مجلة الرسالة/العدد 984/حسن البنا الرجل القرآني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 984/حسن البنا الرجل القرآني

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 05 - 1952


3 - حسن البنا الرجل القرآني

بقلم روبير جاكسون

للأستاذ أنور الجندي

. . . في الأزقة الضيقة، في أحشاء القاهرة، في حارة الروم، وسوق السلاح وعطفة نافع، وحارة الشماشرجي. . بدأ الرجل يعمل، وتجمع حوله نفر قليل؛ وكان حسن البنا الداعية الأول في الشرق، الذي قدم للناس برنامجا مدروسا كاملا، لم يفعل ذلك أحد قبله؛ لم يفعله جمال الدين ولا محمد عبده، ولم يفعله زعماء الأحزاب والجماعات التي لمعت أسماؤهم بعد الحرب العالمية الأولى. .

. . وأستطيع بناء على دراساتي الواسعة أن أقول إن حياة الرجل وتصرفاته كانت تطبيقا صادقا للمبادئ التي نادى بها.

وقد منحه (الإسلام) كما كان يفهمه، ويدعو إليه، حلة متألقة، قوية الأثر في النفوس، لم تتح لزعماء السياسة ولا لرجال الدين!

لم يكن من الذين يشترون النجاح بثمن بخس، ولو بجعل الواسطة مبررة للغاية، كما يفعل رجال السياسة، ولذلك كان طريقه مليئا بالأشواك، وكانت آية متاعبه أنه يعمل في مجرى تراكمت فيه الجنادل والصخور، وكان هذا مما يدعوه إلى أن يدفع أتباعه إلى التسامي ويدفعهم إلى التغلب على مغريات عصرهم، والاستعلاء على الشهوات التي ترتطم بسفن النجاة فتحول دون الوصول إلى البر.

كان يريد أن يصل إلى الحل الأمثل، مهما طال طريقه، ولذلك رفض المساومة، ولغي من برنامجه أنصاف الحلول، وداوم في إلحاح القول بأنه لا تجزئة في الحق المقدس في الحرية والوطنية والسيادة. . وكان هذا مما سبب له المتاعب والأذى.

واستدعى بعض من حوله الثمرة، وعجزت أعصابهم عن أن تقاوم البريق، فسقطوا في منتصف الطريق ومضى الركب خفيفا.

كان يؤمن بالواقعية ويفهم الأشياء على حقيقتها، مجردة من الأوهام، وكان يبدو - حين تلقاه - هادئا غاية الهدوء وفي قلبه مرجل يغلي، ولهيب يضطرم؛ فقد كان الرجل غيورا على الوطن الإسلامي، يتحرق كلما سمع بأن جزءاً منه قد أصابه سوء أو ألم به أذى، ولكنه لم يكن يصرف غضبته - كبعض الزعماء - في مصارف الكلام أو الضجيج أو الصياح، ولا ينفس على نفسه بالأوهام، وإنما يوجه هذه الطاقة القوية إلى العمل والإنشاء والاستعداد لليوم الذي يمكن أن تتحقق فيه آمال الشعوب.

وكان في عقله مرونة، وفي تفكيره تحرر، وفي روحه إشراق، وفي أعماقه إيمان قوي جارف.

وكان متواضعا تواضع من يعرف قدره، متفائلا، عف اللسان، عف القلم، يجل نفسه عن أن يجري مجرى أصحاب الألسنة الحداد.

كان مذهبه السياسي أن يرد مادة الأخلاق إلى صميم السياسة بعد أن نزعت منها؛ بعد أن قيل إن السياسة والأخلاق لا يجتمعان.

وكان يريد أن يكذب قول تليران (إن اللغة لا تستخدم إلا لإخفاء آرائنا الحقيقية) فقد كان ينكر أن يضلل السياسي سامعيه أو أتباعه، أو أمته.

وكان يعمل على أن يسمو بالجماهير، ورجل الشارع، فوق خداع السياسة، وتضليل رجال الأحزاب.

ولأول مرة خاطب الجماهير زعيم بما يفتح العيون على الحقائق، ووضع دعوته على المشرحة، وقبل أن يسأل عن أدق الأشياء فيها وفي حياته الخاصة، فقد كانت توجه إليه عقب (أحاديث) الثلاثاء قصاصات، فيها أسئلة غاية في الإحراج، ولكنه كان يجيب عنها في منتهى البساطة والوضوح.

وكأنما أراد أن ينشئ للشرق روحا جديدة من المثل العليا، هذه المادة الضائعة، التي هزم بها الشرق الدنيا وفتح باب أطراف الأرض، كان يريد أن ينشئ القوة التي تصمد في وجه الخطرين الداهمين اللذين يهددان العالم وهما: الإلحاد والاستعباد.

كان يريد أن يجعل من الإسلام قوة تدفع الشيوعية الضالة، والرأسمالية الزائغة، وكان يطمع في أن يرفع الإسلام ويسمو به عن أن يكون خادما للاستعمار باسم الديمقراطية، أو للشيوعية باسم الاشتراكية، وإنما كان يرى الإسلام نظاما كاملا فوق الشيوعية والديكتاتورية والرأسمالية جميعا.

وقد استطاع الرجل - برغم كل ما دبر لوضع حد لدعوته أو حياته - أن يعمل، وأن يضع في الأرض البذرة الجديدة، بذرة المصحف، البذرة التي لا تموت بعد أن ذوت شجرتها القديمة، ولم يمت الرجل إلا بعد أن ارتفعت الشجرة في الفضاء واستقرت.

ولن يستطيع مصلح من بعد، أن ينكر أن الرجل رفع من طريقه الكثير من العقبات والأشواك والصخور.

وكل حركة إصلاحية أو استقلالية تظهر في الشرق من بعد، سواء في مصر أو في المغرب أو في إندونيسيا، يجب أن يلحظ فيها ذلك الخيط الدقيق الذي يربطها بالرجل القرآني، الذي حمل المصحف ووقف به في طريق رجال الفكر الحديث الذين كانوا يسخرون من ثلاث كلمات: (شرق، وإسلام، وقرآن).

كان الرجل يريد أن يقول آن للشرق أن يمحص أفكار الغرب قبل أن يعتنقها، بعد أن غدت الحضارة في نظر أصحابها لا توفي بما يطلب منها، كان يقول علينا أن نوزن هذه القيم، وأن نثق بأنفسنا، وأن نعتقد أن ما عندنا لا يقل عما عند الغرب أو على الأقل لا يستحق الإهمال.

وأن على الشرق أن ينشئ للدنيا حضارة جديدة، تكون أصلح من حضارة الغرب، قوامها امتزاج الروح بالمادة واتصال السماء بالأرض.

وما كنت تعرض لأمر من أمور الحضارة الغربية، إلا رده إلى مصادره الأولى في الحضارة الإسلامية، أو في القرآن والسنة والتاريخ.

كان الرجل القرآني يؤمن بأن الإسلام قوة نفسية قائمة في ضمير الشرق، وأنها تستطيع أن تمده بالحيوية التي تمكن له في الأرض وتتيح له الزحف إلى قواعده واستخلاص حقوقه وحرياته.

كان يؤمن بأن الشرق وحدة قائمة كاملة، لو تخلص من مناورات الساسة ومن خلاف الطامعين، لقاوم وصارع.

للبحث صلة

أنور الجندي