مجلة الرسالة/العدد 99/القصص
مجلة الرسالة/العدد 99/القصص
من أساطير الإغريق
بَنْدُورَا وسرقة النارُ المقدسة
للأستاذ دريني خشبة
(هدية الآلهة إلى الآنسات في جميع العصور!!)
توزَّعَ الآلهة تعمير الكون، فكانت الأرض من نصيب برومثيوس بن يابيتوس، أحد ذراري التيتان العمالقة، الذين حبسهم أبوهم خشية جبروتهم ومخافة بأسهم. . .
وطفق برومثيوس يفكر ويفكر، حتى بدا له أن يجعل في الأرض أناسيٌّ يخلقهم على صورِ الآلهة، فاستعان أخاه أبيمثيوس فهداه إلى الحمأ المسنون، أو الطينة البشرية، فخلقا منها الإنسان الأول، وذهبا إلى إيروس فنفخ فيه من روحه؛ التي هي الحياة؛ وقصدا إلى فنفثت فيه نفثتين، هما النَّفس والعقل.
وخلق برومثيوس رجالاً كثيرين على هيئة آدم الأول، وجلس على أكمة عالية يشرف على عبادة الصالحين!! ولشد ما كانت الكبرياء تشيع في أعطافه، كلما نظر فوجدهم يتحدثون بآلائه، ويسجدون له، حتى فكَّر في نعمة أخرى يسبغها عليهم فتكون أجزل النعم!
(النار! النار المقدسة تنفعهم وتُلين لهم حديد الحياة!).
(فلا ذهب إلى الأولمب ولأتحسَّس؛ فإذا استطعت أن أتغفَّلَ زيوس، فأني سارقٌ لهم قبساً من ناره التي آثر بها نفسه على سائر العالمين!).
ومع أن برومثيوس يعلم من أمر هذه النار ما يعلم، ومع أنه يعلم أنها محرمة على غير الآلهة، وأن كلُّ من استباحها لنفسه ممن عداهم تعرض لمقت الإله الأكبر ونكاله، فقد ذهب إلى الأولمب وتغفل زيوس، ودسَّ قبساً من النار في تضاعيف ثيابه، وعاد كالبرق إلى عباده المخلصين يقدم إليهم هديته التي سرقتها من أجواز السماء!.
ونظر زيوس من علياء الأولمب، فرأى النيران تتأجج هنا وهناك في أديم الأرض، ففطنا إلى السرقة المنكرة، وانقذفت من فمه المزبد رعود الغضب!
وارتجف الأولمب، وزُلزلت السماء، وارتعدت فرائض الآلهة، وأمر الإله الأكبر فأحضر برومثيوس مُكبلاً بالأصفاد، مُلطخاً بالوحل؛ وعبثاً حاول الدفاع عن نفسه؛ ثم حُكم عليه فسيق إلى جبال القوقاز، حيث غُلَّ عنقه الضخم وذراعاه الكبيرتان، وفخذاه اللتان تزريان بفخذي فيل، في قنَّةٍ عالية. وسخَّر الإله الأكبر رُخَّا عظيم الجثة، حاد الأظافر، كبير المنسر، فذهب إلى حديث برومثيوس، ينوشه، ويمزق جسمه، وينفذ أظافره ومنسره في أحشائه حتى تبلغ الكبد، فيهرأه ويطعمه حتى يأتي عليه، وينصرف إلى غد.
فإذا كان الليل، وهبّت الريح سجسجاً، التأمت جراحات الإله المسكين، وخلق له كبدٌ آخر؛ وينام حتى تشرق الشمس، فيعود الرخ ليبدأ ما انتهى منه أمس، وليأخذ في تعذيب بروميثيوس التعّس، إلى تغيب ذكاء!! وهكذا دواليك، أحقاباً وأحقاباً. . .
ويلبث الإله المنكود في هذا العذاب الطويل حتى يلقاه هرقل الجبار في أحد أسفار، فتثور الشفقة في قلبه، وينقض كالصاعقة على الرخ، ولا يتركه حتى تزهق روحه، بعد صراع عظيم، ثم يفك أغلال بروميثوس ويحرسه، حتى يقبل الليل فيشفى مما يه، ويسير بين يديه حتى يبلغ أوطانه، حيث عباده الصالحون!!
وفرح الناس بإلههم وسروا بقائه، وقدروا ما ألقى في سبيلهم ومن أجل سعادتهم فعنوا له وأخبتوا.
وكانوا يحيون في بًلهنيةٍ، غارِّين في طراوة من العيش، وسعةٍ من الرزق، هواؤهم رخاء وماؤهم صفاء، لا يشكون متربةً ولا يعرفون ضنكاً، ولا تلم بهم ملمة من مرض أو رجسٍ.
ولم يعرفوا الموت، ولم يدروا ما البكاء، فكأنما كانت حياتهم طوبى، ونعيماً مقيماً.
وعلم زيوس ما كان من أمر بروميثيوس وفرح الناس بأوبته إليهم، فغيظ غيظاً شديداً، وآلى ليكيدن لهم كيداً، وليرسلن عليهم من مكره ما لا طاقة لهم به. . .
ونظر زيوس فرأى أنهم مخلوقون على صور الآلهة، ولكنهم كلهم ذكران، (ومن الآلهة أنثيات، فلم لا أصنع لهم أنثى تذهب بحرثهم ونسلهم، إن صح أن يكون لهم نسل؟. . .)
وأرسل دعوةً عامة إلى جميع الآلهة فسعت إليه من كلُّ فج عميق، وأخذ يحدثهم حديث بروميثيوس، ثم أخبرهم أنه يريدهم أن يخلقوا له أنثى جميلةً يودع فيها كلُّ منهم سراً من أسراره: (لأنني سأرسلها هدية إلى هذا المجنون بروميثيوس ليشهد بعينيه ماذا تصنع بعبادة الذين خلق. . .).
واقترح الآلهة أن يفرغ هيفستوس إله النار والفن، وابن زيوس، إلى ابتداع هذه الأنثى، فسوّاها من نفس الحمأ الذي خلق منه الإنسان، وجاءت آيةً من آيات الحسن، رقيقة كأنها صُوِّرت لنكون فتنة الأولمب.
واحتملها إلى زيوس، وأقبل الآلهة بنفثوس فيها أسرارهم، ويستودعون نفحاتهم؛ فهذه فينوس تهها من جمالها، وحيرا من ثرثرتها، ومينرفا من حكمتها، ولاتونا من استيحاشها، وديانا من رشاقتها، وكيوبيد من حبه، وأبوللو من شعره وموسيقاه. . .
أما هرمز الخبيث، فقد أنتظر واستأنى حتى فرغ الآلهة من إسباغ آلأئهم، ثم تقدم، وملء وجهه ضحكةٌ ساخرة، فأودع الحواء قلبَ كلبٍ، ونفس لص، وعقل ثعلب!!. .
ثم نفخ فيها زيوس من روحه، فذبت الحياة في أعطافها، ونظرت حولها فأبصرت الآلهة مشدوهين، مأخوذين بسحر جمالها، فولَّت مدبرةً، ولكن إلى غير مهرب!
وشرع الآلهة يتخيرون لها الأسماء، ثم سماها ربها (يندروا.) وأومأ إلى هرمز فاحتملها، كالطفلة المدللة، وذهب بها، هديةً غاليةً من السماء إلى التعس بروميثيوس، الذي رفضها غير شاكر وأباها غير حميد!!
وكان لديه أخوه أبيمثيوس فكادت نفسه تذهب شعاعاً حين أبصر هذه الغادة الهيفاء، يرفضها أخوه هدية من السماء! وتقدم هو فضرع إلى هرمز أن ينزل عنها، وأن يغفر لأخيه حماقته، وقلة بصره، وكفرانه الذي لا كفران بعده!!
ومع ذلك فقد نصح بروميثيوس لأخيه ألا يقبل هذه الهبة من الآلهة، وأن يرفضها، غير مشكورة، كما رفضتها:
- (إنها فتنة يا أخي، بل هي خدعة من خدع السماء حريٌّ ألا تنطلي علينا!).
- خدعة؟! خدعة ماذا يا أخي؟ خذ عينيّ فابصر بهما، وقلبي فضحِّه على مذبح هواها. . . ألا ترى إلى عينيها النجلاوين، وشفتها القرمزيتين، وثدييها الناهدتيين، وفخذيها المملؤتين، وساقيها الجميلتين؟. . .
- (بل بحبي عيناي يا أخي! إني أستشفُّ بهما فتوناً نفثته الآلهة في كلُّ جوارحها، فحذار! إنها ستكون خراب هؤلاء المساكين الذين صنعتهم يداي!!).
- (حسبك يا أخي وحسبي! هي لي من دونك، فتوّل عنا أودعْ!).
وعاشت بندورا مع ابيمثيوس كما يعيش الآلهة في الفردوس. . . حياة كلها مرح، وأياماً جميعها لذة وإيناس، يخلو إليها فتمتزج روحهما، وتختلط نفساهما، وتكون هي فتنة زوجها المسكين؛ تأسر لبه بموسيقاها الحنون: وتسحره بالرزقة النائمة في عينيها، وتبهره بكلماتها الغوالي في الحكمة والموعظة الحسنة!!
وتركهما زيوس حيناً من الدهر ينهلان خمر الحياة، ويعبان من عسلها المصفى؛ ثم دعا إليه هرمز، فحمله صندوقاً ثميناً، وأنفذه به إليهما. . . (. . . وإياك أن تبعث به في الطريق، فأنه هديتي إلى بندورا، وفيه انتقامي من عباد بروميثيوس؛ فسر به إلى الفتاة، وأوصها به خيراً. . .).
وكان الزوجان يتراقصان على الحشيش الأخضر أمام قصرها المنيف حين أقبل هرمز بالصندوق، يتعثر في مشيته، وقد بدت وثاء السفر عليه، وعلق الثرى بأسماله البالية، فلفتت بندورا نظر زوجها إليه، وذهبا سويه للقائه والاحتفاء به؛ لكن هرمز أبى إلا أن يذهب إلى القصر، ليسلم الهدية، وليبلغ رسالة السماء. فسار الجميع حتى كانوا في المخدع الوثير وجلس هرمز يستريح قليلاً، ثم قال:
(هاك يا بندورا العزيزة هدية الإله الكريم إليك، خصك بها من دون براياه أجمعين. وأحسبك في غني عن أن أصفها لك. فها هي أمامك تتكلم عن نفسها. ولكن الإله الأكبر يشترط ألا تفتحها إلا بإذنه، فلا تتعجلي، حتى يأتيك أمره. وإنه لقريب.).
ونهض هرمز، وسلم وانصرف، وما تزال بوجهه تلك الضحكة الساخرة التي كانت عليه يوم استودع بندورا قلب الكلب، ونفس اللص، وعقل الثعلب. . .
وكان ابيمثيوس قد قدم إليه من ثمر حديقته الشيء الكثير، ولكنه لم يمد يده إليه. . .
وكان الليل قد قارب أن ينتصف، وكان الكري قد لعب بطرفها الوسنان، فاستلقت على أريكتها الحريرية، وغرقت في سبات عميق، ممتلئ بأحلى الرؤى، وأطيب الأحلام.
وخيِّل إليها أن في الصندوق أرواحاً سحرية تكلمها، وتنسج الأماني العذاب لها؛ وأن دينا بأكملها تتفتح وتزهر حولها. . . فلما نهضت من نومها من في بكرة اليوم التالي، أحست أن أملا كبيراً يملأ قلبها، وأن رغبة ملحةً تسوقها إلى الصندوق كلما ابتعدت عنه؛ وحدثت زوجها بما تجد، فعللها هو الآخر بالآمال، وأخذ يهدئ من روعها الذي بدا اضطرابه بأحلى مظاهره. . . ودعاها إلى نزهة خلوية فأقسمت لا تغادر البيت، بل لا تغادر الغرفة التي تضم الصندوق الصغير، (الذي أحس أنه مغلق على قلبي ونفسي جميعاً. . .!) فرثى لها، وانطلق هو، لأول مرة منذ عرفها، وحده، ينام إخوانه الآلة ويلاعبهم؛ وبندورا، وحدها في مخدعها، تقلب الصندوق العجيب، وتتحدث إليه، كأنه يسمع ويرى.
وغبرت أيام وهي في حال من الهم لم تعهدها من قبل، وكانت تجلس وحدها حزينة كاسفة، تنتظر بشير الآلهة الذي يأذن لها بفتح الصندوق. . . ولكن هيهات!. . . لقد طال ما انتظرت حتى نفذ صبرها وعيل، ونهضت إلى الصندوق تقلبه، وتقلبه، وهي مأخوذة بجمال صنعه، ودقة زخرفته، وهذا الغطاء المزركش الذي انغلق على آمالها وأحلامها. . .
وحاولت أن تفتحه، ولو أغضبت بذلك السماء ومن فيها من آلهةٍ وأرباب، ولكنها فشلت غير مرة، وضاقت بها الدنيا بما رحبت؛ فدفعت بالصندوق دفعة قوية على أديم الغرفة، فانصدع، ولما تناولته ثانية، هالها أن وجدت بعض أربطة الغطاء قد تقطعت، ثم هالها أكثر أن تسمع هذه الأصوات، منطلقة من الداخل:
(بندورا! بندورا! بندورا العزيزة! حنانيك! خلصينا من هذا السجن السحيق! إننا نتعذب هنا. . . أنقذينا يا بندورا فقد ضقنا بما نحن فيه. . . إننا لم نصنع شئياً حتى نرسف في هذا الحيز الضيق. . .).
(ماذا؟. . .
ما الذي يتحدث هكذا في هذا الصندوق. . .؟ إنها أصوات حزينة ملكومة، وإني لابد منقذتها! ماذا أنتظر؟ أمر السماء! هذا لا يهم!!
أنفتح أيها الغطاء. . .!)
وضغطت الصندوق ضغطة هائلة فانفتح الغطاء؛ وسرعان ما انطلقت خفافيش سوداء ذات مخالب حادة فملأت هواء الغرفة، وأهوت على بندورا المسكينة تعضها وتجرح بدنها الغض، وكلما وخزها خفاش لعين، انطلق قائلاً: (أنا المرض!) ويقول آخر: (أنا الفقر!) ويقول ثالث: (أنا الجوع!). ويقول رابع: (أنا البخل!). وخامس: (أنا القحط). وسادس: (أنا النفاق!) وسابع. . وثامن. . . إلى آخر الرذائل التي تكظ الحياة إلى يومنا هذا؟!. . .
وانطلقت الخفافيش من الغرفة إلى القصر، فجرّحت الخدم والخول ثم انطلقت إلى الحديقة.
والى الطريق حيث كان ابيمثيوس وأقرانه الآلهة، فأوسعتهم عضاً وقضماً وتجريحاً. وتركتهم يترنحون من الألم، وذهبت تفسد في الأرض، وتنتقم لزيوس الجبار من عباد بروميثيوس المخلصين، فكثرت الآلام، وعم الفقر، وامتلأت الأرض رذائل وأشجاناً!!. . .
وكانت بندورا قد أسرعت إلى الصندوق فأغلقته، حين رأت من أمر هذه الخفافيش ما رأت.
ولكن: وا أسفاه!!
إنها حين أغلقت الصندوق، حبست فيه الروح الطيب الوحيد، الذي خبأه فيه زيوس. . . ألا وهو: (روح الأمل!).
وانبطحت بندورا على أرض الغرفة تئن وتتوجع، وتشكو البرح الذي ألم بها، حتى أقبل ابيمثيوس فانبطح إلى جانبها يشكو شكاتها، ويتألم آلامها. . .
ولبثا يبكيان. . .
وكلما حدثته بندورا حديث الصندوق، تسخط الإله التعس وتبرم، وحدجها بنظرة فاترة، قائلاً: (نصحتك فلم تصيخي. . .!).
وسمعا صوتاً ضعيفاً في الصندوق يقول: (بندورا! بندورا! لماذا حبستني هنا وحدي، وأنا روح الخير. . . افتحي. . . افتحي. . . إني سأشفيك من جراحك، وآسو آلامك وأوجاعك. . . افتحي. . .).
ولكن بندورا كانت في شغل بآلامها فلم تنهض ولم تجب، ولكن ابيمثيوس تناول الصندوق ففتح غطاءه، فانطلق فراش أبيض جميل، وهو روح الأمل، ما فتئ يرف بكل جرح من جراحات الزوج حتى شفاها جميعاً؛ ثم شفى جراح الزوجة كذلك، وانطلق إلى عباد بروميثيوس يشفيهم ويأسو جراحهم؛ وما فتئ إلى اليوم، هذا الفراش الأبيض الجميل، روح الأمل، يشفي أوجاع المحزونين والملكومين.
بورك الفراش الأبيض!
ولا بوركت خفافيشك السوداء يا بندورا!
دريني خشبه