مجلة الرسالة/العدد 990/زعماء التاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 990/زعماء التاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 06 - 1952



مصطفى كمال أتاتورك

للأستاذ عبد الباسط محمد حسن

(لم يكن مصطفى كمال. رجلا من رجال المصادفة والحظ. يرفعه إلى البطولة خلو الميدان. ويدفعه إلى الزعامة غباء الأمة. وإنما كان من الصفوة المختارة الذين يضع الله فيهم الهداية للقطيع الذي يوشك أن يضل والحيوية للشعب الذي يأبى أن يموت. . .)

(الزيات بك)

- 3 -

انتقل مصطفى كمال إلى دمشق. . مبعدا عن القسطنطينية. وكان السلطان يظن بذلك أنه لن يستطيع أن يواصل عمله ونشاطه. . وأن صلته بأقرانه قد انقطعت. . وأن وجهوده قد توقفت - ولو إلى حين -!!

ولكن كيف تهدأ نفس (مصطفى) الثائرة، وتخبو آماله العريضة، وتسكن حركته المتدفقة!

لقد بدأ يواصل عمله ونشاطه في دمشق وبيروت. . واتصل (بمفيد لطفي) وهو أحد زملائه القدامى. . في المدرسة الحربية. . وأحد مؤسسي فروع الجمعية في بلاد الشام. . . كما اتصل بقائد ميناء (يافا) وكان مناصرا لأعضاء الجمعية وظل مصطفى يطوف بمختلف بلاد الشام. . داعيا إلى إصلاح الإمبراطورية العثمانية - مركز الخلافة الإسلامية.

ولكن أهل هذه البلاد من العرب. . لم يحفلوا بدعوته. . وكان معظمهم ثائرين. . لا من أجل حرية تركيا. . ولكن من أجل حرية بلادهم. . ومنذ ذلك الحين بدأ مصطفى كمال ينظر إلى وطنه مستقلا عن بقية أجزاء الإمبراطورية. . ووضع أساس سياسته الذي سار عليه طول حياته (تركيا. . للأتراك).

وفي الوقت الذي أبعد فيه مصطفى كمال عن القسطنطينية. . تكونت عدة جماعات وطنية منها (جمعية الاتحاد والترقي) التي كان هدفها الرئيسي وضع دستور للبلاد. . فلما سمحت له الظروف بالعودة إلى وطنه. . أراد أن يشترك في هذه الجمعية ولكنه لم يكن على وفاق مع زعمائها. . ولذلك فضل العمل بمفرده.

وفي سنة 1908م. . قامت ثورة في تركيا الفتاة. . التي انتهت بالحصول على الدستور ولم يكن لمصطفى نصيب في هذه الثورة.

وحينما نشبت الحرب بين إيطاليا وطرابلس. . رأى أن يتطوع لمعاونة القوات الوطنية التي تحارب الغزاة الإيطاليين. . وقد استطاع الوصول إلى ميدان الحرب. . رغم معارضة الحكومة العثمانية. . وتضييق الرقابة الإنجليزية. . المسيطرة على مصر في ذلك الحين. . وظل يعمل في الميدان الجديد إلى أن نشبت الحرب البلقانية. . ضد تركيا سنة 1912م.

وحينما نشبت الحرب الكبرى. . انضمت تركيا إلى ألمانيا. فاشترك مصطفى كمال في هذه الحرب. . وقام بنصيب كبير في الدفاع مع بلاده حتى وصل إلى مرتبة الزعامة الحربية. . رغم معارضة وزراء الحربية له. ووقوفهم في وجهه. . وإبعاده في كثير من الأوقات عن ميادين القتال. . وقد حاول الإنجليز مرتين اقتحام الدردنيل. . ولكنه استطاع أن يردهم المرة تلو المرة. . حتى تراجعوا في 14 ديسمبر سنة 1915. . . ولذلك أطلق عليه اسم (منقذ الدردنيل)

وكان مصطفى كمال يحمل على الألمان حملة شعواء. . ويقول (إنه من الحمق والجنون أن نسمح للأجانب بالسيطرة على الجيش)، وهو عدة الحياة لنا. . يجب علينا نحن الأتراك. . أن ننهض بجيشنا. وإنها لإهانة للوطن كله أن ندعو ضباطا بروسيا ليتولى عنا تنظيم جيشنا. .)

وحينما انتهت الحرب. . خرجت تركيا مهزومة ذليلة. . وكانت النكبة الكبرى على الدولة العثمانية احتلال اليونان لمنطقة أزمير - فقد كان ذلك يبعث في نفوس الأتراك ألما وحسرة وقلقا. . ويدعو إلى التشاؤم. . والخوف من المستقبل.

خرجت تركيا من الحرب مهزومة ذليلة. . فأنتهز اليونانيون الفرصة. . وطلبوا من الحلفاء أن يسمحوا لهم باحتلال أزمير.

وفي الخامس عشر من شهر إبريل سنة 1919م. . بدأت الجيوش اليونانية تنزل أرض الأتراك - الذين كانوا بالأمس القريب سادة عليهم - وقد اقترن نزولهم في هذا الميناء بالوحشية والقسوة. . فاعتدوا على الأهالي المسالمين. . وقتلوا عددا كبيرا من الجنود الأتراك. . وقد رأت الكاتبة الفرنسية مدام جوليس ما حدث عند نزول اليونانيين في أزمير. . فتقول في مذكراتها:

(بدأ اليونانيون ينزلون إلى البر. . وقد انتظموا صفوفا يتقدمهم علم يوناني كبير. . وازدحمت على جانبي الطريق الخالي من الأتراك. جموع من الأروام. . وقفت تهتف للقائد اليوناني الكبير - فنزيلوس - وكانت وجهة المحتلين والمتظاهرين. . الثكنة العسكرية التركية. . التي آوى إليها جنود الحامية التركية مع عدد عظيم من الضباط. . والشبان القدمين للاقتراع. . وكان جنود الحامية قد سلموا أسلحتهم تنفيذاً للأوامر. . وما هي إلا فترات قصيرة حتى أحاط الجيش المحتل بالبناء. . ثم دوت طلقة من أحد المتظاهرين كانت إيذانا بحركة فاجعة. . فقد صوب المحتلون مدافعهم. . فطارت مصاريع النوافذ الزجاجية. . وامتلأ الفناء بجثث القتلى والجرحى. .

وحاول الأتراك المحاصرون أن يدافعوا عن أنفسهم. . فاخذ أحدهم قطعة قماش رفعها. . وسار صائحا في إخوانه. . كي يتبعوه، ولكن نيران المدافع كانت أقوى من بسالتهم، فمات منهم كثيرون)

يقول المؤرخ الإنجليزي الكبير هربرت فشر (قد يتحمل الأتراك احتلال أية دولة لأزمير، أما أن تخفق الراية اليونانية الحقيرة المزدراة فوق أي صقع من أصقاع آسيا الصغرى، فكان يعد من جانب كل تركي وطني صميم إهانة لا تغتفر ولا تطاق ولذا أثار نزول الجيش اليوناني في أزمير موجدة الترك، وأهاج حفيظتهم، وأذكى في نفوسهم تصميما على مقارعتهم، وأتاح لمصطفى كمال، منقذ الدردنيل وأنبغ قواد الجيش التركي، الفرصة لخلق دولة تركية مستقلة لخلق دولة مستقلة جديدة)

نظر مصطفى كمال إلى الحالة السيئة التي وصلت إليها بلاده. . فلقد أبعد الأتراك عن قناة السويس. . وطرد من العراق وسوريا وفلسطين. . وألقى الأسطول الإنجليزي مراسيه في مضيق الدردنيل. . . وغدا السلطان دمية في أيدي الساسة البريطانيين. . ولم يبق للأتراك سوى آسيا الصغرى التي أحتل اليونانيون جزءاً منها. . وبدأ مواطنوه يخضعون للحكم الأجنبي، ويفقدون الثقة في حاضرهم ومستقبلهم. . ولا يفكرون في وسائل الخلاص!!

ومع هذا الفساد في الحكم. . والتشاؤم من المستقبل المظلم. . بدأ مصطفى كمال يفكر تفكيرا جديا في تحرير وطنه. وتخليص بلاده. وبعث الشعور القومي من جديد.

وكان برنامجه يقضي بالعمل على استقلال تركيا استقلالا كاملا. . ثم تنظيم الحياة القومية تنظيما مستمدا من أصول الحضارة الغربية.

أخذ مصطفى كمال يبث الدعوة إلى فكرته. ويجمع المخلصين حولها. . وكان مما حدث أن قابل السلطان - وحيد الدين - وحدثه عن آلامه. . وحاول أن يبث فيه الجرأة والصلابة. . ولكن السلطان خاف على مركزه ونفوذه. . وخشي أن يغضب الدول الكبرى. . ولذلك رفض مساعدة مصطفى كمال.

وحينما شعر المراقبون الأجانب، بهذه المساعي التي يبذلها، والجهود التي يقوم بها. خشوا أن يكون لحركاته أثر في القسطنطينية عاصمة الدولة. ومصدر توجيه الأمة. . ولذلك عملوا على محاربته (ومقاومة حركته) وذلك بإبعاده عن العاصمة. .

البقية في العدد القادم

عبد الباسط محمد حسن