مجلة الرسالة/العدد 99/سبيل المدنية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 99/سبيل المدنية

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 05 - 1935



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

رآني مرةً صاحبٌ لي آكل لحماً نيئاً، فاستغرب، وسألني عنه كيف أجده؟ قلت: أطيب ما يكون، فأبى أن يصدّق، وذهب يكابر، وجعل يسأل: (كيف تستطيبه وهو نيئ؟)

قلت: (يا أخي إن المسألة ليست مسألة منطق وجدل، إنما هي مسألة طعام، فخذ منه وذق، وأنظر بعد ذلك كيف تجده، ثم إنه لا شك أخف على المعدة وهي أقدر على هضمه من اللحم الذي أنضجته النار، وأثقله ما يخلط به)

فهز رأسه منكراً، وأبى أن يجرب. ومضت أيام، فاشتهيت أن آكل كبداً نيئة، فصارت الخادمة بعد ذلك تعلن الخوف مني ولا تخفيه، وتغلق عليها الأبواب حين تنام، كأنما خشيت أن آكلها حية، ثم لم تطق صبراً فتركت البيت، وتحدث إلى المخدم بأني (غول) فتعذر عليه أن يقنع غيرها بالعمل في بيتي، فجئت بواحدة من الريف ويخيل إلي أن المدينة تضعفنا من حيث ترقينا، وتشيع في نفوسنا روح الأنوثة، فنزداد عليها رقة وتطريا، ولا نزداد قوة وقدرة على المقاومة. فنحن مثلاً نقاوم البرد بالثياب لا بأجسامنا وما فيها من المناعة الطبيعية التي تستفاد من التجرد، ولا يستطيع الواحد منا أن يخطو عشر خطوات بقدم حافية، وما أكثر ما تسمع الأم تحذر ابنها أن يمشي حافياً حتى في البيت مخافة أن يصيبه أذى من الرطوبة أو نحوها. والخبز يوضع على المائدة في طبق حتى لا يمس السفرة، والأشواك والسكاكين والملاعق نوضع مستندة إلى قطع من الزجاج أو المعدن ترفع أطرافها، وهكذا في كلُّ شيء، ولكن القطة مثلاً تعتمد إلى كوم الزبالة فتنبشه وتأكل ما تجد فيه من فتات الخبز أو غيره، والكلب يقضم العظام مخلوطة بالتراب فلا يصاب بسوء ولا تعروه حمى، وينام تحت عين الشمس فلا تضربه، وإذا جاء الشتاء لم يتخذ لحافاً ولا شبه. وحدثني طبيب يعمل في الريف أنهم قلما يعنون بتطهير أدوات الجراحة في مستشفيات القرى عنايتهم بذلك في المدن، ولا يرون أن هذا يضير المرضى، أو يحدث لهم تسمماً، وهو يعلل ذلك بأن الأجسام في القرى أعظم حصانة وأقوى مناعةً لكثرة تعرضها، على خلاف الحال في المدن

ونصحني مرة طبيب من أصدقائي أن أكف عن أكل اللحم وأن أقتصر في طعامي على الخضر والفاكهة، فقلت له: (لا يا صاحبي، فأني أرى الحيوان أقواه آكل اللحم وأضعفه آكل النبات، وأنا أكره لنفسي أن أحيا حياة خروف. والعمر طوله أو قصره لا قيمة له، وليست العبرة بأيام تزداد في الأجل أو تنقص منه، فأنه إلى انتهاء على الحالين، (ومرجوع وهاج المصابيح رمدد) كما يقول الشاعر، ولأن يحيا المرء حياة قصيرة ولكنها قوية، خير ألف مرة من يعيش ألف سنة ويكون بغلاً أو حماراً)

فضحك ولكني كنت جاداً ومن ذا الذي لا يؤثر أن يكون نمراً على أن يكون ثوراً؟ أعني أن تكون له قوة النمر وصولته وبطشه، ولا بأس بالغدر والقسوة أيضاً، فأن لكل مزية ثمنها، وعسير أن تؤتي فضلاً وأن تسلم من عيب أو نقيصة؛ وإذا كان ثمن القوة القسوة أو الغدر، فأن ثمن الجمال الضعف، وهكذا في غير ذلك

وعلى ذكر ذلك إن الحب عند الحيوان تنزّ، وهو بين البدو شهوة تغري بالاستحواذ بالقوة أو الحيلة، ولكنه في ظل المدينة يستحيل حنين عاجزٍ، وصبوة حائرٍ، ولهفة ضائع، ودموع مفؤود، لا حيلة له ولا دواء من دائه إلا أن يرق له المحبوب ويحنو عليه كما تحنو الأم على طفلها الرضيع. والتماس معاني الجمال في الإنسان والحيوان والأشياء عنوان رقي ودليل على دقة الحس والتمييز، ولكنه أيضاً التماس لمعاني الضعف، وتطرٍّ من الإنسان، ونزوع إلى الأنوثة. وهذا كلام أحسب القراء سينكرونه ولا يقبلونه، ولعل منهم من يتوهمه إغراقاً في التخيّل، ولكنه الحقيقة - وسبيل المدينة هذا، ولا حيلة لي ولا لهم.

وأحسب أن في نفسي أثراً من آثار البداوة، فأني أحب الصحراء وأكره هذه البني العالية ولا أرتاح إلى الفرش الوفير، وأمقت التعقيد وأوثر البساطة في كلُّ شيء؛ وقد أرتاب بعض أهلي في صحة عقلي لما تزوجت، لا لأني تزوجت، فما في ذلك من بأس، بل لأني قلت لهؤلاء الأهل لما أبلغوني أن صاحبهم يأبى أن يزوجني الصغرى قبل تتزوج الكبرى: (قولوا له أني سآخذها على الرغم منه إذا لم آخذها برضاه)

فعجبوا وقال قائلهم: (كيف؟ في أي عصر نحن؟ أم تريد أن تحدث حدثاً في الأسرة؟)

قلت: (كلُّ ما أعرفه أني أطلبها وأني سآخذها - خطفاً أو غصباً أو سرقة - آخذها والسلام، فقولوا ما بدا لكم، وظنوا ما شئتم، ولكني أنصح لكم أن تردوا صاحبكم إلى الرشد)

فلم يسمع منهم، فكان أن أخذتها على رغم كلُّ أنف - إلا أنفها! ولم أخطفها ولم أسرقها، ولكني أحسنت التدبير وجودت الحيلة. وما معنى أن أطلب شيئاً، وأروح أنحسر وأتلهف وأقطع قلبي عليه؟ هذا كلام فارغ! والطلب يقتضي السعي، فأما أن يوافق المرء وإلا فليقصر إذا عزه المطلب، ولكنها المدنية تحيل النفوس كالورق المبلول، فمن كان يريغ القوة فليجفف نفسه قليلاً، ولينأ بها عنا الترف والرقة

وقد قرأت للكاتب الإنجليزي هـ. ج. ولز، قصة لا أذكر أسمها، ولكني أذكر أنه يتخيل أن البطل انتقل إلى كوكب آخر أرقى من هذه الأرض، وأعلى في درجات الحضارة وأسبق إليها ببضعة آلاف من السنين، فكان أن ظهرت الأنفلونزة، ففشت بسرعة ولم يدرِ سكان هذا الكوكب كيف يتقونها أو يصدونها، لأن جرثومتها لا تجد من أجسامهم مقاومة، فأخذوا يعزلون المصابين بالطيارات

وهذا فعل المدينة لأنها ترمي إلى التسهيل والتيسير على الإنسان والتخفيف عنه، ورفع مؤونة الكد والتعب، وهذا مفضٍ إلى التطري والضعف. وقد قيل للمشترع الإسبرطي مرة: (ألا تبني لنا سوراً يقينا الغارات المفاجئة؟)

فقال: (كلا. خير سور ما كان من اللحم والدم)

يريد أن يقول إن بناء السور من الحجر يغري بالاستنامة والاطمئنان ويؤدي إلى الضعف، أما إذا بقيت المدينة بلا سور يحميها فإن هذا يبعث على تنبه أهلها ويقظتهم ويدفعهم إلى الاستعداد الدائم، فلا تضعف نفوسهم ولا تذهب رجولتهم. وهذا صحيح. وقس على ذلك في سائر الأمور.

إبراهيم عبد القادر المازني