مجلة الرسالة/العدد 988/الاستعمار البريطاني في الملايو

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 988/الاستعمار البريطاني في الملايو

مجلة الرسالة - العدد 988
الاستعمار البريطاني في الملايو
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 06 - 1952



للأستاذ محمد جنيدي

أعاصير هائجة، ورياح عاصفة، تهب في الملايو لتقويض صرح الاستعمار البريطاني!. . .

أفكار ثائرة، ونفوس غاصبة. . . أبت الاستكانة لسيادة قوم فرضوا نفوذهم على شعوب ضعيفة بوسائل الخداع النفاق، والقوة والطغيان، فسلبوا حقوقها، ومحوا استقلالها، فعادت القهقري إلى حقب بعيدة. . . وقد دار الزمان دورته، وعادة الحياة إلى أجسام الشعوب المستعبدة، ودب النشاط فيها، فشرعت تكافح في سبيل استعادة حريتها المسلوبة، لتعيش على سطح هذا الكون حرة مستقلة، تشارك الشعوب الحرة في حفظ تراث الإنسانية، ودعن أسس السلام العالمي

وعندما وقفت أجهزة الحرب العالمية الثانية في الشرق الأقصى لتستريح من النصب الطويل الذي لاقته في سبيل استعباد الأمم الضعيفة، واستغلال خيرات أراضيها، ظهرت على مسرح السياسة الدولية أجهزة التحرير للشعوب الأسيوية تعمل في ضوء النهار، وفي حلك الليل، للقضاء على الاستعمار الغربي، لتقيم الدليل على حق الشعوب المستعبدة في تقرير مصيرها، كما نص عليه ميثاق الإطلانطيقي. . . الذي كان رمزاً لغاية الدول الكبرى لأعمالها بعد أن تضع الحرب العالمية الأخيرة أوزارها، كما كان شعلة وهاجة تشير بها للشعوب الضعيفة بالسير في موكبها لتنعم بالحياة الحرة الخالية من شوائب الفقر والخوف

لقد بدأت الشعوب الأسيوية المستعبدة تنتهج السبل الموصلة إلى تحقيق آمالها الوطنية، وتتخذ الوسائل الفعالة إلى التخلص من براثن الاستعمار الغربي، منتهزة الظروف القاسية التي أقعدت الدول الكبرى المهيضة الجناح عن المضي في مناهضة الحياة الحديثة الثائرة التي برزت في الشرق تطالب بنصيبها من الحرية

ففي الشرق الأقصى في إندونيسيا، أعلن الإندونيسيون استقلالهم وقيام حكومة جمهورية مستقلة في السابع عشر من شهر أغسطس عام 1945 (بعد مرور يومين على وقوف آلات الحرب والدمار في الشرق الأقصى) وأعدوا عدتهم لملاقاة كل الاحتمالات المتوقعة سوف تظهر من جانب الدول الكبرى الاستعمارية، محاولة منها القضاء على استقلال إندونيسيا، وإعادة سيادتها مرة ثانية عليها. . . فاتحدت القوات الاستعمارية - الإنكليزية والهولندية واليابانية - للقضاء على استقلال إندونيسيا، وهدرت أفواه مدافعها تصب نيرانها الحامية على الإندونيسيين الأحرار، وضحى الشعب الإندونيسي في سبيل حفظ حريته وتدعيم أساس جمهوريته كثيراً من النفوس الطاهرة التي قدمت نفسها رخيصة على مذابح الحرية. . .

هذا في إندونيسيا، البلد المجاور لملايو، وهناك على الجانب الآخر من الملايو بلد ثائر غاضب. . . هو (فيتنام) فقد أعلن الفيتناميون الأحرار استقلالهم وظهور جمهورية شعبية مستقلة تتولى إدارة البلاد، وذلك في شهر أغسطس عام 1945

ولم ينج الفيتناميون الأحرار من غضب المستعمرين الغربيين الذين لعبوا دورهم السياسي والعسكري في فيتنام. . . فجهزوا عليهم جيوشاً جرارة للقضاء على حكومة فيتنام الحرة، كما سلحوا أذنابهم من الفيتناميين أتباع الإمبراطور باوداي، وقد خلق المستعمرون في الهند الصينية قوة دولية للقضاء على حكومة فيتنام الحرة، وبذل الفيتناميون دماءهم وأرواحهم في سيبل حفظ حكومتهم الحرة، ولا يزالون يكافحون الجيوش الاستعمارية ويكبدونها الخسائر الفادحة حتى تعترف السلطات الاستعمارية بحريتهم واستقلالهم، وفي خضم هذه المعارك التحريرية الأسيوية في الشرق الأقصى تحرك الشعب الملايوي، والتف حول زعمائه الأحرار، فنظموا صفوفهم ووحدوا جهودهم، وأنشئوا الأحزاب السياسية، وأقاموا المنظمات الثقافية، لتتولى شؤون الحركات التحريرية التي تتطلب التضحية في المال والرجال، ليقيموا حياة جديدة حرة في وطنهم الذي يلاقي الأمرين من الاستعمار الإنكليزي

لقد نهض الشعب الملايوي بعد ما رأى المعارك الاستقلالية الدامية تدور حوله بين الأسيويين الأحرار والغربيين المستعمرين، فطالب السلطات البريطانية بحرية بلاده، مستندا في ذلك إلى حقه الطبيعي والشرعي في الحرية والاستقلال، وعلة ما جاء في ميثاق الأطلسي الذي ضمن للشعوب الضعيفة حق تقرير مصيرها

وهنا تقف إنكلترا حائرة في هذا الجو المضطرب، أو في هذا الخضم الثائر في الشرق الأقصى، فالحركات الاستقلالية تلفح نارها الهند الصينية التي يقاتل فيها الفرنسيون قتالا مريرا لإيقاف الزحف الشيوعي عن مناطق نفوذهم فيها، وتؤيد - إنكلترا فرنسا في حركتها العسكرية الضخمة في الهند الصينية لصد التيار الشيوعي عن المستعمرات الغربية في الشرق الأقصى فتشبثت إنكلترا بحقها الدولي في بقاء سيادتها على الملايو، وكان رد فعل لهذا أن غدت ملايا بركانا ثائرا، يشيع فيها الاضطرابات والثورات

إن الاستعمار الغربي في الملايو هو المسئول الأول عن الاضطرابات الحاضرة في جميع أنحاء ملايا، أو بعبارة - أوضح إن الاستعمار الغربي هو الذي أثار هذه الاضطرابات، وأشعل هذه الثورات، فالثورة الحاضرة في الملايو هي ضد الاستعمار البريطاني الذي رفض التسليم بحق الملايويين الشرعي في حرية بلادهم، وهي ثورة شعب على وضع يناهض تقدمه ويعرقل سيره. فلو أن السلطات الاستعمارية البريطانية قدرت مدى تغلغل الروح القومية في نفوس الشعب الملايوي كما قدرت مدى انتشار الروح الوطنية في الهند، لأفسحت المجال للشعب الملايوي ليسير في طريق الحرية والاستقلال، وليلحق الشعوب الأسيوية التي سبقته في هذه المضمار فغدت حرة مستقلة، ولكنها أغمضت عينيها عن هذه الروح الثائرة وعن هذه الحركات الهائجة، فأرسلت جيوشها الجرارة إلى الملايو لتخمد أنفاس الملايويين، وقد بلغ عدد الجنود التي - قذفتها بريطانيا إلى ملايا بعد الاضطرابات الحاضرة مائة وخمسة وعشرين ألف جندي، وتؤيدها مائة ألف جندي كانت موجودة في ملايا قبل الحوادث الأخيرة

يزعم الاستعمار الإنكليزي في الملايو بأن بقاءه فيها هو لحفظ النظام الديمقراطي والحقوق الإنسانية من داء الشيوعية التي تقضي على الحقوق الديمقراطية، وتقلب أوضاعها رأسا على عقب، وهذا الزعم ينهار تحت الحقائق الناصعة التي تثبت أن الشعب الملايوي شعب شرقي مسلم قد حماه دينه من العقائد الضارة والنظم الفاسدة التي تهدم كيان المجتمع

وهناك ادعاء آخر، وهو آخر ما في جعبة إنكلترا من الادعاءات التي تبرر بقاءها في الملايو، وحقها في استعمال الأسلحة ضد الثوار، وهو أن الثوار في ملايا ليسوا هم الوطنيين بل هم الصينيون الشيوعييون الذين يستمدون العون من الصين الشيوعية، وغايتهم القضاء على الاستعمار الإنكليزي في الشرق الأقصى. فهل هذا الادعاء قائم على دليل مستخرج من الحياة الملايوية الحديثة تستند عليه إنكلترا في حق قيامها بواجبها العسكري للقضاء على الحركات الشيوعية في الملايو؟ لا. . . إنه ادعاء لا يرتكز على دليل ملموس. وهو إدعاء باطل، أريد به تضليل العالم بأن الملايويين قانعون بحياتهم الحاضرة تحت ظل الحكم البريطاني. . . وهذا إفك وافتراء. . . فإن الشعب الملايوي قد أبى الخضوع للحكم البريطاني، ولا يريد إلا التحرر من نفوذه الذي عاقه عن الحركة والتقدم مدى قرون طويلة

وإذا درسنا الحياة الحديثة في ملايا دراسة صحيحة من الناحية السياسية والثقافية - وهما الناحيتان البارزتان - لمعرفة مستوى نضوج الشعب، نجد أن الشعب الملايوي كغيره من الشعوب الأسيوية التي كانت مستعبدة قد عرقل سيره الطبيعي الاستعمار البريطاني، فالحكم البريطاني قد أغلق أبواب العلم والمعرفة أمام الشعب الملايوي، وحصره في محيطه الضيق، وفي أفقه العادي، لا يرتشف من مناهل العلم، ولا يتصل بالعالم الخارجي، برغم أن هذا الشعب محب للعلم، تواق إلى المعرفة، فهو شعب مسلم، يحثه دينه على التسلح بسلاح العلم، والتزود بالفنون الحديثة، كما أن الاستعمار البريطاني قد حظر على الشعب الملايوي إنشاء الأحزاب السياسية، وإقامة المنظمات الثقافية، فمنذ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها لم تظهر في ملايا أحزاب سياسية أو منظمات ثقافية تدعو الشعب إلى التحرر من الاستعمار البريطاني؛ فالسلطات البريطانية أبعدت الشعب الملايوي عن ميادين الجهاد المقدس بعد الحرب العالمية الأولى كيلا تتقلص سيادتها عن ملايا، بينما كانت الأحزاب السياسية والمنظمات القومية قد برزت في إندونيسيا من 1908 وهي البلد المجاور لملايا

ومن المشكلات الصعبة التي تعانيها ملايا في حركاتها التحريرية اليوم، مشكلة الجاليات الأجنبية. فالزعماء - الملايويون يريدون التوفيق بين وجهات نظرهم ووجهات نظر الجاليات الأجنبية التي تكون عدداً مساوياً لعدد الوطنيين. . . ويبلغ عدد سكان ملايا خمسة ملايين ونصف مليون نسمة، ومن الطبيعي أن وجود هذا العدد الهائل من الأجانب في ملايا له تأثيره البارز في الحركات التحريرية الملايوية - نجاحا وفشلا، تقدما وتدهوراً

والتوفيق بين وجهات نظر الملايويين والأجانب هو كما يريده الملايويون الأحرار، اندماج الأجانب وهم يمثلون الصينيين في القومية الملايوية، بحيث يشعرون بما يشعر به الملايويون من الآلام والاحساسات إزاء مشكلتهم القومية الكبرى. وقد تشبث الصينيون بوجهة نظرهم وهي بقاؤهم متمسكين بقوميتهم الصينية، ووجوب انتقال سيادة ملايا إليهم، وظهر من هذا تباين تام في الآراء والأفكار، واختلاف في الشعور والإحساس بين الملايويين والصينيين، وهذه العوامل المعنوية لها تأثيرها الخطير في الحركات القومية الملايوية، ولا شك أن هذا التباين من أحد العوامل التي تعرقل سير الحركات التحريرية الملايوية اليوم. ويجد الشعب الملايوي نفسه أمام عاملين خطيرين يناهضان حركاته ومقاوماته ضد الحكم الأجنبي. فالعامل الأول هو الاستعمار البريطاني، والعامل الثاني هو العدد الهائل من الصينيين الذين يشعرون بشعور وطنهم، ويحسون بإحساس بلادهم، ويستغرب القارئ الكريمن من وجود هذا العدد الكبير من الصينيين في بلد صغير كملايا، ونحن نوضح له أسباب ذلك

إن الاستعمار الإنكليزي هو الذي فتح أبواب الهجرة أمام الصينيين في ملايا، منذ بدأ يبسط حكمه عليها، كي يجد الملايويون عنصراً أجنبياً يزاحمه ويقعده عن العمل، سواء كان في حقل الاقتصاد أو في ميدان السياسة. وقد نجحت السياسة الاستعمارية الإنكليزية في عملها نجاحا تاما، فاليوم يجد الملايويون الأحرار عقبة كأداء في سبيل حل قضيتهم الوطنية مع السلطات البريطانية، فالصينيون ويبلغ عددهم مليونين ونصف مليون يطالبون الحكومة البريطانية بالسيادة على ملايا، تاركين الشعب الملايوي صاحب البلاد وراءهم. وقد أنتج موقف بريطانيا الصلب العنيد تجاه مطالب الملايويين في الحرية والاستقلال أن قام الصينيون بأعمال التخريب والتدمير في الملايو مشوهين بذلك روعة الحركات التحريرية الملايوية التي شملت جميع أنحاء ملايا. ويدل سير الحركات التحريرية اليوم في الملايو على أن الشعب الملايوي سائر في طريقه المرسوم. . . لتحقيق حريته واستقلاله برغم العوامل المناهضة له؛ وتشرق على ربوع وطنه شمس الحرية، فيغدو شعبا حرا يشارك شعوب العالم في إقامة صرح حياة جديدة قائمة على أساس العدل والرخاء

وإتماما لهذا العرض الموجز عن الاستعمار الإنكليزي في الملايو أقدم للقارئ الكريم موجزاً عن الوضع الإداري الحاضر في ملايا، وعن مركزها الاستراتيجي، وعن النشاط الثقافي الذي سيكون له الأثر الكبير في نجاح الحركات التحريرية التي يستعر لهبها في ملايا تنقسم ملايا على بضع ولايات يتولى الحكم على كل منها حاكم يلقب بسلطان، تنتقل سلطته إلى ذريته من بعده. ولكل سلطنة مظاهر الدولة والحكومة، جيش وعلم وطوابع بريد وإدارات حكومية وقضائية ومالية، وبجانب السطان الوطني مستشار بريطاني يستمد سلطته من وزارة الخارجية البريطانية، وللحكومة البريطانية ممثل لها يلقب باسم (المندوب السامي) وهو الذي يشرف على سياسة ملايا الخارجية والمالية والعسكرية، وهناك بعض مقاطعات تحت الإشراف البريطاني المباشر، وتعدها بريطانيا ممتلكات لها

وتحتل ملايا مركزا هاما من الناحية الاستراتيجية لدول شرف جنوب آسيا، إذ تتسلط على مدخل الهند - وبورما وسيام والهند الصينية وإندونيسيا، وقد جعلت بريطانيا من جزيرة سنغافورة قاعدة حربية تتحكم في مياه المحيط الهندي

والحياة الثقافية الحاضرة في ملايا تبعث على الاطمئنان على مستقبلها، فقد فتح الأحرار الملايويون المدارس، وأنشئوا المنظمات الثقافية لتنوير أفكار الشعب، وتوجيهه إلى ما فيه نجاحه في حركاته التحريرية الحاضرة، ولنا عودة إلى البحث عن الحياة الحديثة في الملايو، لعلنا نوفق في إعطاء القارئ الكريم معلومات دقيقة عن ملايا الحديثة

محمد جنيدي