مجلة الرسالة/العدد 983/شخصية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 983/شخصية

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1952



للأستاذ حبيب الزحلاوي

يلتزم أكثر الناس، أثناء أحاديثهم، كلمة واحدة أو جملة تجري على ألسنتهم مجرى العادة فتسمى لازمة، وهذه اللازمة إما أن تكون خفيفة تنساب مع الحديث انسياب الكلمة الحشو في بيت من الشعر لا يلتفت إليها سوى الذواقة العارف بفنون القريض، أو تقع في غير موقعها فتصك السمع، وقل من الناس من سلم حديثة من لازمة واحدة أو أكثر

من هؤلاء (الالتزامين) صديق يختلف في لازمته عن جميع الناس لأنه شاعر، والمفروض في الشعراء أن تكون لازمتهم شعرية ذات معنى ورمز وجرس. لذلك نرى شاعرنا هذا يلتزم بيتاً واحداً من لامية أبن الوردي المشهورة يردده في كل مناسبة على خلاف الشعراء الذين يفترصون كل فرصة للاستشهاد ببيت لشاعر قديم أو مخضرم أو حديث يناسب الموضوع يدللون به على قوة حافظتهم، ومضاء ذاكرتهم، وسعة اطلاعهم، أما التزام هذا الشاعر بيتاً واحداً لا يتبدل، فله دلالة نفسية سينقشع عنها اللثام خلال الحديث.

ومن الظريف في شاعرنا أنه يبدأ في إنشاد الصدر من البيت: (لا تقل أصلي وفصلي أبداً) ويسكت هنيهة كأنه يحرض ذهن السامع على إتمامه، ولويل لمن يتلكأ في رد الصدر على العجز فيقول: (إنما أصل الفتى ما قد حصل) لأنه سيكون حتماً من البلداء

طاب لأحد الظرفاء من أصحاب الشاعر، وكنا نسميه (شاعر العرب والإسلام) أو (حصان الثورة) أن يكنيه كنية تطابق لازمته الوردية فكناه (حصل أفندي). ومن عجب أن فاض أسم الشاعر بنعوته واندثر، وانتشرت الكنية المستحدثة وذاع اللقب الجديد بين جميع المشتغلين بالقضية العربية من ساسة وثوار

شخصية (حصل أفندي) كما أراها اليوم، فريدة في بابها بل هو قريع دهره وواحد هذا العصر، يجمع بين جميع الصفات والمزايا، والغرائز والملكات وأضدادها كلها ولكن كفته إلى اليسار هي الراجحة دائماَ!

ترى البشاشة في محياة يعلوها إلا كفهرار والتجهم، إن هش ورحب بدأ نابه وظفره، وإن نظر وحدق اختلطت عليك معاني تلك النظرات ووجب عليك الاستعاذة بمن لا يستعاذ بسواه على أصحاب النظرة المختلطة. يصاحب كل الناس وفي صدره جمرة من كل الناس. مودته مدخولة، ظاهر الملق، مما حل مداور مخادع، يوهمك أنه يخزى، ولنه في الحقيقة لا يندى له الجبين، ولا يحمر له خد أو أذن، يلبس ثياب التقوى ومسموح الزهد، ولا يتورع من اقتحام بيوت الدنس واقتراف الإثم والرذيلة، يحلل المحرمات سراَ، ويتزندق ليقال أنه من زهرة أبناء العصر الحديث

يتحاكم كطفل، ويتواضع باستكانة، ويتعالى بحمق، ويتظرف بسماجة؛ ولنه داهية داهية، ولئيم لئيم

تراه في كل نادِِ ومجتمع وحزب، في الأفراح والمآتم، بصفق للخير ويطرب للشر، يغفر فاه لكل طعام من كل مائدة، ويكرع ما يتبقى في الأكواب، ولسانه كأضراسه لا يفتر عن اللوك والطحن والمضغ والبتلاع.

قد لا تعلم، مهما أوتيت من ذكاء وقوة استلماح، متى يتجافى الحق، ولا كيف يرتجل الزور. تعجزك ملامحه، وتخونك فراستك في وجهه الكثير القسمات الناتئة، والأخاديد الفائرة، وفي غموض في سحنته ومات لونها، وهو قدير على إدماج الجد بالهزل، والمزاج بالرصانة

يتغابى كأخرق، ويتبالد كأنه أعمى البصيرة، لا يتكدر ولا يغضب، ولا يرتج علية الكلام لأنه ذكي لامع الذكاء. وهو في مجمله خلط ملط كما يقول أصحاب الأمثال

يوهمك أنه كتوم للسر، صائن للخير، ولنه عقرب وشابة، وأفعوان سعاية، رسول سوء وفساد، وزارع عداوات وبغضاء

قلت أن شخصية (حصل أفندي) تجمع بين جميع الخلائق وأضدادها، وإليك لوجه المقابل للوجه الأول

عرفناه - منذ عرفناه - أنه من خاصة أوائل الرجال الذين بذروا بذرة الوطنية في صدور الأمة التي استكانت دهراً طويلاً لحكم الأتراك، وفي مقدمة الرجال العاملين في الأحزاب العربية التي كانت تضمهم غاية واحدة، وأن تظاهرهم آنذاك بالتفرق والتحزب والتشيع، يعمل هذا الحزب مع الفرنسيين، وذاك مع الألمان أو الإنجليز، لم يكن سوى خدعة ووسيلة للاستعانة بهؤلاء الأقوياء على الخلاص من حكم الأتراك الأقوياء الأشرار، ولكن غايتهم ومرمى سعيهم كان منصباً على نيل الاستقلال، وإعادة تأليف دولة عربية إسلامية تسير في مواكب الحياة مع الشعوب الحرة

ثم عرفناه يحار ب بقلمه السيال، ولسانه الطلق، وبيانه الواضح في كل ميدان من ميادين استنهاض الهمم، ونفض غبار الخمول، واستثارة النفوس، وإذكاء لنخوة العربية

ثم رأيناه يحبس لسانه عن الخطابة، وقلمه عن الكتابة، وقد استبدل بهما بندقية وراح مع الثوار في ميادين الحماة، وجبال حوران، ومع أشاوس الدروز وأبطال منطقة الفوطة يقتنص ضباط جيوش المحتلين، ولم يرم جندياَ من الجنود المرتزقة أو من أبناء المستعمرات إلا فيما ندر.

لقد كانت له مواقع مشهورة، وحكايات في البطولة، ومعلقات في المغامرات، وكان برغم نشاطه العجيب، ونفسه الغدارة، لا يختلف عن المجالس الساسة، ولا يني عن درس أمور الوطن وتطوراته، وإبداء الآراء السديدة، ووضع رسوم الخطط مع الزعماء، غير أنه لما انطفأت نيران الثورة الكبرى التي تأججت سنة 1925 من جراء اختصام الزعماء على الرياسة واقتتالهم على المال الذي تبرع به كرام المصريين والأسخياء من أبناء سورية ولبنان في المهجر إعانة لثوار، تحولت فوهات بنادق بعضهم إلى بعضهم الآخر بعد أن كان ت مسددة إلى صدور الأعداء. . أقول ما كادت تنطفئ نيران الثرة وتتفرق جماعات لثوار حتى انكفأ الزعماء والقادة متخاذلين، منهم من يمم دمشق في أعناقهم محارم الاستسلام للغاصب المحتل، ومنهم من لاذ بمصر موئل الأحرار وحصن المجاهدين، يضمدون جراحهم، ويلمون شبعهم، ويوحدون صفوفهم، ويوفقون بين أحزابهم التي كانت في الأصل حزباً واحداً، يستأنفون جهادهم. ومن عجب أن (حصل أفندي) لم يكن مع الجماعة التي لاذت بمصر. بل راح مع من راحوا إلى دمشق يجرع ذل الاحتلال ويغب من صلف الفرنسيين أتراك الغرب

التأمت جراحات العرب الأحرار اللائذين بمصر فعاد إليهم نشاطهم، وتوفزت حيويتهم، وعلا صوتهم يدوي في المجامع والصحف، وما عتم أن أرهف العالم أذنه من جديد يسمع شكاوى هذا الشعب العربي العحيب المتوافرة فيه خصائص العظمة والسؤدد من ناحية؛ وعناصر الاستسلام والخضوع للأمر الواقع من ناحية أخرى. شكاوى فيها ترانيم للحياة، وأناشيد للحرية، وطالبة بالحق المغتصب، وزغردة للثورة، وتهديد بغسل وتطهير الأمة التي تلوثت بالاحتلال بدماء المحتلين، ومن عجب، بل من سخرية القدر أننا كنا نسمع أصواتاً منبعثة من دمشق بتعب أصحابها كغراب البين يندبون العرب والعروبة. يلتصقون بهم ما هم منه براء، وينادون بالاستسلام للأمر الواقع، والطاعة الشرعية لولى الأمر والخضوع له وإن كان دخيلاً. وقد صار لزاماً على الأحرار المقيمين بمصر أن يحاربوا في ميدانين، ويقاتلوا عدوين، الأول مغتصب عات هو الفرنسي المستمر، والثاني سوري من أبناء الوطن ضالع مع المحتل الذي أفسد الأخلاق والضمائر، وأستبعد الأقلام والألسنة بالمال والشهوات.

في هذه الفترة من القلق والاضطراب، في هذه الآونة الحرجة في حياة أمة رامت النجاة من براثن الذئب فوقعت في مخالب لبؤة جائعة جشعة، في هذه الحقبة التي هي في حكم الضائع من أعمار الأمم، في هذه الفترة برز شخص (حصل أفندي) في مصر كنيته شيطان أو كفطر شق أرضاً رواها الندى ودفعها التعفن!!!

ومن عجب أن الذهن الشامي المفطور على الذكاء اللامع والسذاجة الصافية، أنطمس ذكاؤه وانطفأ نوره وبدت فيه السذاجة بأجلى مظاهرها فرحب بـ (حصل أفندي) (الذي كان ضالاَ فوجد) وغفل أو نسى أنه تخلف عمداً عن ركب أقرانه الأحرار وقد يمم الشام وفي عنقه منديل الاستسلام والعبودية

بل الأعجب والأنقى أن جميع أبواب السياسة فتحت له، وأن أكثر طوايا الصدور نشرت له بغير ما ظن أو شك أو توجس

لقد كنت واحداَ من أولئك الذين خدعتهم أعذار ذلك الداهية اللسن، وانطلت عليه تلفيقا ته البارعة وتمويهه المتقن. . . لقد خفيت حقيقة (حصل أفندي) عن جميع إخوانه وأصدقائه، وأخذ كل منهم ينظر إلى الآخر نظرة فيها معاني النفر المستترة، والصمت على مضض، وما لبثا أن أصبح كل منا يتجنب أصدقاءه الذين وحد بينهم الاعتقال وميادين القتال، وتدبير المؤامرات، ووحدة الغاية الوطنية.

في صدر كل منا حفيظة، وتوجس، وخوف لا شك أن هناك شيطاناً يوسوس، ولأفعى تنفث سمها، وامرأة خداعه! ولكن أين هي المرأة والحية والشيطان؟ وراء أي ناع وتحت أي طلسان أو عمامة يستترون؟ مقتلة المحتلين واجب وطني وشرع مقدس، ومحاربة المواطنين الذين خنعوا للأمر الواقع ونكصوا عن الجهاد في سبيل الحرية ليست بالحرب الشعواء، ولكن حرب الشيطان، حرب الطابور الخامس، حرب دود الخل، حرب قتل المعنويات بعقاقير محلية، حرب صدم شعور الشباب بنصائح شيوخ رحماء) إنما هي حرب أكثر فتكا من القنابل الذرية، وأشد وبالاً من الجراثيم لأنها تصيب النفوس فترديها، وتفتك بالأرواح فتميتها.

البقية في العدد القادم

حبيب زحلاوي