مجلة الرسالة/العدد 985/حسن البنا الرجل القرآني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 985/حسن البنا الرجل القرآني

مجلة الرسالة - العدد 985
حسن البنا الرجل القرآني
ملاحظات: بتاريخ: 19 - 05 - 1952


4 - حسن البنا الرجل القرآني

بقلم روبير جاكسون

للأستاذ أنور الجندي

. . . أعتقد أن حسن البنا كان أهلا للمكان المرموق، والزعامة الحقة التي وصل إليها. . فقد كان تركيبه الجسدي والفسيولوجي، وأخلاقه وشمائله، وعواطفه وأشواقه. . وذكاؤه وعبقريته، ودهاؤه وحيلته، وقدرته على مواجهة الظروف والأحداث.

كان الرجل يفهم دعوته التي يدعو إليها على أوسع نطاق، وكان يؤمن بها أصدق إيمان، وكان يراها وسيلة إلى تحقيق وحدة الشرق، وتحريره، وخلق جيل جديد، يكسر قيود الاستعمار ويحرر الأوطان، وينفذ في الأرض شريعة الحق. . .

كان الرجل علما على دعوته. . ذلك أنه ليس من اليسير أن ندرس فكرة منفصلة عن قائدها، بل إننا لا نعتقد أن هناك رسالة يمكن أن تنفصل عن الداعي إليها، أو تقوم بعده على الوجه الذي رسمه لها. . .

فهي جزء منه وهو جزء منها، أو هما شقان للحقيقة الخالدة القائمة التي تنتظم نفوس التابعين له، أو المنضوين تحت لوائه. . .

وليس شك أن الزعماء والقادة هم أوعية المبادئ والبرامج والمذاهب. . هذه المبادئ التي ليست إلا كلمات منثورة في بطون الكتب، ليست العبرة بنصوصها بقدر ما تكون العبرة بالقائمين عليها وتنفيذها.

وعلى قدر إخلاص الداعية لمبادئه، وتطبيقها على نفسه، وعلى قدر صلابة عزيمته في تنفيذها وتطبيقها يتوقف نجاحهم.

أنا أؤمن بأن مبادئ الإخوان مرتبطة إلى حد كبير بذلك الرائد الأول الذي رسم خطوطها، وأقام بناءها حجراً حجراً. . فإذا ما قضى فأنا لا أستطيع أن أحكم على مدى اتجاه هذه المبادئ إلا بعد وقت طويل. .

لم يكن الرجل القرآني، فيما علمت، يسعى إلى فتنة، أو يؤمن بالطفرة. . ولكنه كان يريد أن يقيم مجتمعا صالحاً قويا حرا، وينشئ جيلا فيه كل خصائص الأصالة الشرقية. .

لقد ظهرت حركات إصلاحية كثيرة خلال هذا القرن. . في الهند ومصر والسودان وشم أفريقيا. وقد أحدثت هزات لا بأس بها ولكنها لم تنتج آثاراً إيجابية ثابتة.

وقد جاء هذا نتيجة لعجز بعض المصلحين عن ضبط أعصابهم عن مواجهة الأحداث واندفاعهم إلى الحد الذي وصل بهم إلى مرتبة الجرح قبل أن يتم البناء، كما جاء أثراً من آثار عزوفهم عن الاتصال بالشعب وتكوين رأي عام مثقف.

اختفت هذه الدعوات، وبقيت عبارات على الألسن، وكلمات في بطون الكتب، حتى قيض لها أن تبعث من جديد، وأن تستوفي شرائطها ومعالمها. . وأن تأخذ فترة الحضانة الكافية لنضوجها، وأفاد الرجل من تجارب من سبقوه، ومن تاريخ القادة والمفكرين والزعماء. . الذين حملوا لواء دعوة الإسلام، ولم يقنع بأن يكون مثلهم. . ولكنه ذهب إلى آخر الشوط، فأراد أن يستمد من عمر وخالد وأبي بكر. فأخذ من أبي بكر السماحة ومن عمر التقشف. . ومن خالد عبقرية التنظيم.

وربط خصومه بينه وبين الأحداث العالمية، فأتهم في حادث اليمن، ونسب إليه شيء من جهاد إندونيسيا. وكان له أثره في حوادث فلسطين.

وكان له موقف إزاء معاهدة صدقي بيفن، وموقف عندما اتجهت مصر إلى مجلس الأمن. .

كان حسن البنا لا ينام إلا بضع ساعات. . ثم ينفق وقته كله ساعة ساعة، ولحظة لحظة. . في العمل المتصل، وكان عقله مثلا رائعا للإعداد والابتكار والإنشاء. . الذي لا يقف ولا ينقطع، فهو إذا أصبح الصباح يكون قد أعد قائمة بالأفراد الذين يهمه الاتصال بهم. . ويحظر إلى مكاتب العمل قبل الموظفين. . ويظل يتنقل بين المركز والجريدة. . والشباب والمنزل، وفي كل مرحلة يؤدي عملا والتليفون يلاحقه. . وفي خلال ذلك يتحدث مع الناس، ويستمع إليهم، ويخطب، ويقرأ الصحف، وتعرض عليه عشرات الأوراق التي تتطلب رأيه، والخطابات التي ترد من أنصاره العديدين، في مختلف أنحاء العالم، وهي غالبا ما تكون مشفوعة بشيكات أو حوالات مالية. .

. . لقد رأيته وهو يقرأ خطابا من شاب من أتباعه، قد أرفق به نصف راتبه الشهري. . . وفجأة، تساقطت دموعه على الخطاب فبللته. . ورأيته وهو يودع بعض أنصاره المسافرين إلى خارج مصر، وهو يرسل نظراته الحادة في وجوههم المشرقة المحتفرة. .

وكان هذا العمل المجهد يزيده قوة. .، وكان لقاء أتباعه الذين يردون من مختلف أنحاء القطر يملأ نفسه بالرضا، ويزيد عزيمته مضاء. . كان كل منهم، يحمل له أنباء جديدة، سارة، عن اتساع نطاق الدعوة وانضواء الشباب. .

وكان يوم الثلاثاء. . يوما مشهوداً يتجمع فيه بضع مئات من أنحاء القاهرة، ليستمعوا إلى هذا الرجل الذي يصعد المنصة في جلبابه الأبيض وعباءته البيضاء وعمامته الجميلة فيجيل النظر في الحاضرين لحظة. . بينما تنطلق الحناجر بالهتاف. .

. . ولا تدهشك خطابته بقدر ما يدهشك إجابته على القصاصات. . كان بعض هذه يتصل بشخصيته وحياته وأسرته.

وقد سئل مرة بعد أن ترك عمله في الحكومة ورفض مرتب الجريدة الضخم الذي كان يبلغ مائة جنيه: مم يأكل. . فقال في بساطة: كان محمد يأكل من مال خديجة وأنا آكل من مال (أخ) خديجة، يقصد صهره. .

وكان أعجب ما في الرجل صبره على الرحلات في الصعيد. . هذه الرحلات التي لا تبدأ إلا في فصل الصيف حيث تكون بلاد الوجه القبلي في حالة غليان. . وفي أحشائها يتنقل الرجل بالقطار والسيارة والدابة وفي القوارب وعلى الأقدام.

وهناك تراه، غاية في القوة واعتدال المزاج. . لا الشمس اللافحة، ولا متاعب الرحلة. . تؤثر فيه ولا هو يضيق بها. . تراه منطلقا كالسهم، منصوب القامة، يتحدث إلى من حوله، ويستمع، ويفصل في الأمور.

وقد أمدته هذه الرحلات، في خمسة عشر عاما، زار خلالها أكثر من ألفي قرية وزار كل قرية بضعة مرات، بفيض غزير من العلم والفهم للتاريخ القريب والبعيد، وللأسر والعائلات والبيوتات وأحداثها وأمجادها وما ارتفع منها وما انخفض. . . وألوانها السياسية وأثرها في قراها وبلادها ورضى الناس عنها أو بغضهم لها. . وما بين البلاد أفراداً وأحزابا وهيئات وطوائف من خلافات أو حزازات. . .

كان يزور أحيانا بلداً من البلاد بلغت فيها الخصومة بين عائلتين مبلغها، وكل عائلة تود أن تستأثر به لتنتصر على الأخرى، فيقصد إلى المسجد مباشرة، أو يغير طريق سفره فلا يستقبله أحد إلا بعد أن يكون قد قصد إلى دار عامل فقير في البلدة.

. . . وكنت إذا قلت له فلان. . الحسيني مثلا أو الحديدي أو الحمصاني قال لك. . إن هذا الاسم تحمله خمس أسر أو أربعة. . إحداهما في القاهرة والثانية في دمنهور والثالثة في الزقازيق. . والرابعة في. . . فأيها تقصد؟

وكانت هذه الزيارات المتوالية طوال هذه السنوات المتتالية، قد كونت له رأيا في الناس. . فقل أن تكون قرية في مصر لا يعرف الرجل شبابها وأعيانها ووزرائها ورجال الأحزاب والدين والمتصوفة فيها. . ولا يكون قد تحدث إليهم واستمع منهم. . وعرف آمالهم ورغباتهم، ومن هذه الأحاديث الواسعة المستفيضة كان الرجل يستكنه (الضمير) الشعبي المصري على صورة قل أن أتيحت لزعيم أو داعية من قبل، فإذا أضفت إلى هذا قراءاته الواسعة واطلاعه الضخم، والتهامه لكل ما كتب في العربية عن الشرق والغرب، ونظريات العلماء والفلاسفة، عجبت لهذه القوة الكبرى التي فقدها الشرق. . يوم غيب الثرى هذا الرجل. ولدهشت كيف يمكن أن يمكن أن يملأ هذا الفراغ أو يسد هذا النقص، وفي خلال هذه الزيارات. . كنت ترى الرجل بسيطا غاية البساطة، ينام في الأكواخ أحياناً، ويجلس على (المصاطب) ويأكل ما يقدم له. . لا يحرص إلا على شيء واحد، هو ألا يفهم الناس عنه أنه شيخ طريقة. . أو من الطامعين في المنفعة العاجلة. ولقد حدثني أنه كان يدخل بلدا من البلاد أحيانا لا يعرف فيه أحداً فيقصد إلى المسجد، فيصلي مع الناس، ثم يتحدث بعد الصلاة عن الإسلام. . وأحيانا ينصرف الناس عنه فينام على حصير المسجد وقد وضع حقيبته تحت رأسه. . والتف بعباءته.

ولا شك أن هذا الجهد الضخم، قد أتاح له أن يلتقي بعشرات الآلاف من الناس. . خصوما وأنصاراً، شيوخاً وشبانا، مثقفين وعوام. . وأنه قد استمع إليهم وقال لهم. . وأفاد منهم خبرة ضخمة واسعة، أضافها إلى علمه وثقافته.

وإنني على ثقة من أن حسن البنا رجل لا ضريب له في هذا العصر، وأنه قد مر في تاريخ مصر، مرور الطيف العابر. . الذي لا يتكرر. . ولقد طالما كان يردد كلمته المشهورة (الناس كإبل مائلة لا تجد فيها الراحة. .)

للبحث صلة

أنور الجندي