أن يأخذ بمشورتها، وأن يطلق يدها في إنشاء القصور وتعمير المساجد وحفر العيون المعروفة باسمها. .

وأما جعفر فكان محببا إلى نفسه غاية الحب، حتى لقد روى بعض المؤرخين أنهما كانا يدخلان في ثوب واحد، وهو أن قيل على أنه ضرب من المجاز، يصور مدى ما كان بينهما من الحب الصادق والود الأكيد.

وروى أن جعفر تصرف باسم الرشيد في أمور غاية في الدقة فأقره الرشيد وقبل منه ورضى عنه، ولم يمنع هذا جعفراً من أن يقع به ما وقع عندما قضى فيه الرشيد بأمره.

وتلك شميلة من شمائل الرجل الفذ، تثبت في وضوح قوة عارضته؛ ولو كان كما روي عنه من الإسراف في الترف لما استطاع أن يحسم أمره بالقوة والبراعة والحكمة في الوقت المناسب.

فإذا أخذ عليه بعد ذلك أمر، فهو أنه بايع للأمين بولاية العهد وللمأمون بخراسان وللقاسم بولاية العهد بعد المأمون. .

في عقد واحد، وكان هذا الذي فعل الرشيد بعيد الأثر من بعده، وهذا خطأ من أخطاء العاطفة المتحمسة، والعقل الراغب في حسم الأمور، الذي يظن أنها تنقاد من بعده وفق سلطانه. . وإرادته.

وهو أشبه بما قيل عن رضائه عن صداقة جعفر والعباسة، وجمعهما في حضرته وإنفاذ أمره بزواجهما، دون أن يلتقيا كما يلتقي الأزواج. .

فإذا صح ما ذهبنا إليه من أمر الرشيد الذي عاش حياته مقسما بين الحرب والحج، ومغالبة الأعداء والخصوم من الروم، والعلويين البرامكة. .، فلا يمنع هذا العظيم المشبوب بالحماسة والقوة والحيوية، من أن يرد موارد المتاع بالسمر ومجالس الطرب، فذلك يتمشى مع طابعه ولا يتعارض معه بحال من الأحوال.

وقد أداه طبعه السياسي والواضح هذا إلى أن يرسم الخطط للأمور التي يمكن أن تقع بعد عهد طويل. . ولا بأس عليه من أن يخطئ. . خطأ المجتهد، في أن ينظم المملكة من بعده على صورة مبايعة طويلة المدى لأولاده، أو أن يقتل الخارجين، وهو على وشك الموت.

ولا شك أن تصرفه في كسب صداقة شارلمان، وإهدائه إياه مفاتيح بيت المقدس، هو من وعي السياسي النابه الذي يريد أن يحول بين عادية الصراع بين الشرق والغرب، وهو ما امتحنت به المملكة الإسلامية بعد ذلك.

وجملة القول في الرشيد أنه كان من أبرع ساسة الشرق، وخلفاءه الإسلام، وأنه لم يكن بالمترف اللين الناعم كما صوره صاحب الأغاني، أو كاتب ألف ليلة وليلة، ولكنه كان قاسيا جبارا، فيه روح المجاهد المحارب، وعاطفة الشباب الفوار، الذي لا يحب الهزيمة، والذي يتعقب خصومه ويفتك بهم، والذي يحب مجالس العلم، ومجالس الفن، ويلقاها مرحا مبتسما طلقا، وإن طوى النفس على عزيمة ماضية تبرز في قوة حين يتصل الأمر بشخصه أو سلطانه

أنور الجندي