مجلة الرسالة/العدد 983/حسن البنا الرجل القرآني
مجلة الرسالة/العدد 983/حسن البنا الرجل القرآني
2 - حسن البنا الرجل القرآني
للأستاذ أتنور الجندي
هذه (حلقة) أخرى من تلك (الخطوط) التي دونها (روبي اكسون) في مذكراته واطلع عليها (صديقي) الذي يطلب العلم في (واشنطن). . والتي ينوي الكاتب الأمريكي تضمينها في رسالة له عن (الرائد الأول للإخوان المسلمين) أ. ج
. . . . انتهت الحرب، وقد تجمعت للرجل قوة، تجعله قادراً على أن يملي رأيه على كل حاكم. . ومن هنا بدا الخطر
خطر الرجل الفرد الأعزل، الذي يعيش في بيت صغير، ولا يملك إلا مرتباً ضئيلاً، والذي جرد نفسه لفكرته، وسحق مغريات الدنيا فلم تعد تقف أمام إيمانه، وهزأ بكل وسائل الأغراء، وأسبابه، حتى شهد المراقبون أن ليس وراء فكرته امرأة ولا هوى!
وكان مؤرخو الشرق يتنبئون للشرق برجل يجتمع حوله. . وكانوا يقولون أنه لو وجده لقامت الكتلة الإسلامية، ولتحرر الشرق. .
وكان زعماء الغرب يخشون أن يكون قد وجد هذا الرحل فعلاً. . قالوها لأول مرة، بعد أن ثبت لهم أن (حسن البنا) لا تؤثر فيه المغريات، وأنه لا يخضع ولا يحنى رأسه. .
وجاءت حرب فلسطين، فأعطتهم تلك الصورة المزعجة الخارقة، صورة الفدائية الإسلامية على شكل لم يعهد بعد بدر والقادسية وأجنادين. . .
وعجب الغرب كيف يمكن أن تقوم في الشرق (فئة) تقدم نفسها للموت على هذه الصورة العجيبة.
وكان جهاد الإخوان فيها آية الآيات. . . فقد يهروا كل من اتصل بهم. . ووقف الخصوم يقارنون. . . ويرسمون الخطط لمستقبل الشرق على ضوء هذه القوة الخارقة.
واخذوا يتربصون الدوائر. . ولم يتأخر عنهم القدر، فقد كان في صفهم هذه المرة. . . وسرعان ما أعطاهم (محفظة) سيارة الجيب
وتجمعت القوى الحاقدة، والمغلوبة، وترابطت الأهواء بالمطامع. . في محيط الأحزاب والجماعات. . . وأثير الغبار الكثيف. . وأعلنت الاتهامات والإرهاصات، على أوسع نط ووقف الرجل وسط النيران. . وقد خيل إليه أنه يستطيع أن يعمل شيئا وجرت معه اتصالات، متعددة، كان لها أثرها. .
وشاهد الرجل في أيامه الأخيرة، هذا البناء الضخم، وهو ينهار حجراً حجراً. . ينهار في عالم المادة، ويزداد قوة في عالم الروح. .
. . وقد أمد إيمان الرجل بفكرته، أنصاره بالقوة على احتمال كل ما أريد بهم، أمدها لأن تحتمل التعذيب الذي لقيه بل وخباب وعمار
أي إنسان كان هذا الرجل الذي صنع هذه النفوس المؤمنة الخالصة القوية الإيمان، التي احتملت هذا العذاب في صبر وثبات. . .
لقد جاء حسن البنا إجابة طبيعية لقول (غلادستون) حينما وقف في مجلس العموم البريطاني وهو يحمل (المصحف) ويقول: (مادام هذا الكتاب باقيا في الأرض فلا أمل لنا في إخضاع المسلمين)
ودهش الناس يومئذ! ماذا يقصد (غلادستون)
كان الناس في الشرق قد طوتهم ظلامات القرون. وأفسدت عقائدهم، أقوال العلماء من صنائع السلطان، الذين أغلقوا
باب الاجتهاد، وأفتوا لصالح الحاكم الظالم. . فلم يكونوا يفهمون من القرآن إلا أنه كتاب الله. . يقرءونه على القبور وفي الصلاة. .
حتى جاء حسن البنا، على اثر نداء غلادستون، ليقول للناس، إن خطر هذا الكتاب الذي يخشاه المستعمرون، ليس لأنه آيات تقرأ في الصلاة أو ترددها الشفاه، وإنما لأنه كتاب تشريع وقيادة، وإمامة وحكم
وإنما يخشى الغرب روح الإسلام التي لو تبدت، دبت اليقظة في أوصاله فأفسدت ذلك على المستعمرين أغراضهم. . وقامت في الشرق أمة تحب الموت في سبيل الحرية والكرامة والعزة. .
وكان حسن البنا هو الرجل الذي أخرجه التاريخ ليكتب هذه الصفحة الجديدة في تاريخ الشرق الحديث
ولذلك نظروا أبنا منذ اليوم الأول نظرة الترقب والتوجس والخوف، وحاولوا أن المر سيكون اخطر مما يتصورون، وأن الشرق مقبل على فجر (صادق) يطوى الاستعمار طيا وأصروا على أن يطول الليل. . وان يذهب الفجر. . ولا يعود. . ترى هل استطاعوا؟
وقف الغرب يرقب في لهفة، ذلك الرجل الذي جاء ليجدد (دعوة) محمد بن عبد الله. ومضى يسير على نهجه في بساطة وأناة. . لا يسبق الحوادث، ولا يصدم نواميس الكون
الرجل الذي كان يعلم أن مهمته ضخمة. . وأنها أكبر من جهد الفرد. . ولكنه كان قوى العزيمة إلى الحد الذي يضفي الثقة على النفس. . فآمن بأنه سيصل
ومضى يعمل ويسهر ويكد ويجهد. . يقابل الناس، ويتحدث إليهم. . ويخطب فيهم. . ويكتب لهم
ومضى ينفق من صحته ومن أعصابه، حتى كان اليوم والليلة يضيقان بما يريد. . ومع هذا ظلت أعصابه قوية. . وكان يزداد مع الأيام تألقاً
لم يمرض يوماً، ولم ينم في فراش. . كأنما كان جسده محصن ضد المرض، وكان كثير الأسفار لا تجهده. . بل كان لقاءه لأعوانه، في كل مكان، يزيد روحه قوة، ويفيض على نفسه حماسة وإشراقاً
وكان موفقاً لا تقف عقبة في طريقة مهما عظمت
وكان لبقاً، فلم يلتق بإنسان مهما كان كبير، إلا استطاع أن يغلبه ويقنعه ويضفي عليه شعاعاً من روحه الوهاج
ولو كان في مصر يوم بدأت الأحداث لتلافاها، ولا استطاع أن يطفئ النار بل أن يزداد لهيبها. .
وعندما وقعت القرعة انصرف عن الرجل بعض الذين كانوا يلقونه من قبل بالإكبار من ذوى الرأي. . ودخلوا جحوره، وخشى كل منهم أن قف في وجه الطوفان الذي كانت تدفعه يده. . بل إن بعضهم انضم إلى خصومه ودارى معرفته السابقة له، بحرب عوان. .
. . توارى الذين كانوا يحرصون على أن يكسبوه أو يفيدوا منه. . وهذا شأن الشرق، يحنى رأسه للرجل الذي يتألق، فإذا انصرف عنه الجاه العريض، شيعه الناس بالسخرية والاستخفاف. . .
والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي. . ولأم المخطئ الهبل الكلام صلة
أنور الجندي